هل تعليمنا تثقيفي؟

المزاوجة بين التعليم والثقافة في المدرسة مسألة لم تتنافس فيها المدارس منذ القديم، وإنّما ظلّت الثقافة في الغالب على هامش ما تضطلع به العلوم من أدوار تعليمية وأحيانا تربوية. اللغة التي بها تُبْنى العلوم هي المدخل الأساسي إلى تعليم شامل ذي بعد ثقافي. ذلك أنّ اللغة لا يمكن أن تكون أداة تواصل محايدة عليها أن تنقل العلوم بمختلف أنواعها وحين تعجز تلك اللغة نتهمها بالقصور.
النقل التعلمي تسمية أطلقها الفرنسي إيف شوفلار Yves Chevallard المختصّ في تعليمية الرياضيات، ويعني العبور أثناء التعليم من المعرفة العالمة التي يكتبها العلماء، إلى المعرفة القابلة للتعلم في المدارس والمعاهد والجامعات. فالخطاب العلمي الأصلي الذي أنتجه العلماء وهو المسمى «معرفة عالمة» يخضع لأشكال من التكييف والتهذيب، تجعله قابلا لأن يبسّط ويقدّم بأسناد تعليمية وبيداغوجيّة يقبلها المتعلم في مراحل تعليمه المختلفة. فعلى سبيل المثال وفي درس للرياضيات يتناول عمليات الجمع أو الطرح، ويكون موجّها إلى متعلم في المراحل الابتدائية أو الأساسيّة الأولى، فإنّ كثيرا من المعطيات النظرية والمسائل المعقدة تحذف وهذا طبيعي، لأنّها لا تناسب قدرات المتعلم في تلك المرحلة؛ وبدلا من الحديث عن الأعداد بما هي مفاهيم مجرّدة، تتناول بما هي أشياء ملموسة قابلة للعدّ، ويمكن للتلميذ أن يعدّها. وفي مستوى أعلى من هذا المستوى وفي درس حول الأمواج والموجات الكهرومغناطيسية؛ فإنّ المدرِّس يمكن أن ينطلق من مثال كلاسيكي هو رمْي حجر في بحيرة، وكيف يحدث أمواجا وكيف يمكن أن نقيس عليها فكرة الأمواج مشابهة ومخالفة. وفي درس النحو، فإنّ مفهوم الفاعل بما هو مسند إليه الفعل، يبسّط إلى أقصى درجات التبسيط، لكي يقبله عقل المتعلم، الذي سيضيع في ثنايا الإسناد، ويضيع معه مفهوم الفاعل النحوي إن تشعبت مسائله.

ومن جهة أخرى وحين تكون عالما باحثا، وأنت في الآن نفسه مدرّس في الجامعة، عليك أن تنفصل عن ذاتك العالمة والباحثة، وتنحو بما لديك من أفكار إلى المجاري التي تبسّط المعارف لطلبتك. سألت مرّة زميلا جامعيّا يشرف على مختبر جامعي في الكيمياء: هل يمكن أن تدرّس الكيمياء للأطفال المبتدئين؟ أجاب: بالطبع يمكن ذلك؛ لكن أنّى لنا بمن يبسّطون هذا العلم؟ أمّا أنا فالسؤال الذي يظلّ عالقا في ذهني هو: ما هو الحدّ الذي يمكن أن تتحمّله العلوم وهي تبسّط ولا تفقد كثيرا من فحواها؟ فنقل العلوم وما يصاحبه من تبسيط وإعادة تكييف المادّة، حتى يستوعبها عقل المتعلم في جميع مراحل تعلّمه يفقد العلم كثيرا من معطياته ويكثر ذلك الفقدان في المراحل الأولى التي يكون فيها عقل المتعلم غير قابل للتجريد، أو الخطاطية العليا التي تتطلبها العلوم جميعا.
فعلى سبيل المثال لا يمكن لك أن تدرّس مفهوم الفاعل في النحو (العربي أو غيره) من غير أن تعتمد على مفهوم الإسناد المفرط في التجريد، وأن تبتعد في هذا المفهوم عن التصوّر الذي يفصله عن الفاعل في معناه المعجمي. فإن تقول للمتعلم البسيط في المستوى الابتدائي إنّ الفاعل هو من فعل فعلا، فذلك ممّا يربك مفهوم الفاعل في علم النحو، لأنّ الرجل في (مات الرجل) لم يكن هو الفاعل بل المفعول. وفي صيغتي الاستفهام (هل مات الرجل؟) والنفي (لم يمت الرجل) يضطرب مفهوم الفاعل الذي يعتمد على المعطيات المرجعية لأنّها ستهتز في ذهن المتعلم.
لا يمكن أن يحدث نقل تعليمي في المدرسة من غير أسناد ثقافية مرافقة ومتفاعلة مع الموادّ التي تُعلَّم في المدرسة؛ فنحن حين نعلّم ذاتا لا نعلّم كيانا خاويا من المعطيات الثقافية التي يحملها عن الخارج، أو الذات المتقاطعة مع المعرفة. صحيح أنّ العلم في أصله موضوعي ومجرّد لكنّه حين ينقل إلى المتعلم يغادر كثيرا من موضوعيّته، بما هو منفصل عن ذات الباحث العالم ويصبح أكثر ارتباطا بالتلميذ أو المتعلم الذي يتعلّمه.

إنّ المتعلّم ذاتٌ ثقافية فاعلة في الكون ومتفاعلة معه، ولذلك تكون متفاعلة ثقافيّا مع اللغة التي تنقل بها العلوم؛ فالتلميذ الذي يكون متعدّد اللغات ومنغمسا في لغات أكثر من أخرى قد يجد من الصعوبة أن يعلّم الموادّ بغير اللغات التي تستهويه، وبها يتفاعل بشكل يومي.

