هل حارب الجزائريون طواحين الهواء؟!

حجم الخط
46

ربما حاول البعض بطريقة أو بأخرى أن يلمح لذلك، ولعل هناك من يرى أن آخر وأحدث محاولة في ذلك الاتجاه كانت مجرد زوبعة في فنجان، وأن الأجدى هو أن توصف بالحدث الهامشي الذي لا معنى له. لكن ألن يفتح الأمر وبغض النظر عن تباين المواقف ووجهات النظر نحوه أعين كثيرين على جملة من الأسئلة الحقيقية التي تطرح نفسها اليوم بقوة على البلد المغاربي؟
ليس من المستبعد أن تقود مزيد من التراكمات نحو ذلك، والثابت هو أن تلك الأسئلة ستبدو في ذلك الوقت أعقد وأصعب بكثير من السؤال التقليدي عن عدد شهداء الجزائر، إذ سيكون بمقدور أي صبي جزائري أن يقدم وعلى طبق، الجواب الكلاسيكي وهو أنهم مليون ونصف المليون شهيد. أما المختصون وبعض المؤرخين فقد يرفعون الرقم عاليا إلى خمسة ملايين شهيد، بل ربما حتى إلى أكثر من ذلك. لكن هل كان الفرنسيون وبعد مضي أسابيع قليلة فقط على توقيعهم مع الجزائريين على اتفاقية ومذكرة مشتركة قالت عنها الإذاعة الرسمية في الجزائر، إنها تهدف «لاسترجاع الأرشيف الجزائري خلال الحقبة الاستعمارية، وممتلكات لا تقدر قيمها التاريخية بثمن في قلوب الشعب الجزائري»، يأملون في أن يخرج شخص ما، حتى إن لم يكن من أهل الذكر أو الاختصاص، ومن داخل بلد عربي بالذات ليحصر الرقم في مئة وستة وخمسين شخصا فقط، «قتلوا في سجن وهران وسجن قسنطينة وسجن الجزائر العاصمة»، خلال سنوات الاستعمار التي استمرت لأكثر من قرن وربع القرن؟ من المؤكد أنه لم يدر بخلدهم أنه قد يوجد في بلد بعيد عن قارتهم، لم يسبق له أن عانى من ويلات الاستعمار الفرنسي من يمكنه أن يكون فرنسيا أكثر من الفرنسيين أنفسهم، ولعل الشاعر السعودي عبد الرحمن الشمري حاز في هذا الجانب سبقا ما. والسؤال هنا هو كيف أمكن للرجل أن يتوصل إلى تلك النتيجة العجيبة؟ وما هي المصادر أو الأدلة أو الوثائق العلمية التي استند إليها؟

تصريحات انتشرت كالنار في الهشيم شككت في التضحيات والدماء السخية التي بذلها الجزائريون في فترة الاستعمار، وهو ما لم يقدم حتى غلاة الفرنسيين ومتطرفوهم على فعله

