عرف العلاقات الدولية المعاصرة مخاضا عسيرا، لا محالة سيسفر عن تحولات دراماتيكية وجذرية في موازين القوى في العالم وفي منطقة الشرق الأوسط بالتحديد، ولا شك أن هذه التحولات العميقة سوف تمس بالأساس إعادة تموقع بعض الدول لتحتل مكانتها كفاعل رئيسي في مجرى الأحداث والتطورات الدولية، سواء إقليميا أودوليا. كما أن هذه التحولات ستفرض على كثير من القوى الكبرى الاتجاه نحو إعادة النظر في كثير من أدواتها الإقليمية، في أفق التخلي عنها نهائيا أو على أقل تقدير عدم الاتكال عليها مستقبلا في أي دور إقليمي، إما لتعارض هذه الأدوات مع مصلحتها الإستراتيجية أو لصيرورتها عبئا على سياسة هذه الدول الكبرى، أو لكون هذه الأدوات قد فشلت فشلا ذريعا في إنجاز الكثير من الواجبات التي أسندت إليها. وفي هذا السياق لا شك أن الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها قوة كبرى مثخنة بالجراح والمشاكل التي ورثتها من مغامراتها السابقة في العديد من دول العالم، والتي جعلت قوتها تنحسر إلى الحد الذي لا يمكنها من تكرار هذه المغامرات، على الرغم من الحنين الذي يشد العديد من ساستها إليها، فالقطار الأمريكي الضخم الذي انطلق بسرعة كبيرة جدا أصبح مضطرا لظروف ومعطيات موضوعية وذاتية لتعديل سرعته بما يتلاءم وهذه الظروف، تمهيدا لاستدارة كاملة وما تعنيه من تخل عن كثير من زبائنه المخلصين الذين سيضطرون للنزول من هذا القطار والبحث عن آخر لتكملة المشوار أو التفكير في حلول بديلة أخرى. بطبيعة الحال إذا ما أردنا أن نبحث عن تطبيق عملي لكل الكلام الذي قلناه آنفا، لن نجد خيرا من منطقة الشرق الأوسط التي تعج بالأزمات الدامية والمشاكل الخانقة والتدخلات الإقليمية والدولية، ولعل أوضح أزمتين تؤرقان حاليا بال ما يسمى بالمجتمع الدولي، هما الأزمة السورية وأزمة الملف النووي الإيراني، فما هي أذن تمظهرات هذه الاستدارة للقطار الأمريكي في هذين الملفين الكبيرين، وكيف ستنعكس هذه الاستدارة على توازنات وعلاقات دول المنطقة سواء إقليميا أو دوليا؟ بالنسبة للأزمة السورية ومنذ الوهلة الأولى لتحول الحراك الشعبي في سورية نحو العسكرة، وبالتالي اتخاذه شكل صراع دموي مقيت بين المعارضة المسلحة والجيش النظامي السوري، ارتفعت الأصوات عاليا ، وتحرك المتحركون في الخفاء والعلن ليعلنوا وبشكل فيه الكثير من الجزم بأن أيام النظام السوري باتت معدودة ولن تتجاوز على أكثر تقدير عدة أشهر، غرهم في ذلك تساقط رأسي النظام في تونس ومصر، وانهيار نمط الحكم البدوي الذي كرسه معمر القذافي في ليبيا، إلا نظرية ‘أحجار الدومينو’ لم تسعفهم هذه المرة في سورية، التي مازال النظام فيها صامدا فلا بشار الأسد تنحى ولا جيشه انفض من حوله، ولا حتى دبلوماسيته تخلت عنه، فها نحن قد شارفنا على السنتين ونصف السنة، ولا شيء قد تحقق عمليا بالنسبة للمعارضة المسلحة سوى الدمار والفوضى وبرك الدماء التي تأن من فرطها بلاد الشام، إضافة إلى مزيد من الهزائم وفقدان السيطرة على مناطق لم يكن أحد من هذه المعارضة يعتقد أن النظام يستطيع استعادتها، خاصة في الريف الحلبي وحمص والقلمون، فبعدما كثر الهرج والمرج حول انعقاد ‘جنيف2’، وبعد كثير من الوقت الإضافي الذي منح للمعارضة المسلحة وحلفائها في المنطقة علها تستطيع في الحد الأدنى تحقيق توازن ميداني يمكنها من التأهل لـ’جنيف2’، إلا أن هذا الوقت الممنوح زاد طين هذه المعارضة بلة، فبعد الضربة القاسية التي تعرضت لها المعارضة المسلحة في ‘القصير’، التي شكلت منعطفا حاسما في مسار الصراع الدموي في سورية، ها هو الجيش النظامي ‘يفكر بهدوء ويضرب بقوة’ (كما قال أسطورة المقاومة الريفية الزعيم المغربي الكبير عبد الكريم الخطابي) ليس فقط في ريف دمشق، ولكن في حلب وحمص وفي القلمون مؤخرا، مما يكشف عن تهاو تراجيدي للمعارضة المسلحة، ناتج عن أزمة في البنية العسكرية والسياسية لها ساهمت فيها معطيات ذاتية وموضوعية، لعل أبرزها كان فشل هذه المعارضة في توحيد صفوفها تحت قيادة ميدانية واحدة، وفتحها المجال لألوان التيارات الجهادية المتطرفة والمتعددة الولاءات لتسرح وتمرح في سورية، زيادة على فشل الرهان على تصدع القيادة النظامية في شقيها العسكري والسياسي، مما ولد قناعة أضحت مترسخة أكثر فأكثر لدى جميع المتدخلين في الأزمة السورية، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها، الذين باعوا الكثير من الأوهام الوردية لهذه المعارضة. أمام وضع كهذا يبدو جليا أن الاقتناع بعقد ‘جنيف2’ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بات أمرا أكثر من ملح وهذا ما يعمل عليه الجميع بشكل جاد هذه المرة، على الرغم من التضارب والتناقض الذي يظهر من خلال عدم تحديد موعد لهذا المؤتمر العتيد، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية التي تعمل على جمع المعارضة وتدريبها على تقنيات التفاوض، من أجل التوجه إلى جنيف. أما كلام المعارضة عن عدم الحضور وتحديد شروط لحضورها فهولا يعدو كونه لغوا من الحديث، فالمعارضة لا تمتلك أمرها حتى تقرر الحضور من عدمه، فهي ليست حتى أداة يمكن إرضاء بعض دلالها كما تفعل إسرائيل . من زاوية أخرى فإن الملف النووي الإيراني الذي كان موضوع مباحثات عديدة بين إيران والغرب قد عرف مؤخرا انعطافة مهمة ساهمت فيها متغيرات داخلية إيرانيةن تجلت في صعود الرئيس حسن روحاني للحكم وما يمثله من توجه معتدل ومنفتح في السياسة الإيرانية، وأخرى خارجية أدت إلى قناعة الغرب بضرورة إيجاد تسوية سلمية لهذا الملف ترضي الجميع، من أجل هذا الهدف انطلقت مفاوضات بين إيران والسداسية الدولية، ومهما قيل عن هذه المفاوضات وصعوبتها وكذا العراقيل التي تحيط بها، فإن الجو العام المحيط بها ينم عن كونها ستحرز تقدما جيدا للغاية، على الرغم من كون الكثير من القضايا المهمة بحاجة للحل، وأن هناك فرصة تاريخية لحل هذا الملف، بحسب وزير الخارجية البريطاني وليام هيغ. وفي مقابل هذه المسحة من التفاؤل الذي قد يؤشر الى تقارب تاريخي بين إيران والغرب، خاصة أمريكا، فإن ‘إسرائيل’ أصيبت بهستيريا كبيرة جدا جراء إمكانية التوصل لحل لملف إيران النووي، حيث قاد نتنياهو حملة شرسة من أجل التصدي لأي حل سلمي لهذا الملف، عبر أكثر من اتجاه، وقد بدأت أولى هذه الحملات في الجمعية العمومية للأمم المتحدة، التي فشلت فيها إسرائيل فشلا ذريعا، مرورا بالضغط على الولايات المتحدة الأمريكية والتحالف مع دول خليجية، وصولا إلى الزيارة الأخيرة إلى موسكو للتأثير على القيادة الروسية. وإلى جانب كل هذا فإن إسرائيل وإيمانا منها بكون حل الملف النووي الإيراني يعني ما يلي : ـ أن إيران أصبحت دولة إقليمية عظمى في المنطقة معترفا بها وتمكنها من ملء الفراغ الأمريكي بالمنطقة بما لا يتماشى والمصالح الإسرائيلية. ـ تمكن طهران من التمدد على أكثر من اتجاه عبر شراكات إقليمية ودولية في غير صالح إسرائيل. ـ حصول تقارب بين الغرب وإيران الذي لن يكون أبدا على حساب الثوابت الإيرانية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وكذا حقها في الحصول على التقنية النووية لأغراض مدنية . ـ إن حل الملف النووي الإيراني سلميا، إضافة لحل مسألة الكيميائي السوري، يعني عمليا نزع المبررات التي تتشبث بها إسرائيل أمام دول العالم، وما يعنيه أيضا من ضرورة فتح المنشآت النووية والكيميائية الإسرائيلية للتفتيش. مما جعل إسرائيل تعمل إضافة لحملتها الإعلامية والسياسية والدبلوماسية من أجل عرقلة أي اتفاق بين إيران والسداسية على اختراق الجوار الإيراني وذلك عبر: ـ استغلال تقاطعات المصالح في الملف الإيراني بينها وبين دول الخليج، خاصة السعودية لإيجاد نوع من التحالف غير العلني، بهدف عرقلة الاتفاق الدولي مع إيران. ـ تقوية علاقاتها مع الدول المحيطة بإيران خاصة أذربيجان، تركمانستان وكازاخستان، وتذكية الخلافات بينها وبين إيران، خاصة في مسألة تقسيم ثروات بحر قزوين أو بحر الخزر. وفي هذا الإطار فإنه وعلى الرغم من الحرص الشديد للقيادات الأمريكية، على مر تاريخها، على حماية إسرائيل ودعمها بالمال والسلاح والغطاء الدولي، نظرا للدور الذي يلعبه هذا الكيان كصمام أمان للمصالح الغربية والامبريالية في المنطقة، فإن ذلك لن يكون على حساب المصلحة الإستراتيجية الأمريكية التي تقتضي معالجة الملف النووي الإيراني بالطرق السلمية، وتفادي مواجهة حتمية قد تكون كارثية على الجميع، وبالتالي فإن عدم مسايرة أمريكا لمتطلبات أداتها الرئيسية في المنطقة، وهي إسرائيل في هذه النقطة بالذات نابع من تشخيص إستراتيجي للمصلحة القومية والإستراتيجية لبلاد العام سام، شأنها في ذلك شأن تخليها عن كثير من حلفائها في المنطقة. مجمل القول ان منطقة الشرق الأوسط مقبلة على تحولات دراماتيكية كبيرة جدا بدأت معالمها تتضح شيئا فشيئا، ولعل استدارة القطار الأمريكي على الرغم من الوقت الطويل الذي تتطلبه هذه الاستدارة، نظرا لحجمه وضخامته، تعتبر أحد أهم مؤشرات هذه التحولات العميقة، وهذا ما نلمسه من خلال حنق وخيبة أمل الكثير ممن اعتبروا أنفسهم حلفاء للولايات المتحدة، من بينهم المعارضة السورية والسعودية إضافة لإسرائيل، والواقع أن أمريكا والغرب عموما كثيرا ما تخلوا عن حلفائهم الذين أسدوا إليهم خدمات جليلة، ولعل الماضي القريب جدا يخبرنا كيف تخلى الغرب عن نظام صدام حسين وعن القذافي، على الرغم من كل ما قدموه من أجل هذا الغرب، وعليه فإن مبدأ لا صداقات ولا عداوات دائمة، بل مصالح دائمة هي ما يحرك السياسة الغربية اتجاه القضايا الدولية مهما كانت أطراف هذه القضايا، سواء تعلق الأمر بأدوات أو وكلاء أو أصدقاء أو حتى أعداء.
I was looking for this specific the other day. i won’t commonly post throughout forums but i want to to say thank you!