بعد مرور نحو أربع وعشرين ساعة على هجوم المقاومة الفلسطينية، على مستوطنات غلاف غزة في السابع من أكتوبر، نُشرت صور ومقاطع فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي، لطرود وجبات سريعة، ومساحيق لغسل الملابس وغيرها من المنتجات، تبرعت بها شركات دولية لها فروع (فرنتشايز) في عدد من البلدان العربية والإسلامية، للجيش الإسرائيلي، تعبيرا عن تضامنها مع إسرائيل. ودعى ناشطون عرب ودوليون لمقاطعة الشركات والعلامات التجارية الدولية تلك، عندما بدأت إسرائيل بقصف قطاع غزة برا وبحرا وجوا، موقعة آلاف الضحايا من المدنيين بين قتيل وجريح، ومحدثة دمارا هائلا في البنية التحتية المدنية في القطاع وأزمات إنسانية لا يمكن تخيلها، وأصبح منظرا مألوفا لمتسوقين في عدة دول حول العالم، وهم يتفحصون قوائم لمنتجات تلك الشركات على هواتفهم المحمولة، لتجنب شرائها.
ميثاق الأمم المتحدة ينص على أن المقاطعة الاقتصادية، هي جزاءٌ يُفرض على الدولة التي ترتكب جريمة العدوان، أو ما من شأنه تهديد السلم والأمن الدوليين. ولجأت الأمم المتحدة لفرض المقاطعة الاقتصادية في العديد من المنازعات، كجنوب افريقيا بسبب سياسة التمييز العنصري، وفرضها على العراق إثر احتلاله الكويت عام 1990. ورغم ذلك فإن الولايات المتحدة وحلفاءها، يرون أن المقاطعة غير مشروعه في حالة السلم، أو من دون صدور قرار دولي عن الأمم المتحدة، يقتضي فرضها، فيما يرى خبراء في القانون الدولي، أن مشروعية المقاطعة تنشأ من مشروعية الدافع إليها، والهدف المراد تحقيقه منها، فإذا كان الهدف مشروعاً، فإن المقاطعة تعدّ عندئذ وسيلة مشروعة، للدفاع عن الحقوق ورد العدوان، وهذا ما يجري في حالة المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل، والشركات الدولية الداعمة لها، بسبب الحرب على غزة.
التعامل مع المقاطعة، بالتزامن مع الأحداث ومع مواسم المعارك العسكرية، يحد من فعاليتها ويحول دون تحولها لأسلوب حياة، لمقاومة الاحتلال في المجتمعات العربية والإسلامية
وتشمل المقاطعة الاقتصادية، شركات وعلامات تجارية عالمية، أظهرت تأييدها للجيش الإسرائيلي، خلافا لمبدأ اقتصاد السوق، ومنها على سبيل المثال مطاعم ماكدونالدز، وبابا جونز وبيرغر كينغ، وشركة متاجر البقالة الفرنسية (كارفور)، ومقاهي ستاربكس، وشركات أدوية ومنظفات، ما أدى إلى تراجع مبيعات هذه الشركات في العديد من الدول حول العالم، وصلت لأكثر من 50% وبعضها انخفضت لنحو 70%. وعلى مستوى بعض الأسواق العربية، فإن شركة ماكدونالدز في مصر، انخفضت مبيعات امتيازها التجاري «الفرنتشايز» على أساس سنوي، لنحو 70% في شهري أكتوبر ونوفمبر2023 ، وفي الأردن يشاهد ناشطو المقاطعة، يدخلون إلى فروع ماكدونالدز وستاربكس، لتشجيع عملائهما على عدم الشراء، وكذلك في العاصمة الكويت، فإن فروع ستاربكس وماكدونالدز وكنتاكي فرايد تشيكن، خلت من المرتادين. وفي الولايات المتحدة، خسرت شركة ستاربكس أكثر من 10 مليارات دولار، بعد تراجع سهمها من 107.21 دولار في 16 ديسمبر 2023 إلى 98.11 دولار نهاية التعاملات قبل عطلة عيد الميلاد. إن الخسائر التي منيت بها الشركات والعلامات التجارية الدولية، دفعت الى تراجع بعضها عن مواقفها السابقة