هل فتح اتفاق أذربيجان وأرمينيا الباب لتركيا نحو آسيا الوسطى؟

تكشف مطالبة باريس موسكو توضيح «الغموض» بشأن اتفاق وقف إطلاق النار، ودور تركيا في كاراباخ، عن عدم الرضى الفرنسي، على التهميش الذي تعرضت له الدول المشاركة في رئاسة مجموعة مينسك، وهي بالإضافة لروسيا، الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، كما تعيد للأذهان حالة المواجهة المتنقلة من جغرافيا إلى أخرى بين باريس وأنقرة.
لم تكن تركيا أبداً لاعباً طارئاً على منطقة القوقاز، وأكثر من عشرة في المئة من مواطنيها، أصولهم تنحدر من القوقاز سواء شماله أو جنوبه، وإغلاق تركيا حدودها البرية مع أرمينيا، وجعل يريفان رهينة حسابات جيوسياسية معقدة بين إيران وجورجيا، كان في إطار معاقبتها، ودعماً لباكو خلال حروب التسعينيات، وتم ذلك خلال الفترة التي كان فيها تركت أوزال رئيساً لتركيا.
وعندما انطلقت مسيرة التطبيع الثنائية التاريخية (2008 – 2010) بين أنقرة ويريفان، ربطت أنقرة تسوية النزاع في ناغورني كاراباخ، بإعادة فتح الحدود البرية مع أرمينيا، وأعلن البلدان وقتها عن عزمهما فصل نزاع كاراباخ،عن السياق السياسي والتاريخي العام لعلاقاتهما الثنائية، ومع ذلك، لم يتحقق هذا الهدف.

صراع بين الناتو وروسيا

يختلف موقف تركيا كدولة في عضو الناتو بشكل كبير عن موقف حلفائها في الحلف الأطلسي، الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، الذين يدعون إلى حل وسط، وليس انتصارًا لطرف واحد، وورد في تقرير لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية عام 1988 بعنوان «الاضطرابات في القوقاز وتحدي القوميين» رفعت عنه السرية في 1999 أن نهج تركيا المساند لأذربيجان يقلق البيت الأبيض، ويُنظر أنه قد يؤدي إلى صراع بين الناتو وروسيا.
تقف تركيا مع أذربيجان لأسباب تاريخية ودينية وعرقية واقتصادية، وتعلن أنقرة موقفها بوضوح، بوقوفها الكامل إلى جانب «شقيقتها» أذربيجان، لاستعادة أراضيها المحتلة، على عكس بقية الأطراف التي تعلن حيادها في هذا النزاع، بينما تدعم هذا الطرف أو ذاك، من تحت الطاولة، وفي تصريح لافت اليوم، للرئيس الروسي فلاديمير بوتين: تركيا لم تخف قط أنها تدعم أذربيجان في كاراباخ، وأنها نتيجة جيوسياسية لانهيار الاتحاد السوفييتي.
تكرر الحديث خلال الستة أسابيع من حرب كاراباخ الثانية، حول العامل التركي والجمهوريات التركية أو الدول الناطقة بالتركية، أو ما يوصف في العالم التركي، وخلال زيارة أمين عام المجلس التركي بغداد أمرييف الدبلوماسي الكازاخستاني المخضرم، مدينة كنجه في أذربيجان، وبجانب الأحياء السكنية التي تعرضت لقصف صاروخي أرمني، صرح لوسائل الإعلام، أن العالم التركي بأكمله والمجلس التركي، يدعمون دون قيد أو شرط حق أذربيجان في تحرير أراضيها المحتلة.

فتح ممر بري

وكانت مسألة فتح ممر بري عبر الأراضي الأرمينية، يصل إقليم ناخشيفان الأذربيجاني الذي يتمتع بحكم ذاتي ويقع على الحدود الإيرانية التركية، مع باقي أراضي جمهورية أذربيجان، من بين بنود الاتفاق الذي رعته روسيا بين باكو ويريفان، وبتنسيق مع تركيا، لإيقاف حرب كاراباخ الثانية.
سيكون الممر البري هذا، بوابة تركيا للتواصل والتلاحم في أكثر من مجال مع الجمهوريات الناطقة بالتركية في آسيا الوسطى، والتي يجمعها مع تركيا مجلس تشكل عام 2009 ويطلق عليه اسم مجلس التعاون التركي، أو المجلس التركي ويضم (تركيا وأذربيجان وكازاخستان و اوزبكستان وقيرغيزستان، وتتمتع المجر بصفة مراقب) وتقدمت قبل فترة أوكرانيا بطلب الحصول على صفة مراقب أيضا في هذا المجلس.
سيحدث فتح ممر بري يربط الأراضي الأذرية ببعضها، تغييرات جيوسياسية تتعدى أهمية النزاع بين أذربيجان وأرمينيا، فزوال الحاجز الأرميني سيسمح لتركيا، عبر منطقة ناخشيفان، بتحقيق اتصالها مع عموم أذربيجان والجمهوريات الناطقة بالتركية في آسيا الوسطى لتصبح قوة إقليمية كبرى، وقادرة على مواجهة التأثيرين الروسي والإيراني، وسنكون أمام معادلة جديدة في التوازنات الدولية.
اتجهت الأنظار نحو الجمهوريات الناطقة بالتركية في آسيا الوسطى، خلال التوتر الذي ساد بين أنقرة وموسكو على خلفية إسقاط الأولى طائرة روسية، قالت إنها اخترقت أجواءها، في إحدى جولات الحروب السورية عام 2015 و أكدت الوساطة الناجحة التي قامت بها الدبلوماسية الكازاخستانية،أهمية تلك الدول، حيث تمكن رئيس كازاخستان الأول نور سلطان نازارباييف من نزع فتيل الأزمة بين موسكو وأنقرة.

