ما الذي جرى الأحد الماضي في محيط البلدة المغربية المحتلة؟ هل يتعلق الأمر بمجرد محاولات عفوية قام بها بعض الشباب اليائس والغاضب لاقتحام سبتة، سعيا وراء فرص عيش أفضل؟ أم أنه كان جزءا من خطة أوسع حجما، أو ربما حتى من مؤامرة دبرت بهدف ضرب العلاقات المغربية الإسبانية، التي تعرف انتعاشا وصعودا لافتا منذ فترة؟ ربما لن تتكشف في القريب كل الحقائق والتفاصيل الدقيقة لما حدث يومها. لكن من الثابت الآن أن جزءا كبيرا من وسائل الإعلام المغربية باتت توجه أصابع الاتهام مباشرة إلى الجارة الجزائر بالضلوع في تحريض الشباب، عبر صفحات وحسابات على منصات التواصل الاجتماعي على المشاركة في ما وصفت بـ»ليلة الهروب الكبير».
والمفارقة هي أن معظم وسائل الإعلام الجزائرية، بما فيها وكالة الأنباء الرسمية، لم تجد من تفسير آخر لما حصل في ذلك اليوم سوى القول، إن آلاف المغاربة الراغبين في الهجرة غير الشرعية حاولوا «الفرار من مدينة الفنيدق إلى سبتة بالجيب الإسباني هربا من الفقر المدقع وضنك المعيشة بسبب سياسات المخزن المستبدة»، على حد وصفها. فيما لم تتردد قناة الجزائر الدولية بدورها في الإشارة إلى أن «المخزن» أي النظام المغربي هو من ألقى بأبنائه إلى سبتة، لابتزاز الاتحاد الأوروبي، من دون أن توضح شيئا حول طبيعة ذلك الابتزاز.
أهم ما يحرص عليه المغرب والإسبان الآن أن تظل علاقتهما متماسكة وبعيدة عن أي هزات، فحجم المصالح المشتركة بينهما لا يسمح لهما بالمخاطرة بالمساس بها
ومن الواضح أن محاولات الاقتحام الجماعي للبلدتين المحتلتين أي سبتة ومليلية، أو حتى الصدامات والمواجهات التي تحدث على مقربة منهما، تبعث دائما على الحيرة والتساؤل عن الجهات، أو الاطراف التي تقف خلفها، أو تقوم بالتحريض عليها وعن الغايات الحقيقية من ورائها، لكن الوجه الآخر لتلك المحاولات هو أنها تكشف في بعض الأحيان عن وضعيات لم تعد في الوضع الحالي مقبولة، فهي تعيد إلى الواجهة لا فقط مظاهر الفقر والتهميش التي قد تعاني منها بعض الفئات الاجتماعية، بل أيضا حدة التناقضات الجيوسياسية التي سببها استعمار دولة أوروبية لأرض افريقية، تحولت بفعل استمرار ذلك الاستعمار إلى معبر للهجرة السرية نحو أوروبا. ولعل هناك من سيقول إن معظم من يقومون بتلك العمليات هم في الأساس شباب يائس ومهمش يبحث عن فرص عيش وعمل، وقد لا تشغله بالضرورة مسألة الاستعمار الاسباني، بل قد لا يفكر أصلا في الحاجة لعودة سبتة ومليلية إلى السيادة المغربية، لكن ألم ينتبه العالم قبل ثلاث سنوات من الآن، إلى خطورة ما حدث في ذلك الوقت عندما اجتاح نحو عشرة آلاف شخص معظمهم من الشباب والقصر، وفي ظرف يومين فقط بلدة سبتة المحتلة؟ ألم يزعزع ذلك الاجتياح الواسع والمفاجئ أركان إسبانيا، ويتردد صداه داخل أوروبا بأكملها؟ لقد تساءل البعض في ذلك الحين، إن كان ممكنا أن تتحول بعض عمليات التسلل أو العبور التي تحدث بشكل جماعي إلى شرارة حرب تحرير غير تقليدية، لا تعتمد على ترسانات أسلحة متطورة، بقدر ما تقوم فقط على العنصر البشري وحده. وكان المثال الحي الذي استلهمه كثيرون في ذلك الصدد هو، الدعوة التي أطلقها العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني منتصف السبعينيات وعرفت بالمسيرة الخضراء وتمثلت في توجه أكثر من ثلاثمائة ألف مغربي ومغربية «كرجل واحد وبنظام وانتظام» مثلما قال في خطابه نحو ما كانت تعرف في ذلك الوقت بالصحراء الإسبانية لاستعادتها من سيطرة مدريد. غير أن البون قد يبدو شاسعا الآن بين تلك المسيرة، ومحاولات الاختراق الجماعية للبلدتين المحتلتين.