ليس معروفا حتى الآن أي جزئية ولو بسيطة حول ذلك. لقد كانت على ما يبدو كلمة خرجت من فمه بوعي، أو ربما من دون وعي وتم الأمر باختصار شديد وببساطة أيضا ومثلما قال هو نفسه فقط من خلال ما وصفه ببحثه البسيط في الموضوع، من دون الكشف لا عن طبيعة ذلك البحث، ولا عن منهجيته، ولا عن أدواته، ولا عن الوقت الذي استغرقه. لكن ما الذي جعل أديبا وليس باحثا مختصا في التاريخ مثلا يقحم نفسه أصلا في قضية معقدة يتداخل فيها التاريخي بالسياسي ويشتبك فيها الماضي بالحاضر بشكل وثيق؟ حتى الآن تبدو الدوافع الحقيقية وراء تلك العملية غامضة ومجهولة. وليس مؤكدا بعد أن كانت التحقيقات التي تعهدت بفتحها السلطات السعودية ضد الشمري ستميط اللثام عاجلا أم آجلا عما إذا كان يمكن أن يكون وراء ذلك التصرف الفردي في الظاهر جهة ما، وتقود بالتالي إلى معرفة كل التفاصيل والحيثيات المحيطة بالمسألة، وبغض النظر عما يمكن أن يتكشف في وقت لاحق فليس هذا المجال المناسب بالتأكيد للرد على تلك التصريحات التي انتشرت كالنار في الهشيم، بمجرد أن بثت مؤخرا في برنامج على منصة «عكاس» لتثير جدلا واسعا، بعد أن تضمنت قدرا كبيرا من التشكيك في التضحيات والدماء السخية التي بذلها الجزائريون في فترة الاستعمار، بل حتى نوعا من المبالغة في التقليل والتهوين من أعداد الذين سقطوا شهداء برصاص الاستعمار الفرنسي، وهو ما لم يقدم حتى غلاة الفرنسيين ومتطرفوهم على فعله. ولا شك في أنه سيكون من السهل على أي أحد أن يفند أطروحة الشمري بمجرد أن يعدد مثلا بعض المجازر الشهيرة التي ارتكبتها القوات الاستعمارية الفرنسية في حق الجزائريين. وربما يكفي هنا ذكر واحدة منها فقط وهي مجزرة الثامن من مايو عام خمسة وأربعين الشهيرة والتي قتل فيها بالرصاص الحي ما لا يقل عن خمسة وأربعين ألف متظاهر جزائري خرجوا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية للتعبير عن مطالبتهم للسلطات الاستعمارية بالوفاء بوعدها لهم بمنحهم الاستقلال. لكن بعيدا عما قيل في حق شهداء الجزائر، ألا يبدو توقيت مثل تلك التصريحات مريبا؟ لقد تزامن تقريبا مع توقيع الجانبين الجزائري والفرنسي الشهر الماضي، ومثلما أشرنا إلى ذلك، على اتفاقية لم يكشف بعد عن كامل تفاصيلها، إلا أنه يفترض أنها ستفتح الباب أمام الحصول على نوع من الاعتراف الفرنسي بالجرائم الاستعمارية في الجزائر، قد يفضي لاحقا إلى تقديم اعتذار رسمي من جانب باريس عنها، مع تعويضات مادية ورمزية، ما قد يسمح في الوقت نفسه، وكما كتبنا في مقال سابق، لتونس والمغرب بالخصوص بمطالبة الفرنسيين بالتوقيع على اتفاقيات مماثلة. كما أن من شأن تلك الاتفاقية أن تعبد الطريق أمام زيارة مرتقبة للرئيس الجزائري إلى باريس، سبق أن تم تأجيلها أكثر من مرة. ولعل هناك من قد يقول وفي صلة بذلك أن تصريحات الشمري، أخذت حجما أكبر من حجمها، وأن ربطها بأي سياق سياسي هو نوع من التعسف والإجحاف. فما الرابط بين كلام طائش، أو زلة لسان قد يكون ارتكبها أحد الفنانين، ومسألة معقدة وشائكة بحجم ملف الذاكرة، الذي لا يزال يقف حجر عثرة أمام أي تقارب كبير بين باريس والجزائر؟ ولنفترض جدلا أن الأمر تم بشكل معاكس، وحصل على الطرف الآخر، أي أن هناك شاعرا أو أديبا أو وجها إعلاميا معروفا من دولة غربية مثل سويسرا مثلا، خرج في إحدى المحطات الإذاعية أو القنوات التلفزيونية بتصريحات تؤكد أن فرنسا أجرمت بحق الجزائريين وبحق باقي الشعوب المغاربية أيضا، وأنها أبادت أكثر من عشرة ملايين جزائري على امتداد فترة احتلالها المباشر لذلك البلد. فهل كان الفرنسيون سينظرون إليه على أنه مجرد موقف أو رأي لا يلزم غير صاحبه؟ أم كانوا سيعتبرونه محاولة للتشويش على ملف حساس لا يرغبون بالتورط في دفع تكلفته، التي قد تكون باهظة جدا لا بالنسبة لعلاقتهم بالجزائر فقط، بل بباقي الدول المغاربية والافريقية أيضا؟
لقد قال الرئيس الجزائري وفي آخر خطاب ألقاه في وزارة الدفاع الشهر الماضي وفي إشارة إلى ارتباط مستقبل الجزائر بماضيها إلى أنه «عندما نتكلم عن الذاكرة فإن كثيرين يلوموننا، والشعب الذي لا جذور له ولا سلفا صالحا له، فإن مصيره مجهول»، غير أن بقاء ملف الذاكرة بين الجزائريين والفرنسيين مفتوح منذ أكثر من ستين عاما يجعل البعض يتساءل عما ستكون عليه الجزائر في اليوم الذي يلي أي اتفاق نهائي على غلق ذلك الملف. ولعل واحدا من الأسئلة الصعبة التي ستطرح نفسها على الجزائريين والتي يتعين عليهم وحدهم أن يجيبوا عنها هو ما شكل وطبيعة البلد الذي سقط الشهداء دفاعا عنه ويطمح الاحفاد للعيش فيه؟
كاتب وصحافي من تونس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول شاهد على التاريخ:

    عدد شهداء الجزائر مليون و نصف المليون خلال ثورة السبع سنوات فقط و هذا موثق في الأرشيف الفرنسي و في سجلات مديريات المجاهدين في الجزائر بأسماء الشهداء فردا فردا في مختلف القرى و المداشر و البلديات و الدوائر والولايات . أما عدد شهداء الجزائر طيلة فترة الاحتلال الفرنسي على مدار قرن و 32 سنة فهو يتجاوز خمسة ملايين شهيد ثمن الحقد الصليبي على المقاومة الجزائرية ذات البعد الاسلامي على مدار سنوات القمع الفرنسي لذلك نجد شخصية المواطن الجزائري التحرري الرافضة للانقياد مهما كان شكله و المناصر لقضايا العادلة في كل أنحاء العالم

  2. يقول عبد الرحيم المغربي.:

    عندما تسأل اليابانيين عن عدد قتلاهم في الحرب العالمية الثانية التي قصفوا خلالها بالأسلحة النووية سيكون الجواب هو مليونين وخمسمائة..بدون زيادة رغم أن الياباني هو من أشد الناس اعتزازا بجنوده القتلى.. والسبب أن هناك وعيا تاريخيا بأن المبالغة ستجعل مصداقية كل الأرقام في محل شك ؛ ولمن صدمه الطرح التبخيسي أن يتحمل مسؤوليته في مثل هذه الردود …وخاصة من ينفي أية مقاومة في بلدان أخرى…وهو يعرف أن عمر المختار حارب إيطاليا عشرين سنة.. وأن ماء العينين والريسوني والخطابي وباسلام والزياني والزرقطوني وايت يدر وغيرهم حاربوا فرنسا و اسبانيا 44 سنة هي عمر الإستعمار في المغرب.. وأن المقاومة التونسية قدمت في يوم واحد في بنزرت آلاف الشهداء والجرحى والمعتقلين… وأن شهادات من اطلقوا ثورة نوفمبر كلها وبدون استثناء تؤكد على دور المغرب وتونس وليبيا التي سبق استقلالها الجزائر..في إطلاق ودعم الكفاح المسلح في الجزائر بعد مدة طويلة من تناوب الإستعمار الإسباني ثم التركي ثم الفرنسي…وبالجملة فإن التاريخ علم استنادي مرجعه الوثيقة .واغلب وثائق المرحلة الإستعمارية. لازال في حوزة الإستعمار ..فلماذا لا يترك مجال البحث التاريخي لأهل الاختصاص..ويبتعد أهل الهتاف والتطبيل..وفي ذلك راحة للشهداء وهم أحياء عند ربهم يرزقون..

  3. يقول ابو عمر:

    بصراحة أظن الأعداد من الشهداء التي نرى اليوم في غزة ، تفوق كل ما وقع في الفترة الاستعمارية ، أولا لنوعية الاسلحة المدمرة التي تستعملها اسرائيل اليوم بالمقارنة مع الاسلحة التي كانت اقل فتكا قبل نصف قرن ، ثم الكثافة السكانية في غزة هي الأكبر في العالم .. فلا داعي للتفتيش في الماضي ، بلا شك ما يحدث اليوم في غزة يفوق كل ما حدث اثناء الاستعمار بشكل كبير.

