استدعت صفقة الأسلحة الروسية لمصر، وأجواء التقارب المصري الروسي تحت المظلة السعودية، منتصف الشهر الماضي، ذكرى أحداث مشابهة حصلت خمسينات القرن الماضي، وإن أخذت حينها عنوان صفقة السلاح ‘التشيكية’ نسبة لتشيكوسلوفاكيا، ويبدو أن الدوافع المشتركة بين الحالتين قامت على إحساس من الاحباط أو خيبة الأمل التي سادت الديبلوماسية العربية في علاقتها مع الغرب عموماً.
ففي 18 نيسان من عام 1955 تحرك الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وكرد فعل على خيبته من الغرب، باتجاه مؤتمر ‘باندونغ’ لتشكيل ما عرف بكتلة دول عدم الانحياز، التي شكلت أهم سمات عالم ما بعد الحرب الكونية الثانية، كتلة قامت على مبادئ احترام سيادة جميع الدول وسلامة أراضيها، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى أو التعرض لها، في إطار احترام حقوق الانسان ومبادئ الأمم المتحدة، حيث شكلت هذه الكتلة حاضنة للتقارب المصري- الروسي آنذاك.
خيبة الأمل العربية هذه الأيام من الإدارة الأمريكية لا تقل عن سابقتها، بل يمكن القول أن مرارة الإحباط الذي تعيشه الدبلوماسية المصرية أعنف من تلك السابقة، وقد شكل موقف تلك الإدارة من الإخوان المسلمين مؤشر إزعاج للعربية السعودية، التي دعمت بقوة انقلاب السيسي، فيما يتزايد القلق السعودي من سياسة أوباما المترددة في دعم الثورة السورية، لكن الأخطر من ذلك كله هو التقارب الأمريكي- الإيراني، الذي يضحي بمصالح الخليجيين، وبتاريخ من العلاقات العربية الأمريكية، والتي يبدو أن الأمير بندر بن سلطان مسؤول الأمن والاستخبارات السعودية، يدرك خطورتها، إلى الدرجة دفعته إلى التفكير بتحويل دفة الديبلوماسية العربية باتجاه موسكو، فكانت بدايتها من تمويل صفقة الأسلحة الروسية لمصر بديلا عن تقليص المعونة الأمريكية لها.
بالتأكيد ليس نافلاً هذا الحدث، لكنه من الخطأ الاعتقاد بقدرة هكذا تكتيك على صنع تحولات استراتيجية في موازين العلاقات الدولية، أو استعادة ما حدث في خمسينات القرن الماضي، لأن الاختلاف بين الحالتين ينطلق من غياب الاستقطاب الحاد لفترة الحرب الباردة، فروسيا التي ورثت الاتحاد السوفييتي السابق أعجز عن تشكيل فزاعة لنا في وجه الغرب، ولم تعد قادرة على تخويف أحد من الأعداء، بعد أن فقدت أنيابها الأيديولوجية، وسطوتها العسكرية لحلف وارسو، حيث تحولت إلى مجرد قوة مهمة في عالم متعدد الأقطاب، عالم تتحرك فيه القوى والتوازنات بسيولة يبدو العالم العربي بأنظمته التقليدية عاجزاً عن استيعابها وتتدارك آثارها.
إشكالية الأنظمة العربية أنها بنت استراتيجيات عميقة على تحالفات دولية ينقصها عامل الثبات، فخلال العقود التي تفصل الربيع العربي عن مؤتمر ‘باندونغ’ جرت مياه كثيرة تحت جسور العلاقات الدولية، لكننا لم نتعلم السباحة عبرها أبداً، وربما لم يصلنا صداها الحقيقي، فليس الكرملين من شهد انقلاباً جذرياً فقط، بل تغيرت السياسة الإيرانية بقوة أكثر بعد مجيء الملالي إلى السلطة، وحتى أنقرة التي تردت في زمن الانقلابات العسكرية لثمانينات القرن الماضي، هي الآن في ذروة انتعاشها الاقتصادي بعد وصول حزب العدالة والتنمية الإسلامي للحكم، كما يمكننا الحديث عن تغيرات أقل سطوعاً طالت الإدارة الأمريكية ذاتها، في عهد بوش الابن، وفي عهد أوباما المتردد أيضاً.
وإن كنا نعتبر الربيع العربي كبداية لحقبة من التحولات التي فرضتها في المنطقة قوة التناقضات بين أنظمة الاستبداد ومعطيات الثورة الرقمية وتطور الاتصالات، التي جاءت على خلفية إفقار متسارع لشرائح واسعة من الطبقة الوسطى التي كادت تتلاشى لأسباب اقتصادية، فإن للثورة السورية خصوصية في مواجهتها نظام يندرج في قوس الممانعة والتصدي الذي تتزعمه إيران في المنطقة، مما دفع بكل اليسار العربي والقوميين أيضاً وأغلب المثقفين والعلمانيين القابعين في هوامش التيارين السابقين إلى مناصبة الثورة السورية العداء، ووضعتهم في خانة الدفاع عن نظام القمع والفساد الذي يمارس أبشع أنواع المجازر وأشكال القتل ضد شعبه، كما أفرزت هذه الحالة نقيضها المتمثل في دعم أنظمة غير ديمقراطية للثورة السورية من مبدأ التناقض مع سياسات الهيمنة الإيرانية التي تنمو تحت يافطة الممانعة والتصدي.
وليس لروسيا أن تنسى التحالف السعودي الأمريكي في دعم إسلاميي أفغانستان ضد الوجود السوفيتي سابقا، خاصة وأن قادة الكرملين الجدد نجحوا في تشكيل تحالف صلب ومتين لدعم نظام الأسد ضد المطالبين بإسقاطه.
كل ذلك يجعلنا نتساءل: كيف يمكن للتحول الجديد في العلاقات المصرية- الروسية والذي يجيء بعد انقطاع 33 سنة، أن يؤسس لاستراتيجية جديدة؟ وهل يوجد أفق لقراءة الاتفاق السابق على الساحة السورية التي تشهد استقطابا حاداً يجعل مواقف السعودية وروسيا على طرفي نقيض؟ وإن كان لصفقات الأسلحة الروسية مع مصر أو المملكة السعودية أن تثير قلق الادارة الأمريكية، فهل لها أن تؤثر على الموقف الروسي من طهران؟ أو بصيغة أدق: هل يمكن للسياسات السابقة أن تخلخل التنسيق الروسي- الإيراني المعادي الثورة السورية؟
حقيقة لا يمكننا التفاؤل حيال الأسئلة السابقة، فالروس يهمهم بالتأكيد استثمار خيبة الأمل المصرية والخليجية من السياسات الأمريكية، وستدر صفقات الأسلحة عليهم بضعة ملايين غير قليلة من الدولارات، لكنهم لن يجدوا بين الأنظمة العربية ما يمكن أن يعتبروه مركز قوة إقليميا، يغريهم بتغيير تحالفاتهم الاستراتيجية في المنطقة.
‘ كاتب من سوريا