ليست العملات وحدها هي التي تشتمل على رصيد معين، من خلاله تأخذ قيمة ما أو تفقدها، وإنما الشأن كذلك بالنسبة للمجتمعات، فلكل مجتمع رصيد معين من الثقافة به يرقى أو به ينحدر، باعتبار ذلك الرصيد يُقسم العالم إلى دول متطورة وأخرى متخلفة. إن الناظر إلى أحوال العالم العربي مرصودة في سلوك الناس، ومشهودة في كيفية تعاملهم مع مظاهر الحضارة التي لم ينتجها عقلهم، يسهل عليه إدراك أنه أمام وضعية ثقافية تفتقر إلى الجاهزية للتطور والخروج من متاهات التخلف، إلى درجة أن كل مشاريع التحديث لن تنفعه، ما لم يكن ضمن أولوياته بناء برنامج يوقف إنتاج هذا التخلف والتغلغل فيه.
الإنسان الذي يقلد نماذج الآخرين يكون متنازلا عن حقه في بناء نموذجه وتطوره، لأنه يسقط في آفة تقديس ما ليس مقدسا
من أجل ذلك سيكون لزاما عليه إعادة النظر في آليات بناء إدراكاته، تلكم الآليات التي أصبحت متآكلة بحكم أن العالم قد تغير، لكن العالم العربي ما زال جامدا على استمداد شرعية وجوده من إدراكات قديمة، كانت تصنع المعنى قبل نهاية زمن الأيديولوجيا، كالصراع بين الأصالة والمعاصرة، والتراث والحداثة.
إن الإنسان الذي يقلد نماذج الآخرين يكون متنازلا عن حقه في بناء نموذجه وتطوره، لأنه يسقط في آفة تقديس ما ليس مقدسا، وبيان ذلك أن العالم العربي اسْتُدْرِج إلى تقديس الزمن الماضي الذي صنعه الأجداد، أو إلى تقديس الزمن الحاضر الذي صنعه الغرب. وهكذا نلاحظ أننا أمام نموذجين لا يُكِنُّ أحدهما للآخر ودّا، لا يتفقان ولا يجتمعان في فكرهما، ولكن العجب أنهما يأتلفان من حيث لا يشعران في تبني بلاغة التقديس، إما للذات، وإما للغير، وعليه يكونان واقعين في آفة أخرى، هي الاعتقاد بوجود تاريخ مطلق من صنع البشر. والحقيقة أنه لا تاريخ مطلق للبشر، بشهادة التاريخ نفسه على تعدد الثقافات والحضارات، دون نسيان الإشارة إلى تعدد تطبيقات النموذج الحضاري الواحد، فالديمقراطية مثلا أفرزت عدة ديمقراطيات، والحداثة أنتجت عدة حداثات، بل حتى الإسلام نفسه أعطانا عدة تطبيقات، بالإضافة إلى أن المعتقِد بوجود التاريخ المطلق، يكون غافلا عن محدد متوازٍ مع التاريخ، هو محدد الجغرافيا، الذي يضبط حركة التاريخ على إيقاع الأرض، باعتبارها بعدا من أبعاد الوجود. إن انحسارنا في تاريخ غيرنا (أجدادا أو غربا) هو اعتراف ضمني منا بعدم التفاعل مع زماننا، ذلك بأن التاريخ في حقيقته هو انعكاس تفاعل الإنسان الموجود فوق أرض معينة مع زمن معين بمختلف ظروفه وشروطه. وإذا اختلفت الظروف والشروط المحددة لزماننا، فهذا يعني أننا أمام زمان جديد، يقتضي منا إذا كنا نريد أن نعيش فيه، الإتيانَ بأفعال تجعلنا نتفاعل معه لصنع وجودنا وتاريخنا وبالتالي حضارتنا. وتأسيسا على ما سبق، يلزم منا تحرير الإسلام من التنميط الذي أوقعه فيه مقدسو تاريخ الأجداد والمعتقدون في إطلاقيته، لأنهم يخلطون بين عناصر الثبات والحركة فيه، فيسعون إلى قولبة الإسلام في تجلٍّ تاريخي معين، ومن تم يعملون على تعميم ذلك التجلي على أساس أنه التجلي الوحيد والمطلق، متناسين أن للعنصر الثابت عدة تجليات يفرضها التاريخ النسبي الذي يحدده السياق والتداول المساوق لذلك التاريخ، وما دامت الوظيفة قد حددت الآن، فسيكون من اللازم الاضطلاع بتصميم بنية تلائمها، مع مراعاة اختلاف الوظائف والبنيات زمانا ومكانا. كما يلزم منا تحرير الإسلام من الإلحاق الذي أوقعه فيه مقدسو تاريخ الغرب والمعتقدون في إطلاقيته، لأنهم يخلطون بين العناصر المادية والحضارية، التي يمكن أن تشترك فيها كل أمة من الأمم، والعناصر الرمزية والثقافية التي تنفرد بها، فيسعون إلى