وربما ربط البعض بين التوتر الذي عرفته العلاقات المغربية الإسبانية قبل ثلاث سنوات من الآن، وتمكن ما قدرته السلطات الإيبيرية بنحو عشرة آلاف شخص من دخول سبتة بشكل غير شرعي في ظرف يومين فقط. لكن كيف تنظر مدريد اليوم لما حدث الأحد الماضي بالقرب من المدينة المحتلة؟ حتى إن لم تعلق السلطات بشكل فوري، إلا أنها لن تتأخر بالتأكيد في فهم ردة الفعل المغربية، فالحشد الأمني الكبير الذي أرسلته الرباط والتدابير التي أخذتها لمنع عمليات التسلل تعني أن المغرب باستطاعته أن يتحكم وإلى حد كبير في أمن البلدتين المحتلتين في وقت يدرك فيه جيدا أن محاولات الهجرة غير النظامية نحوهما باتت تمثل هاجسا مقلقا، بل حتى مرعبا لمدريد، لكن هل تمثل تلك المحاولات من جهة أخرى اختبارا للجانبين المغربي والإسباني بعد أن فتحا صفحة جديدة في علاقتهما قبل عامين، حتى يحافظا على مستوى عال من التعاون والتنسيق بينهما؟ ربما ستساعدهما على وضع تصورات مشتركة. ويجدر التذكير هنا بما توقعه محلل استخباراتي إسباني معروف هو فرناندو كوتشو في أغسطس الماضي من أن البلدين سيتوصلان مطلع 2030 إلى اتفاق حول «السيادة المشتركة» على المدينتين بمباركة من الاتحاد الأوروبي وفرنسا، وأن ما يدفعه لمثل ذلك التوقع هو ما وصفها «بمساعي الرباط لعزل هاتين المدينتين المتمتعتين بالحكم الذاتي اقتصاديا وتعزيز وجودها العسكري في المنطقة، في حين تظل الحكومة الإسبانية غير نشيطة في مواجهة هذه المناورات»، على حد تعبيره. ورغم استغراب مصادر حكومية مغربية من تلك التصريحات وتشديدها في حديث إلى موقع لصحيفة «الإخباري» على «أن العلاقات المغربية الإسبانية مبنية على الاحترام المتبادل وتقوم على مبادئ واضحة ومؤسسة على الثقة، خاصة في مجالات مرتبطة بالسيادة، بحيث لا يتخذ أي طرف قرارات انفرادية تهم الطرف الآخر، كما أن التعاون الاقتصادي على أساس الربح للطرفين دليل آخر على المستوى غير المسبوق، الذي وصلت إليه العلاقات في إطار تنفيذ خريطة الطريق المبرمة بين المملكتين»، الا أن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو، هل يمكن لما حدث في سبتة أن يفتح الباب أمام طرح مسألة مستقبل ومصير المدينتين المحتلتين، وباقي الثغور والجزر المغربية المحتلة على طاولة الحوار والنقاش بين المغاربة والإسبان؟ حتى الآن يرفض الإيبيريون جملة وتفصيلا أي حديث في الموضوع، مصرين على أن المسألة هي من صميم المسائل السيادية، التي لا تقبل النقاش والتفاوض. لكن هل يمكن لمدريد أن تتحمل والى وقت طويل الثمن الباهظ الذي تدفعه لأجل التمسك بتلك المناطق؟ لا شك بأن تكرر محاولات الاقتحام الجماعية للبلدة المحتلة، قد يفتح أعين كثير من الإسبان حول حاجة مدريد للتخلص من عبء سبتة ومليلية، لكن إلى مدى قد تتطور تلك الحاجة لتصبح قناعة شعبية في البلاد؟ من المؤكد أن الأمر وعلى ضوء التعقيدات الداخلية وصعود التيارات اليمينية، سوف يتطلب مزيدا من الوقت. غير أن أهم شيء يحرص عليه الطرفان الآن هو أن تظل علاقاتهما صلبة وقوية ومتماسكة وبعيدة عن أي هزات أو اضطرابات. فحجم المصالح المشتركة بينهما لا يسمح لهما بالمخاطرة بالمساس بها بأي شكل من الأشكال، ولأجل ذلك فإن ما حدث الأحد الماضي في سبتة وبغض النظر عن الجهة التي تقف وراءه لن يضعف من تلك العلاقات بل قد يقويها.
كاتب وصحافي من تونس
ما جرى مجرد تدريب على احتجاجات المقبلة. و معرفة كيفية تعامل معها
ماوقع بالفنيدق من هجرة علنية له علاقة بالظروف الاجتماعيه والاقتصاديه الصعبة التي أصبح يعاني منها الشعب المغربي وعلى الحكومة التحرك لايجاد حلول فعالة قصد زرع الأمل في نفوس الشباب حتى لايهربوا من وطنهم