نقلت الصحف الإسرائيلية يوم الأربعاء الفائت تصريحا على لسان هرتسي هليفي، قائد أركان الجيش الإسرائيلي، أعلن فيه «احتمال نشوب حرب في الشمال، صار اليوم أكبر من الماضي، وعندما نضطر سنندفع إلى الأمام بكل القوة». جاءت أقواله خلال اشتراكه في عملية تدريبات واسعة قامت بها قوات جيش الاحتياط على الحدود مع لبنان.
كثرت في الآونة الأخيرة التكهنات حول رغبة الحكومة الإسرائيلية بفتح المواجهة العسكرية مع حزب الله في الأراضي اللبنانية، خاصة بعد فشل هذه الحكومة وجيشها بتحقيق النصر على حماس، رغم مرور مئة وخمسة أيام على بدء الحرب على غزة. ليس هناك إجماع داخل إسرائيل على صحة وضرورة هذه الخطوة ضد لبنان، فكثيرون يعزون هذه الرغبة لدوافع نتنياهو الشخصية، ولتخطيطه لإطالة حالات المواجهات العسكرية التي تساعده في إبطاء إجراءات محاكمته الجنائية، وترجئ، في الوقت ذاته، إمكانية إخضاعه وحكومته للمساءلة حول فشلهم في أحداث السابع من اكتوبر الماضي.
من المؤكد أن نتنياهو وجماعته يقرأون مثلنا انتقادات المحللين والمعقبين اليهود والأجانب، وتساؤلاتهم المتزايدة حول مصير ونجاعة العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة خاصة، وحول أنها تُنفّذ من دون أهداف سياسية معرّفة ومحدّدة وبأساليب أوقعت أعدادا رهيبة من الضحايا من المدنيين، وتسبّبت بتهجير مئات الآلاف والدمار الكبير؛ وهي الصورة التي أوصلت إسرائيل إلى «محكمة العالم» – وهو أحد الأسماء التي تُطلق على محكمة العدل الدولية في لاهاي – واتهامها بارتكاب جريمة «إبادة شعب» وهي أبشع الجرائم في تاريخ الإنسانية. تجري داخل الرأي العام الإسرائيلي تحوّلات بطيئة، لكنها مهمة ولافتة؛ وهي تحوّلات تكشف عن حركة اصطفافات جديدة بين القوى المعارضة والمؤيدة لسياسات حكومة نتنياهو، وقرارتها العسكرية والسياسية والاقتصادية. ما زال الغموض في هذه المرحلة سيد الموقف، ولا يمكن لأحد أن يتكهن حول وجهة الرياح السياسية الجديدة، ولا إلى أين ستفضي تداعياتها وتفاعلاتها حاليا. فهناك بدايات لمخاضات فكرية جديدة ونقاشات واعية وجريئة وإعادة حسابات، ما زالت في الهوامش، لكنها تدل على أن حالة الإجماع الصهيوني الجنوني الذي تملّك قلوب وعقول المواطنين اليهود في إسرائيل وعبر بحار وجبال المعمورة، بدأ يتصدع، وأن علامات الانكماش بدأت تظهر عليه، والجَزر يحسر بعض شطآنه. لقد قرأنا مؤخرا عدة منشورات كتبها أكاديميون وإعلاميون وسياسيون وعسكريون في الصحف، وعلى مواقع التواصل، عبّروا فيها عن مواقف تعاكس التيار الذي ساد في فضاءات الدولة؛ وقد نستشف أن كُتّابها استنتجوا أن حالة الهلع التي تملكتهم في السابع من أكتوبر، لن ولا يمكن أن تتداوى، أو تواجه عن طريق التخلص من الفلسطينيين عسكريا، كما آمنوا بعد الصدمة؛ فإسرائيلهم تعيش مئة عام من الحروب ولم تنَم خلالها إلا على خوف ولم تصحُ، هي وجيرانها، إلا على فراش من دم. لا أعرف كيف ستتصرف هذه الأقلية الخائفة والمترددة في بحر الظلمة الذي يلف المجتمع الإسرائيلي ويعميه، وفي دولة احتلال تسيطر عليها حكومة مكوّنة من أحزاب مؤمنة بفوقيتها اليهودية، العرقية والربانية، ويسكنها شعب تؤمن قطاعات واسعة منه بأنهم يقفون في هذا «الزمن المسياني» على عتبة مرحلة خلاصهم الرباني، وأنها ساعتهم للقضاء على «عمليق» هذا العصر، أي على الفلسطينيين. نحن وهذه الأقلية المعارضة اليهودية سنواجه جيوشا من «المؤمنين» تصحو وتنام كل يوم برؤوس مرفوعة إلى الاعلى شاكرين ربهم لأنه خلقهم يهودا وأسيادا في هذه البلاد.