قولبة الإسلام في تجلٍّ حضاري إلحاقي معين، ومن تم يعملون على تعميم ذلك التجلي على أساس أنه التجلي الوحيد والمطلق، متناسين أن للعنصر الرمزي والثقافي شروطه التي يفرضها التاريخ النسبي الذي يحدده السياق والتداول المساوق لذلك التاريخ أيضا. إن هذا النقد للذات العربية مرده لا إلى ضرورة فصلها عن تراثها، وإنما مرده إلى ضرورة الإفادة من القيم النافعة فيه، مع وجوب إبداع صيغة تمكنها من التفاعل مع الوحي من جهة، ومع خصوصيات زمانها من جهة أخرى، حتى تبتكر تركيبة جديدة تمنحها رخصة الدخول إلى العالم والمساهمة في بنائه.. ثم إن هذا النقد للآخر الغربي مرده لا إلى ضرورة قطع الطريق عن الإفادة من القيم النافعة للغرب، وإنما مرده إلى أن الثوابت التي بنى عليها حضارته ليست هي الثوابت التي ينبغي أن تقوم عليها حضارة العربي المسلم، زيادة على أن التاريخ الغربي صنع عدة آفات وأوقع في عدة مآزق.
الناظر إلى أحوال الأمة الإسلامية اليوم، يجد أنها تعيش نهاية دورتها الحضارية بتعبير ابن خلدون، أي إن وسائلها ومقاصدها في الحياة استنفدت أغراضها، ويتجلى ذلك في عجز المؤسسات العربية عن تأطير المجتمع وتأهيله لاكتساب أفعال ثقافية وحضارية تمكنه من الانخراط الإيجابي في الحياة، وبذلك يبدو أن الحالة النفسية التي يَصدُر عنها العربي لا تؤهله للتحضر ولا للتقدم، إما لأن مصلحته تكمن في ترك سلوك التحضر، وإما لشعوره بالإهانة نتيجة تبني كثير من المؤسسات العربية خيار التخلف، مع تغليفه بأرقى أغلفة التمدن، في حين أن مضمون هذه المؤسسات يجتهد في إعادة إنتاج التخلف، وكأنه من الأهداف الاستراتيجية الكبرى لديها، بل إنها تأتي أفعالا تُشعِر العربي بلا جدوى القانون، وبخلق هذه الحالة الشعورية لا نستغرب وجود من لا يحترمه (القانون)، إضافة إلى غياب إدراك العلاقة بين الدال والمدلول، فقصور جاهزية العربي الثقافية جعلته لا يربط مثلا بين الضوء الأحمر باعتباره دالا، والوقوف احتراما لحياة الآخرين باعتباره مدلولا لمضمون متحضر. زيادة على الخلط الشنيع بين البداوة والحضارة، حتى ليبدو لنا بجلاء رسوخ سلوك البداوة داخل المدينة، إلى درجة أن يصبح فيها المجال الحضري مجرد سياج لمجموعة من القرى داخل المدينة الواحدة. ومن تجليات التخلف أيضا، التضخم الأيديولوجي القائم على مبدأ نفي الآخر، إذ إن كل طائفة تبرهن على فاعليتها بهدمه، مدعية أنها تملك الحل السحري لمشاكل العالم العربي، وهكذا غاب عنها التأسيس لمشروع ثقافي يبني وعيا وحسا مشتركين بضرورة الخروج من الأزمات التي يعيشها العالم العربي في علاقته مع الداخل والخارج. لا ينفع العربي سعيه نحو التقدم، استيراد نماذج تطور الآخرين، لأنه عاجز عن حفظ هذه النماذج، كما أنه عاجز عن بناء نموذجه ووقايته من الانحلال، وللأسف فحتى الذين وضعوا سؤال النهضة لم يضعوه استجابة لحاجة داخلية، وإنما وضعوه ناظرين إلى الآخر، إما التحاقا به وإما تنافرا معه لمناجزته. والمفهوم من هذا، أن الأمة تعيش على رد الفعل والجواب على استفزازات الخارج، وما لم تتعرض للاستفزاز فلا فعل لها يؤسس الحضارة على نسقها، وكأنها أمة برمجت على الهدم لا على البناء، حتى إذا لم تجد ما تهدمه، ارتدت على نفسها لتهدمها، كما يتجلى في صراعاتها المذهبية والطائفية. وعليه، فالعالم العربي بحاجة إلى فهم الداخل والخارج، حتى يتمكن من التفاعل مع ما يعتمل داخلهما، وحينها قد يفكر في إعادة النظر إلى مفهوم الدولة الحديثة باعتبارها آلية ارتبطت بالاحتلال وما بعده، فهي أداة تعيد إنتاج الاحتلال على عدة أوجه وأشكال، وبالأَوْلى تعيد إنتاج أدوات تفتيت ثقافة الأمة النافعة.
