هل سيقدم الانقلابيون الجدد نموذجا جديدا للحكم في افريقيا؟

حسب ما يقدمه موقع statista المتخصص في الإحصائيات الاقتصادية والسياسية، فإن القارة السمراء شهدت في الفترة الممتدة بين شهر كانون الثاني/يناير 1950 الى غاية آب/أغسطس 2023 221 انقلابا عسكريا على السلطة، بنسبة 44% من إجمالي عدد الانقلابات العسكرية في العالم.
من خلال هذه الإحصائية يمكنك أن تستوعب أن لأفريقيا طقوسها الخاصة في تداول السلطة، وأن ما جرى في النيجر وما يجري في الغابون الآن وربما ما سيحدث في مكان آخر ما هو إلا نتيجة منطقية لغياب ممارسة ديمقراطية حقيقية في مجتمعات مضطهدة، مفقرة ومجوّعة لا تملك من أمرها شيئا، وتكتفي فقط بمشاهدة صراع وكلاء الاستعمار في صمت ثم تصفق للفائز.
مطلب “العودة الى الشرعية” الذي يلي كل انقلاب يحدث، لا يراعي طبيعة الحكم الذي أتى من خلاله الانقلابيون الذين فقدوا السلطة بقدر ما يراعي مصالح الدول التي تقدمت به أو وجهة نظرها من التغيير الجديد الذي حدث. وسواء كان وصول الرؤساء الى السلطة عبر صناديق الانتخاب فإن شرعيتهم بالأساس محل شبهة، ذلك لأن العملية الديمقراطية في الدول الافريقية عامة مع وجود بعض من الاستثناءات هنا وهناك، لا تخلو من تدخلات خارجية ومن توظيف أجندات الدول، في حين تبقى الشعوب الحلقة الأضعف في رسم المشهد السياسي.

الابتزاز السياسي

على مدار عقود دعمت فرنسا، بصفتها الطرف الأكثر تأثيرا في افريقيا مبدأ، “اللاشرعية في الحكم ” وهي استراتيجية أوصلت وكلاءها الى السلطة بطرق ملتوية، واستعملت في العديد من المرات نفوذها الخارجي لتمرير الانقلابات وجعلها تبدو حدثا بلا حدث. كما وظفت السلطة الرابعة في محاولة لتبييض صورة قائد الانقلاب ووضعه في ثوب المنقذ أو لتنفيذ نوع من الابتزاز السياسي الذي يدفع بوكلائها الى تقديم المزيد من الولاء. ومرت سنوات وسنوات دون أن تتطور الديمقراطية في أفريقيا، بل أن فرنسا عملت في الأساس على التضييق على المعارضين والمطالبين بالديمقراطية وقدمتهم كقرابين لوكلائها وهو ما ساعد في تبيث أقدام الانقلابيين في السلطة لفترات طويلة.
أسفر هذا النهج الفرنسي عن وجود بنية حكم هشة قابلة للتغيير بنفس الأدوات التي أتت بها الى السلطة، وساهم هذا في إبعاد الخطر الحقيقي الذي تخشاه فرنسا، فمساعدة الديمقراطية الحقيقية على النمو تعني احتمال وصول سلطة منتخبة شعبيا لها مشروع وطني لا يتقاطع مع مصالح فرنسا بل يهدف في الأساس الى محاربة مصالحها البراغماتية، وبهذا ضمنت فرنسا أن عملية التغيير في أفريقيا ستبقى مقتصرة في شكل “صراعات أجنحة ” وهو ما يجعل التدخل فيها أمرا سهلا يضمن مصالحها حتى مع تغير الأسماء في السلطة. وبما أن الانقلابيين دائما بحاجة لدعم خارجي يحمي انقلابهم من الفشل فإن فرنسا مستعدة دائما لتقديم ذلك الدعم لمن يريد خدمتها والسير على نفس المنوال الذي سار عليه الانقلابيون السابقون.
لكن ما الذي تغير في أفريقيا اليوم؟ وهل استطاعت النيجر والغابون من خلال هؤلاء الانقلابيين أن تتحرر فعليا من فرنسا؟ وما الذي يجعل فرنسا تخشى بشدة فقدان تأثيرها على قواعد اللعبة في أفريقيا؟ بطبيعة الحال فإن وجود طرف ثالث في المعادلة يستدعي كل هذا القلق الفرنسي إزاء التطورات في مستعمراتها الجديدة، إدراكا منها بأن الانقلابيين الجدد قد وجدوا في الصراع العالمي الحالي عرضا سخيا من روسيا اللاعب الجديد في أفريقيا للدفاع عن شرعية انقلابهم ودعمها بالمال والسلاح والغذاء الذي كانت تقدمه فرنسا لكل من يفكر بالسلطة ويطلب نجدتها في الحفاظ عليها.

انقلابيو أفريقيا

وجد انقلابيو أفريقيا الجدد في صراع روسيا والناتو عرضا جديدا يؤمن الحصول على شرعية شعبية ربما تجعلهم يحافظون على سلطتهم لفترة طويلة الأمد، بعد أن أيقنوا من خلال تجارب الانقلابيين السابقين على مدار عقود متتالية بأنه “لا صديق دائما لفرنسا” وبأنها على استعداد دائم لأن تقدم خدماتها لجميع الطامحين في السلطة شريطة أن يلبوا مصالحها بالدرجة الأولى، لهذا فالانقلابيون الجدد يرون في روسيا بديلا لفرنسا التي طالما تصرفت مع وكلائها بمنطق الموظف الذي يتقاضى أجرا مقابل عمله.
الانقلابيون الجدد لا يتوقعون من روسيا نشر قيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان ولا ينتظرون منها ذلك، لأن مثل هذه القيم تعني نهاية حكم الاستبداد والتفرد بالسلطة الذي لا يعرف الانقلابيون شيئا آخر سواه، كما أن فاقد الشيء لا يعطيه فروسيا صاحبة الإرث السوفياتي كانت وما زالت تتعامل بمنطق ليس ببعيد عن سياسة فرنسا في تعاملها مع إرثها الاستعماري.
بعيدا عن فكرة التحرر والانعتاق من قيود فرنسا التي تراجع دورها بتراجع وزنها وثقل دبلوماسيتها ونفوذها السياسي في عهد ماكرون، يأمل الانقلابيون الجدد المدعومون من روسيا بالدرجة الأولى والصين بدرجة أقل في أن يدفع الشركاء الجدد في القارة بتعزيز موقعهم في السلطة، وأن يقدموا حصة أكبر من الكعكة عندما تقدم لهم موارد البلاد الطبيعية للاستغلال، غير ذلك فإن الاعتقاد بأن الانقلابيين الجدد سيمهدون الطريق نحو تجربة ديمقراطية فعلية تحرر البلدان من التبعية، هو اعتقاد واهم، لأن الديمقراطية لم تكن يوما صديقة للانقلابيين. وباختصار …. لا يوجد من يحفر قبره بيده.

كاتب فلسطيني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية