بيروت-“القدس العربي”: تقول الأسطورة أن المخاض جاء فينوس على شواطئ بيروت، نزلت قريباً من صخرة الروشة لتضع ابنتها وسمتها “بيرويه” أي بيروت. هذا المكان يعرفه أهل بيروت منذ أجيال بـ”الدالية” على شاطئه الصخري يتسبحون، وعلى أرضه يتسامرون ويلهون كباراً وصغاراً. منهم من يمارس هواية صيد السمك، ومنهم من تشكل باب رزقهم، حيث لهم “مينا” خاص، أثري وجميل. وكل من يعرف المكان يقصده مع بداية كل ربيع في 21 آذار/مارس من كل عام، فهو يحتضن المحتفلين بعيد النيروز بكل تقاليده الجميلة. سنة 2014 تفاجأ من يرتاد كورنيش الروشة بورشة تزنّر المكان بالشريط الشائك وتمنعه عن الناس، وبشاحنات تنقل بلوكات الباطون الجاهز إلى أرض الدالية. هبّت جمعيات أهلية وبيئية لتدافع عن متنفس وحيد لسكان العاصمة. بحثوا واستفسروا عن من قرر مصادرة آخر إطلالة لهم على البحر. وكان الجواب أن هذه الأرض اشتراها الرئيس سعد رفيق الحريري ويرغب في بناء منتجع سياحي فوقها. وكان السؤال الكبير من يحق له بيع الأملاك العامة البحرية؟ ومن يتجرأ على شرائها؟
تنامت حركة الرفض الشعبية بوجه مشروع يمحو ما تبقى من ذاكرة بيروت. رفض بلغ مسامع المهندس الهولندي ريم كولاس والذي كان سيتولى تشييد المشروع المدمر، فأعتذر. بدورها شددت الجمعيات البيئية والأهلية من ضغوطها فتوقف المشروع، وأنتصرت الدالية وما تبقى من حرمة لتاريخ بيروت.
“الدالية” بكل ما تكتنزه من جمال بيئي وتنوع، صورتها هدى قساطلي بعين تحترف لعبة الضوء، وشكلت المعرض الأول من بين خمسة ستشملها سنة تحمل اسمها في كاليري أليس مغبغب في الأشرفية. فقساطلي ومغبغب معنيتان بالحفاظ على ما تبقى من ذاكرة وطن نهشته مشاريع عمرانية لا قلب لها ولا هوية، هدفها الربح ولا شيء سواه. معرض بهي أخضر مزدهر نقل إلى جدران الكاليري تفاصيل رائعة إلتقطتها عدسة قساطلي الدقيقة. إنه لقاء الخضرة والماء والصخور.
تتضمن سنة هدى قساطلي خمسة معارض وتجمع 365 صورة، البداية مع الدالية. ومن ثم “مخيمات اللاجئين وعبء عدم الاستقرار”. ثالثاً “طرابلس الشرق العاصمة الجامعة” وفيه ضوء على الراوئع المعمارية والحرفية لهذه المدينة. والمعرض الرابع “أشجار مقدسة أشجار منتهكة” وفيه ضوء على الثروات البيئية في المناطق اللبنانية النائية. والختام مع معرض “بيروت أيقونات الغياب”.
لصورة هدى قساطلي الفوتوغرافية ميزة التجرد من أي مسحة اصطناعية. كما أنها صورة تنطق وتغتني بالضوء الطبيعي الذي يصون البعد الإنساني لموضوع الصورة مهما كان نوعها.
مع هدى قساطلي هذا الحوار:
*إنها سنة هدى قساطلي في كاليري أليس مغبغب وتزامناً مع مئوية لبنان الكبير. هل كان المواطنون والمسؤولون المتعاقبون أمناء على ذاكرة الوطن؟
**لم نحمه ولم نكن أمناء مطلقاً. إختارت أليس مغبغب أن تتزامن المعارض الخمسة مع مئوية لبنان الكبير، والدالية أولاً، لأنها المرة الأولى التي ينتصر فيها المواطنون على مشاريع تهدف لتدمير ذاكرتهم ووطنهم. لن أعود إلى مئة سنة من تاريخ لبنان، إنما وعلى مدى الخمسين سنة الماضية فإن الإرث الثقافي والمعماري الذي تمّ محوه مريع. بدأت توثيق ذاكرة بيروت عبر الصورة منذ سنة 1978 ولم أتخيل سيناريو أسوأ مما نحن عليه في محو المدينة. لقد وقعت منازل تراثية بالجملة في بيروت وبطريقة مقصودة.
*كنت شابة جداً حين بدأت تصوير بيروت فما هي الحوافز التي شجعتك لتوثيق التراث المعماري؟
**بدأت التصوير كهواية، وحين سافرت إلى فرنسا في الثمانينيات وزرت مركز جورج بومبيدو الذي يهتم بشراء صور من مختلف بلدان العالم، قدمت لهم مجموعة صور من لبنان ولم أكن أحلم باهتمامهم. وعندما اتصلوا بي للقول سنشتري كافة الصور أصبت بصدمة. وعندما زرتهم ثانية كان ردهم إنها المرة الأولى التي يتلقّون فيها صوراً من لبنان لا تنقل الحرب، بل حياة الناس الشعبية من بائع ترمس، إلى تحضير الصعتر والبرغل في الجنوب، إلى جانب فنون المعمار. بالطبع هذا الحدث في حياتي قال لي ربما أني أقدم صوراً لا يقدمها غيري من محترفي التصوير.
*وماذا وثقت عدستك من بيروت البلد التي تمّ محوها بفعل من شركة سوليدير؟
**مُنِعت من دخول وسط البلد لأن سوليدير وضعت اليد عليها. كما أنني رفضت العمل مع هذه الشركة عندما طلب مني مهندس بريطاني، لكنني تمكنت من توثيق أطراف المدينة والتي أبيد الكثير من مبانيها لاحقاً. صورتي لا تهدف التوثيق وحده بل تركز على الجمال الذي يعكسه الضوء. لقد نجحت في إثارة مشاعر المتابعين لصوري، خاصة عندما يجدون إلفة كبيرة مع صور بعينها.
*ماذا عن علاقتك الشفّافة بالضوء؟
**أقصد المكان الذي أرغب في تصويره مرات متعددة بحثاً عن ضوء متكامل. أبحث عن الضوء الأفضل وفي ساعات متنوعة بين الصباح والظهر والعصر. وصولي إلى المكان في الساعة المناسبة يسبقه تحضير وجهد كبير. أذكر على سبيل المثال أنني خضت صراعاً طويلاً في بحثي عن الضوء المناسب لتصوير مبنى تراثي ولم أنجح قبل أن يلحقه التدمير. وهذا المبنى كان في مار نقولا في منطقة الأشرفية.
*بخلاف هذا المبنى الذي دُمّر قبل تصويره هل وثقت عدستك غيره من الأحياء التي أبيدت؟
**نصحني صديق للمسارعة بإلتقاط أكبر قدر ممكن من الصور لوادي أبو جميل قبل القضاء عليه. للأسف لم أكن أملك المال اللازم. مع العلم أنني وطوال فترة عملي لم أخذ تمويلاً من أفراد أو هيئات.
*تخوضين نضالاً طويلاً بمواجهة تدمير الذاكرة والأمكنة. هل الخصم إن صحّ التعبير أو آلة التدمير معروفة وواضحة؟
**لا شك معروفة بدءاً من الدولة التي تنحت عن مهماتها، والأغنياء أو المتمولين الذين يفكرون بالإستثمار بحيث يهدم بناء جميل لصالح برج كبير. كذلك المشكلة مع الطبقة المتوسطة التي تمتلك تلك الأبينة بالوراثة ولا تملك المال لترميمها، ولم تلق مساعدة ولا حلاً. وهؤلاء ليسوا أعداء أو خصوماً بل أتفهمهم. مع بدء عمل شركة سوليدير تداعى مهندسون من لبنان وفرنسا لعقد مؤتمر يظهر مدى تأثير مخططها على البنية الاجتماعية والاقتصادية لقلب العاصمة المعروف بالبلد. حينها اتصلوا بي للتعاون. كان رأيي في تلك المرحلة أنه علينا التوجه نحو الناس الذين يملكون المنازل المحيطة بالمنطقة التي تمّ الاتفاق على تسميتها سوليدير، بهدف توعيتهم ودعمهم مادياً ليحافظوا على أملاكهم. وبعد الاستماع إلى رأي هذا لم أعد أتلقى أي دعوة منهم بل هم أهملوا وجودي. صحيح سوليدير هي العدو وكذلك الطبقة الفاسدة، وإلى جانبهم هؤلاء الناس البسطاء والذين يتحملون جزءاً من المسؤولية، وإلى جانب كل هذه الأفعال بحق إرثنا المعماري يحاول بعضهم حجب الحقيقة عندما يُهدم بناء بكامله ويترك السور الأمامي، أو تترك شرفة ما، ليقول بأنه معني بهذا الإرث.
*في رأيك كيف تكاملت الصفقة بين من خاضوا الحرب ودمروا وسط بيروت وبين من أوهمونا بالإعمار؟
**في رأيي كان دمار ما بعد الحرب أشد أثراً على المدينة، وهذا قائم ومثبت مئة في المئة فيما خص إرثنا المعماري. ما بعد الحرب واجهنا دماراً شاملاً لا بل مسحاً للذاكرة والهوية والانتماء. نسبة لا بأس بها من السكّان تمّ إبعادها قسراً عن أماكنها المعهودة على مدى سنين طويلة. أقصي هؤلاء السكان إلى مطارح لا هوية ولا طابع لها، ليست مدينة وليست قرية. هؤلاء الناس المقصيون يعيشون ألماً نتيجة إبعادهم عن حياة اجتماعية وإنسانية اعتادوا عليها، وهذا الألم لا يذكره أحدهم.
*جهدك للحفاظ على الموروث قديم العهد فهل بتِّ على دراية بمن هم حلفاؤك في نشاطك هذا؟
**المفرح أن الجيل الناشئ يعي أهمية بذل الجهود للحفاظ على ما تبقى من إرث معماري وبيئي رغم قدراته المحدودة. ومن خلال تجربتي بالعمل على المنازل الطينية في البقاع ففي البدء كان المتحمسون قلة قليلة، حالياً في كل ورشة يتقدم حوالي 20 طالباً للعمل والمساعدة، ولا يأتون على سبيل التسلية بالتراب، بل يكررون حضورهم وبحيوية. حتى أن أساتذة هؤلاء الطلاب يدعونني لتنظيم ورش متتالية لهم. تسألين من هم الحلفاء أقول إنهم هؤلاء الأساتذة الجامعيون المهتمون بالذاكرة والهوية، وليس لهم صلة بالتجارة والإستثمار.
*كيف تتأكدين بأن معرضاً ما ترك اثراً على أفكار الناس وقناعاتهم؟
**عند افتتاح معرض الدالية عُقدت ندوة حول هذا الموضوع، كان النقاش مثمرا وغنيا، واستمر إلى ما بعد الندوة. وقد شكلت تلك الندوة فرصة للتحدث من الصور التي ضمها المعرض عن التراث.
*تختارين مشهداً وتنقلين صورته هل لعين الكاميرا أن تقاوم مخرز الشركات التجارية؟
**بكل صراحة ليس لدي أمل، فقط الأمل ببث التوعية لدى الجيل الجديد.
*تهتمين كذلك ببؤس مخيمات اللاجئين الفلسطينيين وكذلك النازحين السوريين، كيف الجمع بينهم وبين الهوية والموروث؟
**في عملي الأكاديمي أتوجه نحو اللاجئين وأزورهم في أماكنهم وألمس كم يتّم تهميش ثقافتهم. ننظر إلى اللاجئين كمشكلة بشرية بعيداً عن كونهم يمثلون الذاكرة والهوية والتراث للأماكن التي طردوا منها أو نزحوا عنها. نرى مخيمات السوريين من الخارج قماش وتنك وبلاستك، لكنهم من الداخل سعوا جاهدين لوضع لمسات بالمتوفر لديهم تذكرهم بمنازلهم وبيئتهم. نلمس هذا لدى السوريين بخلاف اللاجئين الفلسطينيين، ولهذا أخشى من اندثار بعض ذاكرتهم وهويتهم نتيجة التعب والفقر واليأس.
*أخيراً لماذا كتابك الجديد بالعربية والفرنسية “من تراب ومن أيادي البشر، بناء بيت سوري ذات قبب”؟
**أعمل مع جمعية “آركانسيال”. وفي لبنان الصغير المساحة تنوع هندسي معماري كبير، أردنا إحياء هذا التراث بدءاً من البقاع. المنازل المبنية من اللِّبن والتراب كانت هدفنا خاصة وأنها دخلت مرحلة الإندثار. وللأسف من كان يمتلك بيتاً من لِبن وتراب كانت النظرة إليه كفقير مُعدم لأنه يعيش في هذا البيت. مشروعنا الأول في تعنايل تمثل ببناء مجموعة منازل من لِبن يمكنها أن تستقبل ضيوفاً على مدار العام، ومن ثم بنينا خاناً. وهذا المشروع تديره آركانسيال. وهناك أيضاً كان لنا “كيوسك الموسيقى” الذي تمثل محلياً بعبد الله داغر والمعماريين المعروفين عالمياً مارك إلد وجيل بيرودان. وبالتزامن تهدف آركانسيال تدريب الطلاب ليتابعوا المسيرة فيما بعد. وهكذا بدأ بيت اللِبن يأخذ مكانه بين الناس، ومن كان يخجل من هذا النوع من المنازل بات يفاخر بأن جده كان يمتلك مثله، لقد انكسر التابو. وهكذا تشجع من لديه بيت من لِبن على ترميمه. وحالياً ثمة جمعية مؤلفة من لبنانيين وسوريين بنت بيتاً في سوريا من هذا النوع لتخزين البذور. بحثي عن المنازل التراثية حملني إلى مناطق النوبة في مصر، وإلى سوريا حيث أعدنا بناء منازل من قبب. هذا الكتاب يشكل تدويناً لتجربة بناء بيت من تراب مشهور وموجود بكثرة في الصحراء السورية، وليس للبنان أن يمتلك منازل ترابية ذات قبب فالشتاء الغزير عندنا سيدمره. هذا الكتاب شكل تدويناً لقصة وألف باء بناء بيت من لبن، وطرحت خاتمة الكتاب السؤال: هل سنعود إلى هذا النوع من البيوت؟