  4. يقول Zerradabdellatif:

    بعض الأخوة السعوديين، أحيانا يخرجون بتصريحات غريبة ، فسعودي أخر انكر دوران الأرض بحجة أنها اذا كانت تدور فعلا ، عكس دوران عقارب الساعة وانطلت طائرة من الارجنتين فإنها ستصل إلى الصين في وقت قصير لا يتجاوز بضع عشر دقائق ، وحسب رأيه فإن الأرض اذا كانت تدور فان الصين تسير بسرعة نحو العرب والطائرة نحو الشرق ،لذا لن تحتاج الطأئرة إلى وقت طويل للوصول ال هدفها لأن الطائرة تسير بسرعة نحو الشرق والأرض بسرعة نحو الغرب…. ولا استغرب اذا خرج سعودي أخر ليقول لنا ربما أنه لم يكن هناك يوما رسول باسم محمد ، مع كامل الاعتذار إلى الأخوة السعوديين ، فعندنا الأسوأ

  5. يقول مريمة:

    المشكلة هي ان هذا الكم الهائل من الشهداء والجزائر لم تحصل حتى الان من استقلال تام فاستقلالها مرهون باتفاقية افيان

    1. يقول MHMD:

      لكن ماذا معاهدة إكس ليبان وعن سبتة ومليلية والجزر المحتلة من إسبانيا، معاهدة إيفيان واضحة وتم طرد المستعمر نهائيا سنة

    2. يقول MHMD:

      لكن ماذا معاهدة إكس ليبان وعن سبتة ومليلية والجزر المحتلة من إسبانيا، معاهدة إيفيان واضحة وتم طرد المستعمر نهائيا سنة 1962

    3. يقول بوعكاز:

      لم تكن هناك معاهدة مع إسبانيا حول شمال المغرب الذي تعرض للقصف بالأسلحة الكيماوية. ولكن مفاوضات انتهت بالانسحاب. أما سبتة ومليلية فلهما نفس وضع جبل طارق وتايوان وجزر كوريل.

  6. يقول سليمان:

    ياسيدي كل النخب الغربية تجزم ان الاستعمار الفرنسي كان استعمارا استيطانيا اي تفريغ الارض من سكانها اي رقم الصحايا الجزائريين كبير جدا لكن المشكلة ان أولئك الذين لا يملكون اي تاريخ نضالي حقيقي لا تستيطيع ان تقنعهم ان التضحيات كبيرة جدا وان عائلات ابيدت عن اخرها .

  7. يقول أنور من المغرب:

    شكرا للكاتب نيزار على هذا المقال .نحن الجزائريين لا يمكن أن ننسى دور تونس الشقيقة في مساهمتها في الثورة التحريرية بالسلاح و الجنود التونسيين و الدواء و التنسيق و الاعلام و ووو
    ادعو الكاتب المحترم ان يجري بحثا في أحداث ساقية سيدي يوسف و قضية طائرة المجاهدين المسلمة لفرنسا على طبق من دم

  8. يقول هيثم:

    حرب تحرير الجزائر كانت ثورة مجيدة لمقاومة الاستعمار و المجاهدون و من ضمنهم الشهداء لم يحاربوا الطواحين الهوائية بل حاربوا أمام جيش فرنسا المدجج

  9. يقول أحمد / الجزائر:

    خاتمة المقال محرجة؛ (جس النبض):
    (ولعل واحدا من الأسئلة الصعبة التي ستطرح نفسها على الجزائريين والتي يتعين عليهم وحدهم أن يجيبوا عنها هو ما شكل وطبيعة البلد الذي سقط الشهداء دفاعا عنه ويطمح الاحفاد للعيش فيه؟)
    ———————-
    السؤال “الصعب” الذي طرحه الكاتب على نفسه لم يجب هو نفسه عنه لأن السؤال -حسبه -“صعب” .
    – إجابة أي جزائري عايش الإستعمار عن شكل “البلد” وطبيعته الذي يعيش الآن فيه هو “الحمد لله على نعمه وفضله أني أعيش في الجزائر الحرة المستقلة ”
    – أما إذا كان الكاتب يشير -ضمنا- إلى طبيعة “النظام” الحاكم في الجزائر منذ استرجاع الجزائر استقلالها إلى اليوم فإجابة الجزائريين لن تكون إلا بالقول : الحكام السابقون والحاليون واللاحقون هم جزائريون عرب / أمازيغ مسلمون …. وهذا يكفى الجزائري عزا.
    – أخطاء الحكام وفساد بعضهم وظلمهم للإخوة في الوطن الواحد خيانة لأمانة الشهداء.

  10. يقول اوراس 1954:

    ثورتنا عظيمة و لا نحتاج لتضخيم عدد الشهداء لإثبات عظمتها

1 2 3 4

اشترك في قائمتنا البريدية