محمد الداهي - سلوى سعداوي - محمد سليم شوشة
منذ أن دشن سيرج دوبروفسكي مصطلح التخييل الذاتي، وهذا الأخير يثير النقاش بين الدارسين. ومن خلال التعريفات التي أُعطيت له، طُرحت مفاهيم حاسمة على المحك، مثل: مفهوم صحة المرجع (ما يكتب هو حقيقي ويمكن أن يُتحقق منه بالنظر إلى الوثائق أو في الواقع) ومفهوم الميثاق السيرذاتي (أقسم أن أقول كل الحقيقة عن شخصيتي وحياتي) وغيرهما. وبدا مصطلح التخييل الذاتي يحمل في ذاته مشكلا أجناسيا: إنه مركب من نواتين متعارضتين: (Auto)تعلن عن السيرة الذاتية وتُمثل الفعل الكلامي المرجعي، فيما يُمثل (fiction) الفعل الكلامي التخييلي. وإذا كان تطابق الاسم العلم (المؤلف- السارد- الشخصية) يضعنا في المحور الواقعي، فإن القصة المروية تُحيلنا بوضوح إلى عالم التخييل بسبب التعارض الدلالي بين العالم كما نتلقاه والعالم كما يُرْوى داخل الحكي.
إن غموض الطبيعة الأجناسية للتخييل الذاتي، وهي تلعب على حديِ «المرجعي» و«التخييلي» إنما يحدث من خلال آثار القراءة وتأويل المعنى وطرق تنضيده سرديا.
استقرأت «القدس العربي» آراء نقاد متخصصين في هذا الجنس الأدبي الجديد والمثير لإشكالات نظرية وأخرى معرفية وأخلاقية: ما هو تفسيرك في جنوح الكتابات السيرذاتية أو كتابات الذات/ الأنا إلى التخييل باعتباره كل ما هو غير مرجعي؟ كيف يتمثل التخييلي ما هو مرجعي، أي كيف يعيد تحبيكه واستثماره لأغراض ومقاصد معينة، دون أن يؤدي ذلك إلى قلب الحقائق التي صارت جزءا من الذاكرة الإنسانية؟ هل يمكن اعتبار تسريد الخطاب التاريخي هو ضرب من «التخييل» على نحو يعيد النظر في «موضوعية التاريخ» وتأكيد تخييليته؟
تخييل الواقع لا يعني قلب الحقائق: محمد الداهي (ناقد وأكاديمي مغربي)
اهتممتُ – في كتاباتي النقدية – بالتخييل في علاقته بالمرجعي، كما أصّله كل من جيرار جنيت في كتابه «الوقائعي والتخييلي» ودوريت كوهن في كتابها «خاصية التخييل» وأرنو شميت «الأنا الواقعي/ الأنا التخييلي. ما وراء الالتباس الما بعد حداثي». يُعنى بالتخييل كل ما هو غير مرجعي (non référentiel)؛ ومع ذلك فهو يتمثل المرجعي، ويعيد تحبيكه واستثماره لأغراض ومقاصد معينة. توازي سماتُ التخييليةِ (Fictionnalité) سِماتِ المَرْجعيةِ (Référentialité) من حيث القيمة مع مراعاة مقتضيات الأحوال، والخلفيات الثقافية للقارئ حرصا على التواصل والتجاوب معه، أيا كانت درجة الخيال المُجنح ومبالغته في «تراسل الحواس» وبعثرة العلائق المعتادة. ومهما كانت الحرية التي يتيحها تخييل الواقع، لا يجوز قلب الحقائق التي أضحت – بمرور الوقت- راسخة في وجدان القراء ومعتقداتهم. لا يجوز مثلا أن نقول إن فيديل كاسترو عاش في العصر الجاهلي وكان ينتسب إلى قبيلة الفلانية. وفي هذا الصدد أورد أرنو شميت ثلاثة أمثلة:
أ- زرت مدنية لندن عاصمة بلاد الغال؛ ب- زرت لندن وأوقدت النار في البرلمان الذي ظل يحترق طوال الليل؛ ج- زرت لندن والتقيت بطوني. نحن إذن أمام ملفوظات الواقع أو شبه الواقع. المثال الأول هو أقل واقعية ومع ذلك لا يمت إلى الخيال بصلة. فهو – حسب منطق كايت هامبرغر- لا يطابق الواقع الذي يتوافق عليه معظم الناس (لندن هي عاصمة إنكلترا أو المملكة المتحدة). يكفي الرجوع إلى الصحف أو إلى أرشيف الشرطة لنتأكد ما إذا كان المتلفظ يقول الحقيقة ويختلقها من باب التخريف (fabulation) الذي يجعل الكتابة المرجعية مصطبغة بالتخييل. لا يطابق المثال الثالث الحقيقة لأن من باب المستحيل أن نلتقي بطوني أو بنابليون في لندن. نحن إذن أمام ثلاثة أمثلة متفاوتة في تمثيل الحقيقة: المثال الأول خاطئ، والثاني تخريف، والثالث كذب. أوردت هذه الأمثلة لبيان كيف نحتكم في أحكامنا إلى ما ترسخ في أذهاننا من تمثيلات (الواقع) للتمييز بين ما هو مطابق للحقيقة وما هو مجانب لها. ومع ذلك تتدخل وسائط كثيرة لتخييل الحقيقة، أو ما يشبهها، أو ما يختلط ويلتبس بها، أو ما يظهرها على غير ما هي عليه، أو ما يلبسها أقنعة مختلفة.
يحضر في هذا الصدد مفهوم «التحققVéridiction» السيميائي الذي حصره ألجيرداس كريماس في أربع فئات تتفاعل وفق لعبتي الظاهر والكينونة (الحقيقة، والسر، والزيف، والكذب) ثم سرعان ما تشعب مستوعبا فئات أخرى؛ من قبيل: التصنع، والاصطناع، والوهم، والتظاهر، الأصالة، والبديهة، والمُوَرى.. لقد حرصتُ في مؤلفي «السارد وتوأم الروح من التمثيل إلى الاصطناع» على توضيح مفهوم «التحقق» في المنطقة البينية، وإثارة التخييل.
«حقيقة» التخييل: سلوى سعداوي (ناقدة وأكاديمية تونسية)
مرت السيرة الذاتية الكلاسيكية الوقائعيةL’autobiographie factuelle) ) بأزمات ما جعل منظريها الأوائل ( فيليب لوجون وجاك لوكارم…) يعيدون التفكير في شروطها الصارمة، خاصة ما تعلق بقضايا الصدق والكذب، والحقيقة والخيال، واتضح أن السيرة الذاتية جنس أدبي مستحيل (جاك لوكارم) ووهم سيرذاتي، وأنه يعسر على المؤلف الحقيقي، الذي يعرفه كل الناس في الحياة وفي المشهدين الأدبي والثقافي، أن يكشف الأسرار الحميمة، وحيوات أقاربه وأصدقائه بشفافية مطلقة دون زيف أو كذب، وإن أكد ميثاق الاعتراف والبوح والشهادة الصادقة، بل يظل المؤلف خائفا من رقابة الأنا الأعلى والمحاسبة الأخلاقية والدينية والاجتماعية، فيلجأ إلى التخييل وسلطته، منطلقا من مادة واقعية مِما لا شك في ذلك، من سيرة حياة مرت بخيباتها وانتصاراتها، لكن يهيمن التخييل والكتابة الروائية على السيرذاتي المرجعي، بل يتسرب الكذب في فضاء الكتابة الهجينة الجامعة بين التخييلي والسيرذاتي. إنها لعبة تخييلية تحافظ على ظلال المرجع وتستعير من الرواية أدواتها («أنثى السراب» لواسيني الأعرج).
الميل إلى السيرة الذاتية أو ما يمكن أن يكون مرجعيا في السرد الروائي، ربما يكون كاشفا عن بعض حيل الرواية أو أساليبها الجديدة، والابتعاد بدرجة ما عن التخييل الخالص أو المحض pure fiction.
والتخييل لا يكذب، إنه يقول الحقيقة المختلفة وفق قوانينه الداخلية والمفارقة لقوانين الوقائعية، لأن الكتابة المتعالية عن المرجع ستبني كونا جديدا، بميثاق التخييل وميكانزماته. ومن يقرأ التخييل الذاتي (عبد القادر الشاوي في «من قال أنا» خاصة) لا يحتاج إلى العودة إلى سيرة المؤلف الحقيقية المرجعية حتى يتثبت من صدق الرواية ويتحقق مما عاشه الشاوي فعلا، بل سينطلق من العنوان الفرعي على غلاف الكتاب «تخييل ذاتي» وهذا ما يحمي المؤلف من المساءلة والتشكيك في صدق قصة المرض والاحتضار، وفي علاقته بأصدقاء حقيقيين من النقاد والروائيين العرب، بل سيهتم القارئ بصورة الأنا المتخيلة وطرق بنائها، في فضاء التخييل بأدوات استعارها المؤلف من شروط كتابة السيرة الذاتية الحقيقية، لكنه تجاوزها ولم يلتزم بها، وانحرف عنها بإبداعية، وبمنطق كتابة تخييلية جديدة، على أن يقبل المتلقي هذا التخييل أو ما اصطلح عليه جان ماري شيفر بـ»التصنع اللعبي المشترك» لأن الكفاءة التخييلية تكون واحدة مشتركة بين مبدع ذات متخيلة ومتلقيها المختلف عن القراء العاديين لجنس التخييل الذاتي المراوغ.
يكمن الإشكال، في تقديرنا، في عجز كثيرين على تمثل هذا النـوع الجديد من الكتابة الذاتية التخييلية، بل إنهم يكتبون سيرا ذاتية هجينة، كاذبة ومزيفة، دون وعي أجناسي، وبحرية تتجاوز الشروط الأجناسية التنظيرية. هذا الانعتاق يُفسر بتدفق الكتابات خارج التصنيف الصارم، مهما تكن مستويات الكتاب الثقافية والاجتماعية، وبتراجع سلطة نظرية الأجناس الذاتية التي بقيت حكرا على خاصة الخاصة من المنظـرين والمبدعين والقراء. نعم، يتعلق الأمر بأزمة معرفية كبرى تتجاوز هذه الأسئلة المتعلقة بكتابات الأنا المرجعية والتخييلية، وبمواثيق القراءة وتأويلية الذات السيرذاتية الحقيقية أو المتخيلة. إنها معرفة شاملة تتعلق بفعل الكتابة مطلقا، وبتنويع صور الذات، في كل وضعياتها وحالاتها النفسية المتأرجحة، المستقرة والمتوترة، الحالمة والمفكـرة التي تتعقل الأشياء، والتي تهذي في أحايين كثيرة.. ولذلك لم نجد نصوصا عربية كثيرة تتنزل في التخييل الذاتي، بل نقرأ «روايات» أو نصوصا بضمير المتكلم قد تتضمن بعض كتابات الأنا مثل اليوميات والرسائل والمذكرات، أي كتابات هجينة، ويحدد المؤلف هُوية نصه الأجناسية «رواية» ويترك القارئ في مهب التلقي الأجناسي وحرية التصنيف، دون معايير؛ فمن يخطئ اليوم المبدع في تجنيسه النصي، ومن يسخر من قراءة القارئ الحرة المنعتقة من إسار كتابات الأنا المتعددة الأنواع، المعقدة التصنيف؟
استراتيجيات اللعب على قاعدة التوافق: محمد سليم شوشة (ناقد مصري)
الميل إلى السيرة الذاتية أو ما يمكن أن يكون مرجعيا في السرد الروائي، ربما يكون كاشفا عن بعض حيل الرواية أو أساليبها الجديدة، والابتعاد بدرجة ما عن التخييل الخالص أو المحض pure fiction. قد يكون للأمر علاقة في اتجاه السرد نحو مزيد من التحقيق للعالم الروائي، إذ أن المحددات المرجعية المتوافق عليها أو المعروفة مسبقا في الكتابة السيرية، أو السرد السيري، أو حتى الرواية التاريخية، تسهم في افتراض نقطة مشتركة متفق عليها مسبقا مع القارئ، تؤكد حقيقة هذا العالم. والحقيقة أن هذا الشكل يتحدى نفسه من البداية، إذ يفترض أنه يطرح المعروف والمعهود، أو المألوف بشكل جديد، أو عبر قراءة مغايرة ومنظور مختلف يقارب الذات من زوايا مختلفة، ويقارب الشخصيات التاريخية والمعروفة بشكل مختلف أو عبر تقديم قراءة جديدة لهم. إذن، كل هذا مما يكون في المساحة المحددة لعلاقة السرد بالحياة، وعلاقة السرد بالتاريخ، وعلاقة السرد بالعالم وقدرته على القراءة.
