نشأت الطوائف الدرزية والإسماعيلية في مصر، إلا أنها لم تلبث أن خرجت واستوطنت بلاد الشام وتفاعلت وتطورت مع بيئتها، واستغلت الهوامش الجغرافية الجبلية والريفية التي يمكن أن توفر لها الحياة المنعزلة بالاعتماد على الزراعات المروية بالأمطار، بينما كان وجودها في مصر سيضطرها للتعامل مع سلطة مركزية مهيمنة، وكانت لبنان في وسط هذه الجغرافيا موطنا للكثير من الطوائف التي صبغت وشكلت الحياة الاجتماعية والسياسية في البلد الجبلي الصغير.
حكم سوريا معضلة كبرى، وقراءة تاريخ حملة محمد علي وفشلها في السيطرة على الشام، مقارنة بالنجاح الكبير الذي حققه في مصر، يظهر أن محاولة تطبيق الأفكار التي يمكن أن تصلح على معظم الدول العربية، يبدو صعب التطبيق والتصور في سوريا، ويبدو أن مقولة الرئيس السوري شكري القوتلي لجمال عبد الناصر بعد الوحدة: «أنت لا تعرف ماذا أخذت يا سيادة الرئيس! أنت أخذت شعبا يعتقد كل من فيه أنه سياسي، ويعتقد خمسون في المئة من ناسه أنهم زعماء، ويعتقد 25 في المئة منهم أنهم أنبياء، بينما يعتقد عشرة في المئة على الأقل أنهم آلهة». كانت تحمل بعدا توصيفيا، لم يكلف القوتلي نفسه بالوقوف على محاولة تفسيره، وبالطبع، لم يكلف عبد الناصر بثقافته في ترويض المصريين والتهام تاريخهم ما قبل ثورة يوليو ،1952 بمحاولة فهمه، لتُمنى تجربة الوحدة مع سوريا بنهايتها الدرامية خلال فترة وجيزة.
هل أتى الإمساك بزمام السلطة ضرورة بالنسبة للرئيس الشرع في دمشق، وجعله ذلك يحاول اختصار الوقت، ليمسك بالخيوط كلها، أم أن ثمة قناعة أنه لا يمكن أن تحكم سوريا إلا بطريقة خشنة بعض الشيء
الركود السوري في مرحلة الرئيس حافظ الأسد ونجله بشار، اعتمد على ممارسة العنف والقهر المتواصل، ولكنه لم يتمكن من اختلاق أرضية جامعة وشاملة للسوريين بمختلف مذاهبهم وطوائفهم وأعراقهم، وما يحملونه من فوائض تاريخية جعلتهم يلوذون بسوريا التي تشبه الجغرافيا الأوروبية بقدرتها على بناء مقاطعات صغيرة لديها القدرة على تحقيق شيء من الاستقلال، فالعلويون في جبالهم الساحلية، كانوا منفصلين نسبيا عما يجري في دمشق، وخارج حسابات حلب، في العديد من المراحل التاريخية، ويعيشون حياة بسيطة ربما أقرب إلى السذاجة، جعلت من الممكن أن يظهر داخل مقاطعاتهم طائفة دينية مستجدة في القرن العشرين وصلت ببعض أتباعها إلى تأليه زعيمها سلمان المرشد.
تفاعلت التناقضات السورية في ربيع 2011، وفي أسابيع قليلة بدأت الثورة تتشظى على الجغرافيا السورية، ففي سوريا لا يمكن أن يوجد شارع الحبيب بورقيبة أو ميدان التحرير، لأن المدن والقرى البعيدة تحمل جماعات بشرية مختلفة ومتناقضة، ومن يحضرون في واجهة الثورة لا يمكنهم أن يدعوا تمثيلا للسوريين بوصفهم شعبا طبيعيا ومتجانسا، ففي سوريا الكبرى اندلعت أثناء القرن التاسع عشر ثلاث حروب أهلية، في جبل لبنان، وفي دمشق، وفي فلسطين، وحدث أن زودت هذه الحروب القارتين الأمريكيتين بعشرات آلاف المهاجرين. بقيت دمشق في مطلع القرن العشرين المدينة الصعبة على الفهم، تبدو متماسكة وحيوية بنخبتها المثقفة والنوعية، ولكن حدود الدولة التي ستحكم من دمشق بقيت محلا للأخذ والرد، ففي مطلع العشرينيات اجتمعت وفود من مختلف بقاع الشام، سوريا والأردن وفلسطين ولبنان، في إعلان استقلال سوريا، وفي الوقت ذاته كان الانتداب الفرنسي يعلن دولتي جبل الدروز والعلويين، وبقيتا قيد شيء من الوجود بدعم من الفرنسيين، حتى انشغلت فرنسا في الحرب العالمية الثانية.
