هل يمكن للرواية أن تقف بمعزلٍ عن الحرب؟

حجم الخط
17

كانت الروائية البريطانية فرجينيا وولف، في أثناء الحرب العالمية الأولى، تخوض في كتابتها حرباً من نوع خاص، حرباً داخليةً مع الشكل الأدبي ومع فكرة الرواية نفسها، تلك الحرب التي أدركتها بعمقٍ مجايلتها الروائية كاترين مانسفيلد، التي انتقدت رواية وولف «الليل والنهار» نقداً جارحاً أزعج صديقتها.
كانت مانسفيلد تؤمن بأن الأدب لا يمكنه أبداً تجاهل الحرب، وأنه من المستحيل أن تبقى الرواية بمعزلٍ عن الواقع الذي يعصف بها. كتبت في رسالتها الغاضبة إلى زوجها جون ميدلتون مورى، واصفةً رواية وولف بأنها «كذبة في باطن الروح. كأن الحرب لم تكن: تلك هي رسالة الرواية. أما أنا فأشعر شعوراً عميقاً بالتغيير الجذري، فما من شيء سيكون كما كان عليه أبداً. ونحن كفنانين سنكون خونة إذا شعرنا خلاف ذلك»، وأضافت: «أنت تتحدث عن العجرفة الفكرية. إن روايتها تفوح بذلك».
لم تكن وولف غافلة عن الحرب، بل كانت تختار أن تعبر عنها بطريقةٍ أخرى، طريقةٍ أكثر خفاءً وأكثر عمقاً، تترك أثراً أشد قوةً، لكنه أكثر هدوءاً. كانت وولف تعيش الحرب داخليًا، تخوضها عبر اللغة نفسها، وتخوض معاركها في أعماق النفس البشرية، بعيدًا عن الصخب الخارجي. على العموم، فإن علاقة فرجيينا وولف بصديقتها هي واحدة من أعقد العلاقات الأدبية. ففي كتابه عن خالته، ينقل ابن شقيقتها كوينتين بيل في كتابه «فرجيينا وولف سيرة حياة»، وصف الأخيرة لكاترين: «هذه المرأة الغامضة، المغلقة، ظلت غامضة ومغلقة. يسرني أن أقول هذا؛ ليس هناك ما يدعو للاعتذار أو للشعور بالحاجة إلى الاعتذار… على أني أجد مع كاترين دائماً ما لا أجد مع غيرها من النساء الذكيات. أجد شعوراً باليسر وشعوراً بالاهتمام، مع أنه يختلف عن طريقتي في الاهتمام». في قصصها القصيرة مثل «أثر على الحائط» و»حدائق كيو»، أعادت وولف تشكيل العلاقة بين الأدب والحياة، وبين الحرب والسلام، بطريقةٍ أدبية مبتكرة للغاية. وصفت مانسفيلد تلك القصص بأنها إعادة ابتكار جذرية للغة، جعلتها «بدائية جداً لدرجة أنها أعادت كل معنى إلى السؤال». هذا التعليق، رغم مرارته، كان شهادةً على نجاح وولف في خلق فضاء أدبي يستوعب المعاناة الداخلية للحرب دون أن يغرق في تفاصيلها المباشرة.

أتبنى اليوم موقف فرجينيا وولف الأدبي، لا كهروبٍ من الواقع، بل كاختيار أدبي عميق يحترم ذكاء القارئ وقدرته على الإحساس. أسعى لإيجاد لغة سردية تستوعب تعقيد الواقع وأثره النفسي والاجتماعي، لغة تدعو إلى التفكير والتأمل في ما يتغير بداخلنا في زمن الحرب.

اليوم، وأنا أكتب من قلب الشرق الأوسط الملتهب، حيث تتنقل آخر منتجات العنف البشري فوق رؤوس البشر هنا وهناك، وحيث يشرد ويجوع ويقتل الجميع بلا رحمة، فكل ما نستطيع قوله هو أننا سئمنا نشرة الأخبار. والسؤال هو كم غيرت هذه الأحداث المروعة من دواخلنا؟ هل ما زلنا نحن كما نحن؟ هل عشنا تجربة التغيير الجذري، التي خبرتها مانسفيلد، التي ربما كانت قد سمعت دوي بعض القنابل البعيدة، وشاهدت بعض الصور المروعة في الصحف. لم تكن سيئة حظ بما يكفي لتعيش تساقط الحمم النارية في مشاهد حية على الشاشات التي تطاردنا في كل مكان. كروائية، كيف سأكتب ذلك؟ وما الذي عليّ أن أتركه لمراسلي شبكات الأخبار؟ وماذا عن المحللين الاستراتيجيين الشغوفين بقراءة ما وراء الصورة، وليس وراء الصورة غير الصورة نفسها!