هناك بدايات لمخاضات فكرية جديدة ونقاشات جريئة وإعادة حسابات، تدل على أن حالة الإجماع الصهيوني الجنوني الذي تملّك عقول المواطنين اليهود في إسرائيل بدأ يتصدع
توجد بيني وبين بعض هؤلاء اليهود المعارضين أو المحبطين نقاشات تبدو أحيانا متّزنة وهادئة بينما تتخطى الاتهامات، وتحتدم أحيانا حتى نهدأ لنعود نفتش عن انفاسنا بين حطام الكلام. قرأت قبل أيام في جريدة «هآرتس» مقالة لافتة للمحاضرة في العلوم السياسية والفلسفة إيفا إيلوز بعنوان «ثلاث جبهات، خطر وجودي، وحل واحد»؛ تتحدث فيه عن الخطر الوجودي الذي تواجهه إسرائيل، حسب رأيها، من ثلاث جبهات مختلفة. الأولى، هو الخطر العسكري المتشكل ضدها من ست جهات، (حزب الله، حماس، الضفة الغربية، الحوثيون، إيران، سوريا). الثانية، هو خطر سياسي داخلي يتمثل بثلاثة عناصر؛ أولها، مجموعة أعضاء كنيست متدينين «مسيانيين» يسعون لتنفيذ ترانسفير ضد الفلسطينيين وإخضاع المواطنين العرب داخل إسرائيل إلى نظام يعتمد على فوقية يهودية. وثانيها مجموعة اليهود «الحريديم» التي لا يؤمن اتباعها بالديمقراطية ويعيشون عالة على الدولة؛ وثالثها ما سمته «البيبيزم» أي «النتنياهوية» الذي يتمثل بنظرية سياسية يمينية تؤمن بعبادة الفرد، حيث يستطيع هذا القائد أن «ينوّم الشعب مغناطيسيا» حتى يغضّوا عن أفعاله أنظارهم، رغم أنه لا يعمل لمصلحتهم، ويدفع بدولتهم نحو الهاوية. أما الخطر الوجودي الثالث برأيها فهو الانهيار البنيوي الكامل الحاصل داخل الدولة، وتحلل مبناها الاجتماعي كله. وتقدّم الكاتبة تحليلا مفصلا لهذه العوامل، وتؤكد أن إسرائيل لا- ديمقراطية لن يكتب لها الحياة، «فدون ديمقراطية ودون حلّ سياسي لقضية الاحتلال المستمر، ستبقى إسرائيل دولة عنصرية ومنبوذة ومقاطعة من قبل العالم». ثم تصل في نهاية مقالها إلى ما تقترحه كحل ومخرج لإسرائيل من هذه الأزمة وتقول «تحتاج إسرائيل الآن إلى حركة وسط اشتراكية ديمقراطية واسعة بهدف تجديد الميثاق الاجتماعي بين المواطنين والدولة؛ فبمثل هذه الحركة تستطيع أن تستعيد اسرائيل القوة التي سلبت منها». قرأت وتساءلت أين نحن، المواطنين العرب، من هذه الاجتهادات، رغم أننا، كما تتوقع هي ونتوقع، سنكون أول ضحايا هذه المخاطر الوجودية.