لدعم إسرائيل، فشركة (زارا) للأزياء مثلا، أصدرت بيانا قالت فيه، إنها تأسف «لسوء الفهم» الذي أثارته حملة إعلانية، ظهرت فيها مجسمات ملفوفة بأقمشة بيضاء (أكفان)، ما عرضها لدعوات لمقاطعتها أطلقها ناشطون داعمون للفلسطينيين. وأعلنت شركة بوما الألمانية للملابس الرياضية، إنها ستنهي رعايتها للمنتخب الإسرائيلي لكرة القدم العام المقبل، في خطوة قالت إنها تأتي في إطار استراتيجيتها الجديدة، بعد اشتعال فتيل الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين في 7 أكتوبر. كما دفعت المقاطعة الاقتصادية بأصحاب الامتياز التجاري (الفرينتشايز) في مصر والأردن، للإعلان أن لا علاقة لهم بدعم الشركات الدولية الأم لإسرائيل، وأن محلاتهم تبرعت لدعم فلسطين. كثير من الجدل رافق حملات المقاطعة بشأن من المتضرر ومن المستفيد من مقاطعة شركات عالمية، هل تلك الشركات نفسها، أم اقتصادات البلدان التي تجري فيها المقاطعة؟ ويجب هنا التفريق بين حالتين، الأولى مقاطعة فرع من فروع الشركة الأم، والثانية مقاطعة شركة مملوكة لمستثمر محلي حاصلة على امتياز، أو حق استخدام العلامة التجارية للشركة الأم في ما يعرف بالفرنتشايز. ففي الحالة الأولى فإن الضرر الذي يلحق بالشركة الأم كبير للغاية، لأن أرباحها هي عبارة عن مجموع أرباح فروعها كافة، فإذا خسرت بعض الفروع، فإن الشركة الأم تتعرض للخسارة. أما في الحالة الثانية فهي إشكالية، لأن الشركة الحاصلة على حق استخدام العلامة التجارية، عادة ما تدفع مبلغا محددا من المال للشركة الأم، التي لا تتأثر بالخسارة، بينما يتأثر بها المستثمر المحلي الذي يوظف عمالة، ويشتري منتجات محلية لتشغيل مشروعه. المقاطعة في هذه الحالة تضر بالمستثمر والعمال والأسر التي يعولونها، وبالتالي إلحاق الضرر بالاقتصاد الوطني. وفي المقابل، فإن المقاطعة من الممكن أن تدعم وتشجع منتجات محلية، إذا كانت تلك المنتجات منافسة، وذات جودة تضاهي منتجات وخدمات الشركات الأجنبية المُقاطعة، وتجنب استغلال الفرص لرفع الأسعار ومحاولة احتكار السوق، ما سيؤدي إلى نموها بزيادة مبيعاتها وبالتالي توظيف أيد عاملة جديدة.. وعلى صعيد المقاطعة الاقتصادية للمنتجات الإسرائيلية في الأسواق العالمية، وجهت مجموعة من الاقتصاديين الإسرائيليين، رسالة لرئيس الوزراء نتنياهو ولوزير المالية سموتريتش، جاء فيها «إن إسرائيل تتعرض لأضرار اقتصادية ولأزمة عميقة، تتجاوز مجرد امتناع الناس عن شراء بعض السلع، وإنما إنتاج بدائل لمنتجات الشركات الإسرائيلية، وكلما زاد عدد المنتجات الوطنية المماثلة ومجالات استخدامها، زاد الضرر الذي سيلحق بالهيمنة العالمية لرأس المال الإسرائيلي». ووفقا لتقرير أعدته مؤسسة «راند كوربوريشن» الأمريكية، تسببت المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل ما بين 2013 و2014 مثلا، بخسارة تراكمية تقدر بحوالي 15 مليار دولار، ما أدى إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي للفرد في إسرائيل بنسبة 3.4%.، إلا أنه من المرجح أن تلحق المقاطعة الحالية، أضرارا اقتصادية أكبر بكثير لإسرائيل من سابقاتها، حيث سيقل تدفق الدولار إلى الميزانية الإسرائيلية، ما سيؤثر على مشترياتها من الأسلحة والذخائر.
المقاطعة الاقتصادية الممنهجه لإسرائيل، وللشركات العالمية التي تدعم الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، كانت قد دشنتها «حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات» المعروفة اختصارا بـ(بي دي أس)، التي كانت قد أطلقتها منظمات المجتمع المدني الفلسطيني في عام 2005، والهدف منها، حسب موقع الحملة الإلكتروني: «ممارسة الضغط على إسرائيل بطرق غير عنيفة، حتى تلتزم بالقانون الدولي، وتنهي احتلالها للأراضي العربية كافة، ومنح الفلسطينيين -العرب في دولة إسرائيل، حقوقا متساوية واحترام حقوقهم الأساسية». ولا تقتصر دعوات الـ(بي دي أس) على تشجيع مقاطعة الشركات الإسرائيلية، محليا وإقليميا وعالميا، وانما نشطت في الدعوة مؤخرا لمقاطعة الشركات الداعمة لإسرائيل في الحرب التي تشنها على غزة. وكان الفلسطينيون في الأراضي المحتلة قد أطلقوا عدة حملات من المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل ولمستوطناتها في الضفة الغربية والقدس قبل أكثر من 20 عاما، الا أنها كانت بمجملها ردات فعل، على أحداث عدوانية عسكرية أو سياسية إسرائيلية، وما أن تنتهي تلك الأحداث، حتى تتوقف حملات المقاطعة، ويعود النشاط الاقتصادي الإسرائيلي في فلسطين إلى سابق عهده. وربما أن الحملة الوحيدة التي نجحت، كانت الحملة الدولية لمقاطعة منتجات المستوطنات الإسرائيلية، التي بموجبها فرضت عدة دول أوروبية ودول في أمريكا اللاتينية، قيودا على منتجات المستوطنات، بإجبارها على تحديد «مكان المنشأ» على المنتجات الواردة من إسرائيل، بهدف تمييزها عن غيرها من المنتجات الإسرائيلية داخل الخط الأخضر، لترك القرار للمستهلك بشأن مقاطعتها من عدمه. لكن لماذا تبقى المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل موسمية، تجري بعد ارتكابها مجازر دموية متوحشة كحربها على غزة 2023؟ ولماذا لا تتحول مقاطعتها لسلوك منهجي ثابت؟ إن الإبقاء على زخم المقاطعة الاقتصادية (حتى بعد انتهاء حربها على غزة)، يساعد على تعجيل جهود بناء لوائح اتهام ضدها، في الهيئات القانونية على جرائمها بحق الشعب الفلسطيني، بالإضافة الى أنها تساعد على تقليص مواردها المالية، ما يضعف قدراتها التسلحية، ويضعف تمويلها للاستيطان. وتوقعت مؤسسة راند الأمريكية، في تقرير لها، أنه إذا استمرت المقاطعة الاقتصادية ضد إسرائيل، بوتيرتها على خلفية جرائمها في حربها على غزة 2023 فإنها ستؤدي إلى تراجع اقتصادها، بين 1 إلى 2% من الناتج المحلي، بما يصل لـ56 مليار دولار، أي مقدار الدعم الأمريكي لإسرائيل.
إن التعامل مع المقاطعة، بالتزامن مع الأحداث ومع مواسم المعارك العسكرية، يحد من فعاليتها ويحول دون تحولها الى أسلوب حياة، لمقاومة الاحتلال في المجتمعات العربية والإسلامية، فمقاطعة إسرائيل والشركات والمؤسسات الدولية الداعمة لها، يجب تكرسها كثقافة مجتمعية، في أوساط الفلسطينيين والعرب وأنصارهما حول العالم، من خلال غرسها كوسيلة ذات تأثير إيجابي، للتعبيرعن معارضة الظلم الذي يلحق بالشعوب المستضعفة، كالشعب الفلسطيني الذي يتعرض للتطهير العرقي والأبرتهايد ومصادرة الأراضي وأشكال الاضطهاد الأخرى.
صحافي وأكاديمي فلسطيني
نعم وهي ثقافة سامية 🇵🇸✌️🔥🐒🚀