هل يمكنني تجاهل ما يحدث وأختفي وراء ضباب العمل الفني؟ هل ثمة خيانة للشعور؟ كان هناك ما يعرف بأدب الحرب، وهو أدب إخلاء المسؤولية الأخلاقية للذين ساهموا في تلك الحروب. لنأخذ أرنست همنغواي مثلاً، أو حتى إريك ريمارك، لقد كتبا الحرب نفسها، أو أثرها على الذين خرجوا منها وأصبحوا بعيداً عن خط النار. حربنا هذه الأيام بلا خطوط للنار، إنها حرب تدور وتنتقل فوق رؤوس الجميع، نحن مادتها ونحن شهودها، ونحن ضحاياها. ما الذي علينا أن نكتبه أو نتجاهله؟
أجدني في حوارٍ مع ذات السؤال الذي طرحته وولف ومانسفيلد منذ قرن: كيف أكتب ما يجري؟ هل علىّ أن أتبنى نصيحة مانسفيلد المباشرة، التي تصر على المواجهة الصريحة للأحداث؟ أم أنني بحاجة إلى طريق وولف الهادئ الذي يستلهم الألم بصمت، ويستحضر الصدمة والاضطراب عبر لغة خفية، متأملة، تمس الأرواح قبل أن تصف ما تراه العيون؟
أعتقد أن الإجابة تكمن في الجمع بين العمق الإنساني الذي أدركته وولف، والصدق الذي طالبت به مانسفيلد. فالرواية ليست تقريراً عن وقائع الحرب، إنما هي مساحة لاستكشاف أعماق النفس الإنسانية وهشاشتها في مواجهة العنف.
هكذا، أتبنى اليوم موقف فرجينيا وولف الأدبي، لا كهروبٍ من الواقع، بل كاختيار أدبي عميق يحترم ذكاء القارئ وقدرته على الإحساس. أسعى لإيجاد لغة سردية تستوعب تعقيد الواقع وأثره النفسي والاجتماعي، لغة تدعو إلى التفكير والتأمل في ما يتغير بداخلنا في زمن الحرب. فنحن، وبعد كل حرب، لسنا نحن.
ربما يكون هذا هو الدور الحقيقي للرواية؛ أن تقدم شهادةً نفسية لا عن تفاصيل الدمار، بل عن قدرة الإنسان على البقاء، وعلى استعادة الجمال من تحت أنقاض الروح. هكذا تقول لي فرجيينا وولف وهكذا أكرر مع نفسي، لكن كاترين مانسفيلد لا تتركني أعيش بأمان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Dina:

    حرب تدور وتنتقل فوق رؤوس الجميع ..نحن مادتها ونحن شهودها ونحن ضحاياها..يا لهذا الوصف الرائع.. انها كلمتك..نعم كلمتك وليس فقط روايتك..! انها الكلمة! ..علها تدوي في النفوس ..انها سلاحنا الوحيد ..كبلت الأمم ..ماذا عن الأفواه ..أكبلت أيضآ؟

  2. يقول S.S.Abdullah:

    أو ما هي (الحياة)، أو كيف يمكن تلخيص، معنى/مفهوم/الغرض من (الحياة)؟!

    هو ما فهمت يا (بروين حبيب)، عن ما ورد تحت عنوان (دانشمند… ملحمة الخروج من المتاهة) https://www.alquds.co.uk/?p=3469072

    هل الأسرة أو ثقافة النحن أولاً، أم الإنسان (ة) أو ثقافة الأنا أولاً، وفي أي سياق، أو إقتصاد أو بورصة أجواء أي سوق في أي نظام/دولة؟!

