«أنت جواب السؤال… رسائل إلى الشباب» هو أحد مؤلفات الكاتب والروائي السويسري الألماني هرمان هسّه، صاحب رواية «لعبة الكريات الزجاجية» التي عكف لسنوات طويلة على كتابتها، والحاصل على جائزة نوبل للآداب 1946. بدأت فكرة هذا المشروع 1970 حين شرع هاينر هرمان هسّه نجل الكاتب بالتعاون مع فولكر ميشلز وزوجته، في البحث والتنقيب في الإرث الأدبي لهذا الكاتب، وبالأخص التنقيب في رسائله إلى القُرّاء والأصدقاء، وتعليقاته حول مخطوطات أعمال أدبية أُرسلت إليه قُبيل وفاته 1962. فولكر وزوجته استخلصا خمس عشرة ألف رسالة هي إجابات وتعليقات على الخطابات كانت موجهة إليه في ما مضى. وقد نُشرت تلك الرسائل ضمن أربعة مجلدات ضخمة في الفترة الواقعة بين 1973 ـ 1984 تحت عنوان «هرمان هسّه.. الرسائل الكاملة». ذلك كان جهد فولكر لخمسة عقود سخّرها لهذا الكاتب. يقول فولكر ميشلز، «إن إجمالي ما تيسر لي جمعه من مراسلات هرمان بلغ حتى اليوم خمسا وثلاثين ألف رسالة، حُفظ قسم منها في أرشيف المكتبة المحلية لمدينة بيرن السويسرية، والقسم الآخر محفوظ في أرشيف السجلات الأدبية في مدينة مارباخ الألمانية وهي متاحة للباحثين». ولأول مرة نُشرت هذهِ الرسائل عن دار نشر Insel Verlag الألمانية 2000. بعدها بسنوات كثيرة صدرت عربياً عن دار نشر «مدارك للنشر والتوزيع» ترجمة أحمد الزناتي. يقول هرمان هسّه: «إذا استولى عليك شعور بأن محاولاتك الأدبية تعينك على رؤية نفسك ورؤية العالم رؤية أوضح، وأن ما كتبته يشحذ عزيمتك على خوض غمار الحياة، ويجلو معدن ضميرك، فالزم مقام الأدب، ولا يهم إن صرت كاتباً أم لا، المهم إن ما كتبته سيصنع منك إنساناً واعياً بقيمته في الحياة؛ إنساناً يقظاً حاد البصيرة. أمّا إذا اكتشفت أن كتابة الأدب والاستمتاع بها ستقف حجر عثرة في مشوار حياتك، ولو في أضيق الحدود، أو أنها ستغويك بسلوك طرق جانبية نهايتها الغرور وتبلد الشعور، حينها ألقِ بكل القصائد والنصوص وكل ما كتبته وكل ما كتبناه جميعاً وراء ظهرك». «لقد أصبت عين الحقيقة في رسالتك، فلا يمكن للعمل الفني أن يُولد من رحم الموهبة وحدها، وهناك هوّة شاسعة تفصل بين الهاوي والفنان الحقيقي؛ فالهاوي غالباً ما يكتفي بأول فكرة تطرأ على ذهنه، فتأخذه الرهبة من مواصلة تطويرها وتشذيبها على مستوى اللغة والإيقاع الشعري، أمّا الفنان الحقيقي فيجد سعادته القصوى في الوصول بعمله الفني إلى درجة الكمال ما وسعه، مهما تجشّم من عناء ومهما نقّح وصحح وعدل».