المتعلّم ليس محايدا وهو يتلقّى العلوم التي تنقل إليه بعد التبسيط؛ ففي درس الحساب، وحتى يفهم التلميذ في السنة الأولى من التعليم الابتدائي عملية الجمع ينبغي أن يكون هو ذاتا مجرِّبة مستفيدة من الجمع، بواسطة الملك والاكتساب؛ فإن تقل له اجمع تفاحة مع تفاحة فقد طلبت منه شيئا لا نفع له منه؛ لكن إن أنت أقحمته بما هو ذات منتفعة في ذلك الجمع، إقحاما افتراضيّا طبعا، بأنّه سيغنم بهذا الجمع المضاعف، فإنّه سيكون طرفا متفاعلا أكثر مع مفهوم الجمع وقد صار نفعيّا. وهناك مشكلة أخرى في توحيد الأمثلة بالنسبة إلى جميع المتعلمين فلن يكون التلميذ الذي لا يحبّ التفاح متفاعلا إيجابا وهو يقحم في سياق الجمع النفعيّ للتفاح مثلما يمكن أن يتفاعل معه من يحبّ هذه الثمرة؛ ولن يكون التلميذ الذي يتمنّى أن يكون له أكثر من هاتف محمول متفاعلا التفاعل الكافي مع مثال الكتب، أو الكراسات.. وليس الأمر بمعيب له فالرغبة الذاتية في التعلم تتفاعل دائما مع الرغبة الذاتية التي تكون للمتعلم مع الأشياء في الكون.
إنّ المتعلّم ذاتٌ ثقافية فاعلة في الكون ومتفاعلة معه، ولذلك تكون متفاعلة ثقافيّا مع اللغة التي تنقل بها العلوم؛ فالتلميذ الذي يكون متعدّد اللغات ومنغمسا في لغات أكثر من أخرى قد يجد من الصعوبة أن يعلّم الموادّ بغير اللغات التي تستهويه، وبها يتفاعل بشكل يومي. لنأخذ على سبيل المثال تلميذا يدرس الرياضيات بالعربية الفصحى ولا يستعملها وهو يعالج هاتفه الذكيّ، أو البرمجيّات التي في حاسوبه، بل يعالجها بالإنكليزية؛ فإنّه سيجد أنّ العربيّة لغة مقحمة على عالمه في هذا الدرس الذي عليه أن يكون فيه متميزا. فهناك تلازم ضروريّ بين اللغة التي يمارسها جمهور الطلبة في أنشطتهم اليومية التقنية أو الرقمية واللغة التي يعتمدونها في التعليم؛ وبناء عليه، فإنّ التصوّر السائد من أنّ التلميذ يتعلم اللغة ثمّ بعد ذلك يعالج بها أنشطته التعليمية ينبغي أن يحوّر، أو يعدّل بالنظر إلى نشاط تلميذ اليوم اليومي مع الآلات والألعاب التي تعتمد لغات عليه أن يعرف شيئا منها خارج أسوار المدرسة.

ولم يعد التلميذ يتعلم اللغات من المدرسة، بل بات يتعلمها وهو يمارس هواياته؛ وهذه الممارسة الضرورية هي التي تجعله يسعى إلى تعلّم الكتابة والقراءة بلغة التخاطب مع الآلة ولغة التخاطب مع الآخر الافتراضي، الذي قد لا يتكلم لغته الأصلية. فالدوافع التواصلية المتعددة هي التي خلقت تعلما موازيا للغة غير ذاك الذي تقدمه المدرسة، وبدلا من أن تشنّ المدرسة حملة شرسة شعواء على الآلات الرقمية عليها أن تتصالح معها وتتصالح مع المتعلم بالتصالح معها. فهذه الآلات باتت المحامل الكبرى للتعلم، ولاسيّما تعلّم اللغات في سياقات للتخاطب متعددة وعابرة للقارات في غالب الأحيان. ومن الغُنم اللغوي المهمّ أن يتعلم الطفل في مراحل حياته الأولى لغة أجنبيّة تساعده على فتح الهاتف والتخاطب به، وقراءة اسم أمه على قائمة الأسماء لمهاتفتها عند الحاجة؛ ومن المهمّ أن يعرف أيضا، أنّ مع اللغة إيقونات ورموزا عليه أن يعرفها كي ينجح في التواصل مع أهله، من بينها لعبة الأرقام التي تمكنه من كتابة حروف بعينها لمخاطبة أمّه البعيدة عنه.
البعد التثقيفي للمتعلم هو الذي يجعله غريبا، أو قريبا من الموادّ التي يتعلمها ومن اللغات التي يتعلمها بها، وأنّ المسألة في هذه اللغات ليست مسألة وجود للغة واندثار لأخرى أو مسألة تقديم لغة وتأخير أخرى ولا هي مسألة هوية ثقافية؛ بل هي مسألة اندماج للفرد في تعليم قريب من محيطه الثقافي والكوني أو غير قريب.

أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبد الحفيظ بن جلولي:

    موضوع جدّي وهام ومتعالق مع الضرورة المعرفية التي تجعل من المجتمع واقعا في التعاطي مع مجالاته الحيوية، وخصوصا الضرورة التعليمية، إذ لا بد من مستوى من الواقعية والمباشرة في تكثيف العلاقة مع الأشياء في بعدها النفعي في تطبيقاته اليومية، ومراعاة العقل المتلقي في كافة مراحله.
    شكرا جزيلا أستاذ توفيق.

اشترك في قائمتنا البريدية