يبقى سؤال جاهزية العالم العربي للتطور قائما، رغم كل ما ذكر، لأنه ما زال بعيدا عن إدراك التحولات العالمية الهائلة التي اصطبغت بخصائص الذكاء الاصطناعي الذي غير كثيرا من المفاهيم والاستراتيجيات، فالزمن الرقمي فرض على العالمين نهايةً للجغرافيا وبالتالي إعادة النظر في مسألة الحدود. ومعلوم أنه إذا اهتزت مسألة الحدود لصالح العالم الافتراضي، لزم التنادي إلى إيجاد القانون الملائم لهذا الواقع الجديد، وإذا كان من المُسَلَّم به أن القانون يصنعه الأقوياء، فما هي العدة التي سيدخل بها العالم العربي إلى هذا الزمن، خاصة أن موازين القوى أخذت أبعادا جديدة مع من يملك الذكاء الصناعي في تحديد مفهوم السلم والحرب وكيفية إدارة الصراع في العالم. من أجل كل ذلك على العالم العربي أن يَجِدَّ في إعادة ترتيب علاقته مع الأمم والثقافات والحضارات، ولن يكون ذلك إلا بتجديد تمثلاته لذاته أولا، وللآخرين ثانيا، حتى يتمكن من تجديد أدوات ترميم الذات والمساهمة في بناء العالم، لكن هذا لن يتم دون جواب عن الإشكالات التي يضعها سؤال الفن والثقافة والتعليم في العالم العربي.
كاتب وباحث مغربي
كل كيانات سايكس وبيكو ومن ضمنها قارة أمريكا وأستراليا وأوروبا، هي دول عبودية واستعباد/إذلال، في نموذج مفهوم النجاح فيها، بشكل عام،
ولذلك أنا رفضت الإستثمار في أوروبا وأمريكا بعد زيارتهم، واخترت (تايوان)، من أجل منافسة كومبيوتر (صخر) عام 1989،
وترك السعودية، بسبب صعوبة نقل (الكفالة) لأي فلسطيني من الجامعة، إلى (دنيا الكومبيوتر)، أو غيرها،
أعيد، صحيح بعد خروج الجيل الأول من الآلة التي استخدمت في الصناعة/الزراعة، أن أوروبا نجحت في إنشاء كيانات ودول عملت على تمرير ثنائية الظلم/الفقر، في أمريكا وأستراليا،
ولكن جمال طريقة الحصول على مقاولة تنفيذ، ومن ثم نجاح الجميع في إدارة وحوكمة طريقة العرض والتطبيق، كدولة وكشعب وشركة وأسرة وإنسان (ة)، قطر 2022، كأس العالم لكرة القدم،
والتي فضحت تناقضات (موظف) النظام في (أوروبا) ممثلة في وزيرة الداخلية (الألمانية)، مع فريق كرة القدم (الألماني)، كدليل عملي بلا رتوش أو تزويق،
وفي الجانب الآخر، لو نذكر:
*{ مسكِينةُ باريس – لا أدري لمن ستكون ؟ }*
روى *(الدكتور معروف الدواليبي)* رحمه الله ، في مذكراته هذا اللقاء المهم بين الملك فيصل بن عبدالعزيز و الرئيس الفرنسي شارل ديجول حيث دار بينهما حوار في غاية الأهمية:
– قال ديغول: يا جلالة الملك ، يتحدث الناس بلهجة متعالية ، إنكم تريدون أن تقذفوا بإسرائيل إلى البحر، إسرائيل هذه أصبحت أمراً واقعاً ، و لا يقبل احد في العالم رفع هذا الأمر الواقع.
– أجاب الملك فيصل رحمه الله: يا فخامة الرئيس ، أنا استغرب كلامك هذا، ان هتلر احتل باريس ، و أصبح إحتلاله أمراً واقعاً ، و كل فرنسا استسلمت إلا أنت، انسحبت مع الجيش الانكليزي ، و بقيت تعمل لمقاومة الأمر الواقع حتى تغلبت عليه، فلا أنت رضخت للأمر الواقع ، و لا شعبك رضخ ، فأنا استغرب منك الآن أن تطلب مني ان أرضى بالأمر الواقع ، و الويل يا فخامة الرئيس للضعيف إذا احتله القوي.
(و راح يطالب بالقاعدة الذهبية للجنرال ديغول و هي: إن الإحتلال إذا أصبح واقعاً فقد أصبح مشروعا ).
– دُهش ديغول من سرعة بديهة الملك فيصل، رحمه الله ، فغير لهجته و قال: يا جلالة الملك ، يقول اليهود إن فلسطين وطنهم الأصلي ، و جدهم الأعلى إسرائيل ولد هناك.
– أجاب الملك فيصل: فخامة الرئيس أنا معجب بك لأنك متدين مؤمن بدينك، و أنت بلا شك تقرأ الكتاب المقدس ، أما قرأت أن اليهود جاؤوا من مصر غزاة ؟ أحرقوا المدن و قتلوا الرجال و النساء و الأطفال ، فكيف تقول إن فلسطين بلدهم ، و هي للكنعانيين العرب ، و اليهود مستعمرون ، و أنت تريد أن تعيد الإستعمار الذي حققته إسرائيل قبل أربعة آلاف سنة ، فلماذا لا تعيد إستعمار روما لفرنسا الذي كان قبل ثلاثة آلاف سنة فقط ؟ أنصلح خريطة العالم لمصلحة اليهود ، و لا نصلحها لمصلحة روما ؟ و نحن العرب أمضينا مئتي سنة في جنوب فرنسا، في حين لم يمكث اليهود في فلسطين سوى سبعين سنة ، ثم نفوا بعدها.
– قال ديغول: و لكنهم يقولون إن أباهم ولد فيها.
– أجاب الفيصل، رحمه الله: غريب !! عندك الآن مائة و خمسون سفارة في باريس ، و أكثر السفراء تولد لهم أطفال في باريس ، فلو صار هؤلاء الأطفال رؤساء دول ، و جاؤوا يطالبون بحق الولادة في باريس فمسكينة باريس ، لا أدري لمن ستكون ؟
– سكت ديغول ، و ضرب الجرس مستدعياً (بومبيدو) رئيس وزرائه ، و كان جالساً مع الأمير سلطان و رشاد فرعون في الخارج ، و قال ديغول:
الآن فهمت القضية الفلسطينية، أوقفوا السلاح المصدر لإسرائيل ، و كانت إسرائيل يومها تحارب بأسلحة فرنسية و ليست أميركية.
– يقول الدواليبي: و استقبلنا الملك فيصل في الظهران عند رجوعه من هذه المقابلة ، و في صباح اليوم التالي و نحن في الظهران استدعى الملك فيصل رئيس شركة التابلاين الأميركية و كنت حاضراً و قال له:
إن أي نقطة بترول تذهب إلى إسرائيل ستجعلني أقطع البترول عنكم ، و لما علم بعد ذلك ان أميركا أرسلت مساعدة لإسرائيل قطع عنها البترول ، و قامت المظاهرات في أميركا، ووقف الناس مصطفين أمام محطات الوقود ، *و هتف المتظاهرون: نريد البترول و لا نريد إسرائيل.*
* المصدر: مذكرات معروف الدواليبي
معروف الدواليبي رئيس وزراء سوريا 1953م ولد في حلب 1907 م و مات في المدينة المنورة 2004 و دفن في البقيع .. له أكثر من عشرة مؤلفات إسلامية.
*عرفتم الآن لماذا قتل الملك فيصل !؟*
*رحمه الله و تقبله شهيداً من عظماء الأمة العربية والإسلامية*
#عظماء_الأمة.
مقالة لمست بعمق ما تعيشه الأمة بأسلوب دقيق. زادك الله من فضله أيها