أيقظ دخول قوات هيئة تحرير الشام إلى دمشق الأشباح القديمة كلها، وفي أسابيع قليلة أخذت النزعات الانفصالية الدرزية والعلوية تعبر عن نفسها، وحدثت الصدامات الدامية في محافظات الساحل، لتضع سوريا في أيام من الفزع تمكنت من احتوائها بالحدود الدنيا من الخسائر ضمن الحديث الواقعي، واستدعى ذلك العمل على تسوية بعض الأوضاع في دمشق لتهرع السلطة الجديدة إلى إعلان دستوري، يمكن وصفه بالمتعجل جاء بعد حوار وطني متسرع، ليخرج بإلقاء الوضع القائم برمته لدى رئيس بسلطات واسعة، يحكم على أساس تحديد دين رئيس الدولة ويضع الفقه الإسلامي مصدرا رئيسيا للتشريع، بما يفتح بابا لأحاديث كثيرة حول ما دفعته سوريا من أثمان لتعود إلى نقطة مشابهة تعمل السلطة خلالها على ترويض المجتمع، بدلا من الحديث عن ثرائه في التنوع والاختلاف. في استقباله وليد جنبلاط الزعيم الدرزي اللبناني، قال الرئيس السوري أحمد الشرع مقولته الشهيرة: «أحداث حصلت قبل 1400 سنة ما علاقتنا نحن بها؟»، ولكن هذه المقولة ليست كافية في حد ذاتها، ولا تستند إلى خطوات واقعية لتجاوزها، ويبقى الرئيس مطالبا بالسعي إلى الطوائف، من خلال وعود كثيرة ولغة تصالحية، مثل التي قدمها لمظلوم عبدي وقوات سوريا الديمقراطية، وهو ما يمكن أن يجعله في وضعية قلقة بين مناصريه، ومنهم مقاتلون أجانب مندفعون أيديولوجيا، يمكن أن يتحولوا إلى مشكلة كبيرة مع الوقت.
هل أتى الإمساك بزمام السلطة ضرورة بالنسبة للرئيس الشرع في دمشق، وجعله ذلك يحاول اختصار الوقت، ليمسك بالخيوط كلها، أم أن ثمة قناعة أنه لا يمكن أن تحكم سوريا إلا بطريقة خشنة بعض الشيء، ولكن أي ضمانة يمكن أن تتشكل من تجاهل الحقائق الكبيرة والقديمة على الأرض، ومحاولة إنتاج خطاب وطني منفصل عنها، فالرئيس حافظ الأسد بكل أدواته القمعية لم يتمكن سوى من تحقيق عقد واحد هادئ في تاريخ سوريا، كانت نهايته مع أحداث حماة 1982، واقتراب دمشق من أن تصبح حماما للدم بين الشقيقين رفعت وحافظ. هل يفهم الرئيس الشرع سوريا بكل فخاخها الممتدة بين مدنها وقراها، وتاريخها الصعب والمعقد؟ أم أنه يتعامل مع ما أنتجه الخطاب الوطني والقومي لسنوات طويلة، ويعتبر هو شخصيا من مخرجاته الطويلة؟ وهل يمكن بالفعل، أن يحدث التجاوز الكبير مع الماضي في سوريا، لتكون العلاقة الوحيدة المقبولة هي مع المستقبل القائم على مواطنين يثقون في دولتهم ويعملون من أجلها؟ هل تأتي سياسة الشرع في الأيام الأخيرة تمركزا للقبض على الأمور ومباشرة مشروع جديد؟ أم عودة إلى قوة غالبة تؤجل الأسئلة الكبيرة والمهمة لوقت من الزمن في مراهنة على مكر التاريخ، أو رحمته.
كاتب أردني