في الحقيقة، إذا أردنا أن نقول هل هناك ثابت مشترك دائم يعرفه القراء مسبقا فهذا لن يتحقق، أي أنه لا وجود أساسا للحقيقة؛ فالمصادر الحقيقية أو ما يمكن أن تكون مرتبطة من مصادر معرفية بالعالم في صورته الواقعية والحقيقية مثل الكاميرا أو التلفزيون والتقارير الإخبارية أو الأفلام الوثائقية والكتابة التاريخية كلها، قد لا تختلف كثيرا عن السرد الروائي من حيث نسبية المعرفة. وما قدمه بول ريكور – مثلا- من منظوره للتدوين التاريخي أثبت أنه لا يوجد تاريخ حقيقي أو يمكن أن يكون حقيقيا خالصا، وأثبت أن السرد الروائي التخييلي قد لا يختلف كثيرا عن الكتابة التاريخية الخالصة من حيث الموقف المعرفي، أو من حيث سؤال الحقيقة. فالمرجعي أو غير المرجعي قد يبدو مراوغا بنسبة كبيرة، لأن المرجع من عدمه قد يكون محصورا في ما يرتبط بالمشترك الحسي فقط، أو المتوافق عليه داخل بنية اللغات البشرية، إذ هي بالأساس ذات طبيعة قائمة جوهريا على التوافق، وكذلك ما يرتبط بنتائج العلوم التطبيقية، أو الإمبريقية الملموسة، كأن نرى جميعا نتائج الصناعات المختلفة في السيارات وغيرها من المخرجات العلمية التي نلمسها وأصبحت مشتركا حقيقيا بين البشر. وعدا ذلك قد لا تكون مساحة الثابت أو المشترك كبيرة، فما يعرف الإنسان أصلا عن ذاته محدود، فكيف إذن ستكون معرفته بالتاريخ، خاصة في حال ما إذا كانت هناك مرويات كثيرة أو متناقضة، أو أن يكون هناك أشكال من المنع أو القمع أو الإقصاء من صوت لصوت آخر؟
قد يكون كل ذلك منبعه القارئ وانعكاس تشكلات تلقيه على وعي الكاتب، الذي بدأ يأخذ في حسبانه تشبع المتلقي من السرد الروائي التخييلي الخالص، أو تشبعه من النمط الكلاسيكي، ومن ثم أخذ يبحث عن مساحات جديدة يبدأ فيها من نقاط افتراضية مختلفة تصطنع حالا من الإيهام أو التوافق المشترك بينهما. فالكاتب السارد الذي يقارب سيرته أو سيرة غيره، إنما يحاول أن يسلك سبيلا جديدة في الإيهام بأن ينطلق مما هو شبه متوافق عليه مع القراء، أو مما قد يبدو مؤكدا أو أن عليه إجماعا ما. ورأينا كيف أن الرواية العالمية ازدهرت بشكل كبير مع هذه الأنماط السردية التي تنطلق مما قد يبدو حقيقيا أو واقعيا، مثل روايات سفيتلانا إليكسفيتش التي قربت المسافة بين التخييلي والتحقيقات الصحافية، أو بين الحياة اليومية كما هو الأمر في رويات بيتر هاندكه، أو عند آني إرنو التي شكلت سردا روائيا يقوم على قاعدة سيرتها الذاتية. وقد رأيت أن هذا مجرد استراتيجية سردية تدخل ضمنها حيل الرواية وألاعيبها وتقنياتها، وهو أمر جدير بمزيد من التأمل والكتابة والتفكير والتنظير.
كاتب مغربي