أجابني أحد الأصدقاء اليهود الذين أرسلت لهم المقال قائلا: «اعتقد أننا نقف فعلا على حافة شق عميق. يوم السابع من أكتوبر أدّى إلى قتل شعب. لقد قُتل شعب يحب السلام. شعب لا يعرّف هويته بدينه أو بأصله، إنما عن طريق اختياراته وقيمه. هذا هو الشعب الذي قُتل في السابع من أكتوبر ومن بقي هما شعبان لا يقبل الواحد منهما وجود الآخر، ويفعل كلّ منهما ما يستطيع كي يقمع، أو ربما يقضي على الآخر. هذان الشعبان ليسا شعبينا، أنا وأنت، فنحن ننتمي إلى شعب ثالث قتل فيما يبدو في السابع من أكتوبر، وإذا لم يقتل فمن المؤكد أنه قد أصيب إصابة بالغة». كلام جديد يخرج عن مواطن يهودي صهيوني، يمثل شريحة كاملة، شرع يشعر، مثل آخرين، بأن حكام دولته شركاء في قتل الشعب الذي كنّا كلانا ننتمي إليه! قابلته.. كان محبطا وخائفا من المستقبل الداهم ومن تداعيات هذه الحرب التي قد تتّسع إلى الشمال، كما صرح قائد الأركان، وإلى جبهات أخرى. أفهمني أنه خائف من حالة الكراهية المتنامية التي تغذيها الدوافع الدينية المتطرفة؛ ثم أضاف: «على فكرة، الخوف عندي من انتصار اليهود على العرب، وفي غزة اليوم، ليس أقل من الخوف المعاكس، لا يوجد لي ما أفعله في مجتمع يهودي «مسياني» عنصري. سيكون ذلك أكثر مما أستطيع تحمّله». حدثني كيف ولد في بيت جبوتنسكي/ ليكودي نجا افراده من براثن الكارثة، وكيف آمن بإسرائيل القوية، لكن الأيام ورفضه أن يدمن على الخوف غيّروه، خاصة بعد مئة يوم من الحرب على غزة. سألني عن أحلامي ومخاوفي فحدثته عنها، ووجد أنها من جنس أحلامه، وأن خوفي أكبر من خوفه، وكذلك قلقي على مستقبلنا هنا. كان قلقا حتى الغضب من صعود القوى الدينية المسيانية الصهيونية المتزمتة، وائتلافها مع القوى القومية الراديكالة الفاشية، فهم لا يعرفون إلا لغة القوة ويربّون أتباعهم على مشاعر التفوّق العرقي والديني وعدم قبول الآخر. يخيفه أن القوى اليسارية والعلمانية والتقدمية قد فقدت قوتها داخل المجتمع الإسرائيلي وأن الحيزات العامة باتت تحت سيطرة الغوغائيين والفاشيين. سألني إذا كان خوفه وخوف اليهود أمثاله يهمني أو يعني أي شيء لي فقلت: بلى وقرأت أمامه ما كتبته مرة في مقالة تحدثت فيها عن «حقنا وخوفهم» وأضفت أنني ما زلت أومن بأن مسألة انتشار الخوف بين المواطنين اليهود هي قضية يجب أن تهمنا، وأنّ علينا أن نواجهها كي نحيّدها بجرأة وبنجاعة وبصلابة. وافقنا على أن البداية يجب أن تكون في إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وفي تبني نهج ديمقراطي صحيح تجاه المواطنين الفلسطينيين داخل إسرائيل؛ فمن دون ذلك سيستمر المجتمع اليهودي في تغوّله والمجتمع العربي بالتقهقر والهرولة نحو الهاوية ويتيه شبابه أكثر ويفعلون مثلما يؤمرون أن يفعلوا، فبعضهم سيرفع رأسه لأنه مسلم، وآخر سيفعل المثل لأنه مسيحي وثالث لأنه درزي، في وضع تبخر فيه اليسار وباتت مجتمعاتنا تحيا دون كوابح واقية، وتعاني من حالة انهيار في عالم القيم التي تربينا عليها.
اتفقنا، ونحن أكثر من اثنين، على ضرورة العمل من أجل تغيير الواقع فبدّدنا للحظات خوفنا وتجرّعنا نقطتين من الأمل.
كاتب فلسطيني
استعادة الفلسطينيين لارضهم و حقوقهم هي الوسيلة الوحيدة لضمان امن الاسرائليين. عكس ذلك سيجعل الاسرائليين مطاردين من طرف الشعب الفلسطيني محققا مقولة وراك و الزمن طويل.
النتن ياهو بانتظاره مصير أسود حالك، وإن غدا لناظره قريب وارتقب إنهم مرتقبون والقادم أسوأ سيحدث في قادم الأيام يا هامان 😏☝️