    لأن حقيقة يا د زياد، هذا أحلى رابط

    https://www.facebook.com/share/r/18hoRp4H4k/

    استلمت منك، أحلى من أي Business كان السبب به، أبو إبراهيم، قصي، من (أستراليا) الذي كان السبب في زيارتك لي في (تايوان)، أول مرة.🤑🫣🤣🤭🙊🙉🙈👆🪃👏👍

  3. يقول طالب جبار:

    اللهم صل على محمد وال محمد

  4. يقول ابن ماء الغربة:

    كما تقولين، وأشاطرك الرأي سيدتي، ليس على كاتب الرواية أن يزاحم نشرات الأخبار ولا تقارير الصحافيين والمراسلين ولا صورهم في الكشف عن فظاعات الحرب ولا حتى رصد روايات الأطراف المتحاربة، ففي نهاية المطاف فإن الحرب تسجل وتكشف في معظم الأحيان، عن ماهية الإنسان وحقيقته، تلك التي تكشف في أسفل الدركات عن وحشية لا نظير لها حتى في عالم الحيوان، كما تكشف في أعلى الدرجات عن سمو يكاد يتفوق على الأرواح النورانية.
    بهذا المعنى، فإن علاقتنا بالحرب، سواء أكنا مبدعين أو غير ذلك ، و بعدما اعتقدنا أن الإنسانية قد قطعت مع عصور الهمجية ، تلك العلاقة في نظري لا تثبت إلا حقيقة واحدة ألا وهي أن نوازع الإنسان التي تشعل فيه أسباب الحرب ونوازع الشر باقية لا تتغير منذ أن قتل قابيل أخاه هابيل.

  5. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

    شكراً أختي شهد الراوي. حقيقة لست من متابعي الأدب ولكن اتابع باستمرار المقالات في الصحف وخاصة في القدس العربي. لايهمني ولا أستطيع أن اعطي رأي نقدي للكاتب(ة) أو الراوئي(ة)، ولكن الشرط اللازم للكتابة عامةً برأيي، هو أحترام (ذكاء) القارئ وقدرته على الإحساس والفهم وإدراك النص، وكما ورد في النص أيضاً. بالطبع يختلف الأمر من أديب إلى كاتب صحفي إلى فكري إلى علمي إلى … لكن هذا الشرط يبقى قاعدة أساس. راجياً أن أكون قد حققته ولكن أحاول جهدي أن أحققه.

  6. يقول Asra:

    ربما يكون هذا هو الدور الحقيقي للرواية؛ أن تقدم شهادةً نفسية لا عن تفاصيل الدمار، بل عن قدرة الإنسان على البقاء، وعلى استعادة الجمال من تحت أنقاض الروح. هكذا تقول لي فرجيينا وولف وهكذا أكرر مع نفسي، لكن كاترين مانسفيلد لا تتركني أعيش بأمان.
    مقال رائع
    يوم عن يوم نشهد ونفتخر بتقدمك الرائع بالأدب جميلتنا شهودة ❤️

  7. يقول Dheyaa Raad:

    شيء ما يشتعل في رأسي عندما أقرأ اسم فرجينيا وولف، ومقال الروائية د. شهد أشبه بشرارة في قش بالنسبة لي.. لحجم ما يعتصره المقال من أهمية للصراع الواجب على جميع كُتّابنا اليوم، لأن كتاباتهم أصبحت في مواجهة مع جيل قارئ يُرعب حتى أهل النقد والتحليل بآرائه وانطباعاته.
    الطريف في الأمر، هو أنني كتبتُ تعليقاً على هذا المقال مُوَجّه لأصدقائي القرّاء لقراءة فرجينيا(بعمقِ فرجينيا)، أو كان في مديحها، رُبما..
    وتفاجأت عند ضغط زر إرسال التعليق أني تجاوزت الحد المسموح به في التعليق 2000 حرف كحد أقصى..! (يبدو أنها لم تكن شرارة فحسب)

    سأكتفي بقول: أن تصور فرجينيا وولف للحرب قد شهد تطوراً رأسياً في الغالب، أي أن ردود أفعالها الواعية وغير الواعية، تجاه الحرب، تعمقت بدلاً من أن تتسع.
    وعندما تبدأ الحرب بالظهور في كتاباتها، تبدو الحرب وكأنها سياقٌ ضمني، كشيءٍ يلوح في الأفق. ليس القتال المباشر، أو النهب، أو القصف، هو محور الاهتمام في رواياتها اللاحقة، بل عواقبها، وحياة الأحياء المحطمة، والغياب المؤلم للأموات. إنها تريد إظهار آثار الحرب، ولكن “بشروطها الخاصة”.

    شكراً د. شهد الراوي وأتمنى لك دوام هذا الصراع (بشروطك الخاصة) مع صديقاتك :فرجينيا وصديقاتها…

1 2

اشترك في قائمتنا البريدية