هي خطابات مرسلة، وأجوبة حكيم على المخطوطات والكتب التي كانت تُرسل إليهِ ليطّلع عليها ويعطي صاحبها رأيه. حين نقرأها نلتمس منها النصح ليس على صعيد جودة النص الأدبي فحسب، وإنما على صعيد قلق الكاتب الشاب المبتدئ، إذ يعبّر عن سعادته في رده على ابن عمّه باول المتأثر بتأملاته حول الطبيعة، ويسترسل قائلاً: «من الصعب إخبارك كيف انغمست بكل جوارحي في عالم الأدب والفن، فقد نضجت قبل الأوان وواظبت على القراءة الشخصية الجادّة في سن مبكرة للغاية، كما إنني انصرفت عن كل ما يخالف فطرتي وطبيعتي حاشداً تركيزي في سبر أغوار الروح وفهم الحضارة الإنسانية حسبما تيسّر لي من وسائل آنذاك».
ويرد في رسالة أخرى إلى شاعر شاب 1909: «إن الحقيقة صعبة المنال، بل أكاد أقول لك إن الحقيقة مستحيلة البلوغ، ومن هنا يتعذر الحكم على الموهبة الأدبية/ الشعرية لكاتب ناشئ لم تتيسر لي رؤيته وجهاً لوجه إلا عبر مجموعة نصوص، وأي شخص يخبرك بأنه قادر على تقييم موهبتك الأدبية من خلال مخطوطات أعمالك المبكرة، وكأنه خبير خطوط يحلّل شخصية مشتركة في بريد القرّاء في إحدى الجرائد ـ هو في الواقع إنسان سطحي إن لم يكن منافقاً.
ويجيب عن سؤال الشاعر الشاب المتعلق بالشهرة الأدبية بمثال واقعي: «إن سؤالك عن إمكانية تحقيق شهرة أدبية في المستقبل يشبه سؤال أمٍ تسأل إن كان طفلها ذو السنوات الخمس سيكبر يوماً وينضج أم سيبقى صغيراً؟».
في أحد ردوده يطرح هسّه سؤالاً: «هل ينبغي بالضرورة أن تصير شاعراً أو كاتباً ؟» ثم يجيب بنفسه: «كثير من الشباب الموهوبين يرون في كتابة الشعر غاية نبيلة لأنهم يظنون أن كونك شاعراً يعني أن تكون إنساناً محبوباً، صافي القلب، ليّن الطباع ـ أمّا إذا كان الغرض من اللهاث وراء حرفة الأدب هو تحقيق الشهرة وذيوع الصيت، فالأولى بالمرء أن يحترف التمثيل».
لم يكترث هسّه للنقد الاستباقي في تحليله إن كان صاحب النص سيصبح كاتباً /شاعراً أو موسيقياً أو رساماً، بل كان يطلب من المرسل إليه أن يضع نفسه على المحك وأن ينصت إلى أعماقه والصدى المقبل من أعماق قلبه. هي الحقيقة، هذهِ كانت طريقته في أن يكتشف الإنسان رغبته في الحياة بأن يصبح ما يشاء، لا ما يريده الآخرون له، إذ يقول: «تضع الحياة أمام كل واحد منا مهمّة خاصة خُلقت من أجله، وليس هناك ما يُسمى بقصور شخصي مُقدَّر، ولا انعدام كفاءة كتبته علينا الأقدار، ففي استطاعة أضعف الناس وأشدهم فقراً أن يحيا حياة ثرية حقيقية بشرط أن يدرك مهمته في الحياة وأن يسعى لإنجازها». وبين ثنايا الرسائل التي أرسِلت إلى أصحابها سنجد بأن للكلمة الواحدة معانٍي كثيرة وعديدة، تختلف من زاوية النظر إليها ومن شخصٍ إلى آخر، ككلمة «الوطن»؛ هي مختلفة المعاني تماماً بالنسبة للإنسان/المقاتل المرابط على جبهة القتال، وللآخر «الإنسان المدني» الجالس على الأريكة في البيت، يحتسي ما يشاء. حالما نفرغ من قراءة الرسائل نستطيع القول إن هرمان هسّه يرى في الأدب مسؤولية قبل كل شيء، فالأدب الذي يبشر بقيم روحية وإنسانية قادرٌ على خلق متجدد وخلق عوالم بديلة دائماً لعالمنا الذي يشوبه النقص وانعدام المعنى.
كاتب وشاعر سوري