الإصلاحات الاقتصادية

مع انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1990 لم تعد جمهوريات آسيا الوسطى تحت السيطرة الروسية، ما فتح الباب أمام تركيا لزيادة النفوذ في المنطقة، ولعل أبرز التحديات كان غياب الحدود المشتركة.
أنشأت تركيا عام 1992 وكالة لتطوير العلاقات في مجال الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، كان هدفها البلدان الشريكة، وفي عام 1993 أنشأت وكالة أخرى كانت مسؤولة عن نشر الفن والثقافة التركية، ومقرها الرئيسي في أنقرة، ودعت دول آسيا الوسطى (كازاخستان وتركمانستان وأوزبكستان وطاجيكستان وقيرغيزستان) وكذلك أذربيجان للانضمام إلى هذه المنظمة، وبالإضافة إلى ذلك، انخرطت بعض بلدان آسيا الوسطى وتركيا في العديد من الشبكات المتطورة لنقل الطاقة إلى الغرب.
كانت هناك مؤسسات تركية جديدة للتعليم العالي يجري تطويرها في آسيا الوسطى في وقت مبكر من عام 1990 حيث ساد في تـلك الفترة رفـض اللغة الروسـية، وبـدأت مراكز التعليم التـركية تكتسب شعبية كبيرة، وكـان بعض الطـلاب يذهبـون للدراسـة في الجامعات التركية، وبدا واضحاً التأثير الفكري والثقافي لتركيا من خلال البث التلفزيوني في المنطقة، وظهر في أوزبكستان عام 1990 التلفزيون التـركي على قـدم المساواة مع الـتلفزيون الروسـي.
سارت العلاقات التركية مع جمهوريات آسيا الوسطى بسلاسة، ففي عام 2009 دعت كازاخستان إلى تأسيس اتحاد للدول الناطقة بالتركية، يشمل أذربيجان وكازاخستان وقيرغيزستان وتركيا، وتتطلع آستانة لدور القيادة فيه، رفضت أوزبكستان وتركمانستان هذه الدعوة، ولم تعترض أنقرة على هذا، مدركة أن جمهوريات آسيا الوسطى، بعد خروجها من عباءة موسكو لم تعد تريد أن يلعب أحد دور الأخ الأكبر عليها.
تعتبر اليوم عوامل التشابه اللغوي والثقافي بين تركيا وتلك البلدان، أولوية لأي تجمع ووحدة بينها، بينما بات التشابه الديني يعتبر عاملاً ثانوياً، وتشارك دول آسيا الوسطى في مشروع طريق الحرير الصيني، مما يخلق حافزاً لعلاقات ودية لا سيما على الصعيد الاقتصادي.
لم تتراجع تركيا عن طموحها أن تصبح واحدة من أكبر الدول تأثيراً داخل دول آسيا الوسطى، وتستمر بتحسين مواقعها وعلاقاتها مع الدول المجاورة، من هنا ينبع اهتمامها بالاتحاد الأوراسي الاقتصادي وكذلك في منظمة شنغهاي للتعاون.
المؤكد اليوم أن تركيا، تغيرت عن تلك في التسعينيات، عندما كان ينظر إلى أنقرة كرأس حربة الناتو في مواجهة التحالفات والمشاريع الأخرى، ومهما قيل حول طموحات تركيا، إلا أنها تروق لموسكو وواشنطن معاً، فالأولى تريد إحداث شرخ داخل حلف الناتو، والثانية تريد إفشال تحركات روسيا الجديدة.

 كاتب وباحث في الشؤون الروسية التركية
مؤلف كتاب «كازاخستان والأستانة السورية»

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية