هواء مخمور من سهرة البارحة
عناية جابرهواء مخمور من سهرة البارحةرغم انه كان يوم سبت، والوقت باكر جدا، ولن يكون احد في الخارج لانهم نائمون، فقد اطالوا السهر امس في ليلة رأس السنة، أكلوا ورقصوا وثملوا، ورغم ان البرد قارس، سرت عبر الطريق البحرية التي توصلني الي صخرة الروشة. انا اعرفها اكثر من اي شيء. عندما كنت طفلة، كان والدي هو الذي يصطحبني الي هناك، الان اذهب وحدي. كان ابدا ذلك المقهي الذي يكتب فيه الأدباء والشعراء. انا اكتب في البيت. كان والدي يأخذني كل سبت لرؤية تلك الصخرة. كنا احيانا، هو وأنا نتفرج علي السفن، واحيانا اتفرج وحدي علي الصيادين، بينما يكون والدي يتحدث الي امرأة شقراء أراها تظهر في كل مرة نحضر. احس بمذاق الخداع حتي الان عندما استعيد ذلك. اذكر اننا كنا، بعد ان اكون انتظرت والدي طويلا قبل ان يعاود الظهور فجأة، نذهب لشراء السمك الطازج من المسمكة علي مقربة منا، ثم نقفل عائدين الي البيت.رائحة الذكري لطيفة اليوم. رائحة تجعلني اشعر دائما ان الامر كان يحدث في جو ممطر، حتي لو لم يكن في الحقيقة ممطرا. يشعرني ايضا انني اذهب الي المكان الوحيد المؤثر، والحميم في العالم. وانا اتسلق السور الحديدي لكي انزل الي فسحة الارض القريبة من الصخرة، يقول لي احد الحراس علي جري عادته في كل مرة: لا تقتربي كثيرا من حافة الهاوية . يقول لي ذلك بصوت لطيف، ليس كأصوات رجال الأمن. ثم قبل ان أنسل نازلة لا ألوي علي شيء، وقد اشرفت تماما علي المضيق البحري الذي يفصلني عن الصخرة، يكون دائما ذلك الصياد، ويكون بقربه ايضا سمكاته الثلاث الكبيرة والتي يُخيل اليّ انه قد اصطادها منذ ان كنت طفلة صغيرة ويصطحبني والدي الي المكان. لم يتسن لي ولا مرة ان رأيته يصطاد، وكلما اتيت اجد سمكاته الثلاث قربه وقد انتهي من صيدها.الجو بارد فعلا. الهواء مخمور من سهرة البارحة، نورس يحلق في السماء، والمرأة الرخيصة بأصباغها تبدو تنصب شباكها ليس بعيدا مني. كانت منحنية علي السور وبامكان أي احد يمر رؤية ثدييها وساقيها العاريتين. اكثر ما يعجبني في ذلك المكان ان كل شيء بقي في مكانه. لا شيء تحرك. استطيع ان ازور الصخرة مليون مرة وأجد ذلك الصياد وقد انتهي لتوّه من الصيد، والنورس يسافر، والمرأة ذات الثديين العاريين تنصب افخاخها. لا شيء تغير، عداي انا نفسي. وأنا لا اعني هنا انني كبرت او سوي ذلك. ليس هذا بالضبط ما اعني. كل ما هنالك ان امرا تغير. كأن كنتُ مرة بصحبة أبي، والان لست بصحبته. اعني ان شيئا اختلف بشكل ما، الرفقة، الرائحة، ثم نوع الدموع: هل تسفحها الريح أم الذكري؟.اخرجت قبعة صوفية من جيبي ولبستها. كنت متأكدة انني لن اجد احدا يعرفني ما دام الوقت لما يزل باكرا والكل نيام. واصلت تحديقي بالصخرة، وكيف انها تشبه بناية ضخمة، عمياء من دون شبابيك. العشب الاخضر الذي يكسوها ينتصب واقفا بردانا لم ينله اذي الاقدام. ينتصب عشبها مع ان كثيرين داسوها، صعدوا لكي يرموا بأنفسهم من شاهقها، وفكرت ربما انهم في عجلتهم الي الموت، لا يصطبرون علي تسلق قمتها فينتحرون من شقوق فيها اقل علوا، لذلك لا تبان آثار اقدامهم علي عشبها الناهض. فكرت في أبي، كيف كان وسيما جدا ويختفي مع المرأة التي تظهر كلما كنا نحضر. افكر كيف كان يري الاشياء التي اراها الان، وكيف انها لم تختلف في كل مرة رأيناها معا، وأراها الان منفردة.لم يضايقني التفكير في عدم اختلافها، ولم يفرحني. الرائحة تغيرت فحسب، وكان يجب ان تبقي كما هي، بحيث يمكن حبسها في احد تجاويف القلب. انا اعلم ان هذا مستحيل، وآسفة لاستحالته.رحل والدي، ولطالما احببته. الصخرة شاهقة ولا احب تسلقها حتي لو دفعوا لي عشرين مليون دولار. ليس الامر تماما انها شاهقة ويلزمني الجهد والتصميم واليأس المطبق لكي اصلها وأرمي بنفسي من شاهقها كما يفعل البعض. ما يعيق حركتي هي الثياب الشتوية السميكة التي ارتدي، والحذاء الثقيل الذي لن يساعدني علي دسّه في فجوات هيكلها العالي، كما المظلة السخيفة والثقيلة الدم التي احمل، والتي ستحيّرني لا بد، هل احملها معي في تسلقي ام ارميها قبل ان اصعد؟.الامر تماما وبصراحة، خوفي من مثل هذا النوع من الموت المزدوج: القفز والغرق، يتبعهما عقاب الرب، وأي عقاب! لو كان والدي يقف الان في اعلي الصخرة فلربما صعدت. لكنه لم يكن. كل ما فعلته انني قفلت عائدة وقد ألقيت نظرة رحيمة علي المرأة العريانة ، وفكرت في ان النوارس طيور سخيفة تقضي عمرها رايحة جاية بحجة انها تسافر كثيرا، بل ملكة الطيور المهاجرة وبطلة المسافات الجوية. لم انتحر، لان ما طبخته باكرا بدا لذيذا فجأة، وندّاها مغريا، كما ان الكتاب الذي اشتريته من معرض الكتاب العربي في بيال ينتظرني. تنتظرني كتب كثيرة لن اخلف موعدي معها.0