يمكن الاعتراف بأن في حياة المرء لحظات قوية، لا يمكن سقوطها في بئر النسيان، إذ تظل حاضرة، سواء نزعنا إلى تدوينها أم لم يحدث ذلك. بيد أن استجلاء عامل القوة، يتمثل في صدمة المفاجأة. ذلك أننا – وعلى الأغلب – لا نتوقع مدى قوة اللحظة، مثلما لا نتدبر استعدادا ذاتيا لقبولها أو مواجهتها. وعلى الرغم من ذلك، فهي تفرض على الذاكرة رمزية حضورها التي تستعاد بين زمن وآخر، إلى أن تطوى صفحة من كان.
على أن قوة اللحظة، تمثيل عن صورة الحدث، إذ نجد من بين الأحداث – خاصة الرمزية – تلك التي نستعيدها كلما رنّ الحدث المماثل، أو زمن ذلك الحدث في ظرف غير الظرف، ومكان غير المكان. كما أن من الأحداث ما يأنف المرء من حكيها وروايتها لهول وفظاعة سلبيتها، ومن ثم، فالمرء لا يذكر، أو يستدعي ويستحضر سوى الأجمل من بين تلك الأحداث.
ويمكنني القول بأنني كنت سعيدا في زيارتي الثالثة للسويد، إذ اخترت أن تكون الزيارة بداية فصل الخريف، الذي تعاش دقائق تفاصيله كما يجدر أن تعاش. ذلك أن شهر أكتوبر/ تشرين الأول، يقترن في بعده الثقافي العالمي بحدثين :جائزة «نوبل» بمختلف فروعها، وحدث إقامة معرض فرانكفورت للكتاب. وما دمت سعدت بحضور الأول فلا أعلم إن كان في العمر بقية للثاني. ولي أن أحكي وقائع «نوبل» كما عشتها.
بيد أن أول ما يلفت، مفارقة الاهتمام. هذه تنحصر بالأساس في الجائزة الممنوحة للآداب دون البقية التي ترد ـ فقط – على سبيل الأخبار. ومن حسن الحظ، أنها في هذه السنة منحت عن العامين (2018/ 2019) وتتجسد بلاغة الاهتمام في وسائل الإعلام بمختلف مشاربها. فمع مطلع شهر أكتوبر تحديدا، نقلت شاشات الحافلات الخضراء صورة كاتبة اعتبرها الإعلام المرئي إحدى المرشحات الأقوى للظفر «آن كرسون». وشخصيا رغم متابعتي للآداب العالمية، فلم يسبق أن تعرفت على الاسم. إذ أن الكاتبة من مواليد ( تورنتو) وتتفرد بمنجزها الإبداعي على مستوى الكتابة النثرية والشعرية، إلى اهتمامها الموسع بالآداب اليونانية، إلا أنه وقبيل نهاية الأسبوع الذي منحت فيه الجائزتان، أفردت الجريدة اليومية «سيد فانسكا» ملحقها الثقافي للجائزة، متوقعة أن يكون حظ الفـــوز لاسم مذكر ومؤنث.
وأوردت من الأسماء العالمية الكندية المعـــروفة مارغريت أتوود، البولندية أولغا توكارتشوك، الياباني هاروكي مورا كامي، الأرجنتيني سيزار آيرا والافريقي نغوني وانتغو، مؤلف الرائعة «تويجات الدم» (ترجمة: سعدي يوسف).
والملاحظ أنه في الملحق ذاته، أشير إلى كاتبين عربيين: الشاعر أدونيس والروائي إلياس خوري. فبالنسبة للأول أكتفي بذكر كونه شاعرا ومثقفا واسع الاهتمام ترجمت أعماله إلى أكثر من لغة، بينما أورد الملحق الإشارة إلى بعض الآثار الروائية لإلياس، فأورد «باب الشمس» و«أطفال الغيتو»، مع الحرص على التشديد لكون هذه الأعمال غير مترجمة للغة السويدية. أما اليومية «سونسكا داك بلادت»، فأضافت إلى قائمة الترشيحات الروائية الإيطالية إيلينا فرينتي (وترجم لها إلى اللغة العربية «صديقتي المذهلة»)، ثم الأمريكية جويس كارول أوتيس. على أنه في اليوم ما قبل الأخير، جدد التذكير ضمن الحيز الثقافي للقناة الأولى السويدية (وهو نافذة على الحياة الثقافية في السويد ومختلف بقاع العالم) بالكاتبة آن كرسون وتوقع فوزها.
ومثلما تجسد الاهتمام على المستوى الإعلامي، أولت مكتبة «ستاديس ببليوتكن» (تقع في قلب مدينة «لوند» ويكاد يناهز عمرها 200 سنة)، أهمية للحدث، حيث أقدمت على نقل وقائع إعلان الفائزين بالجائزة، وهو ما حظيت بحضوره ومعايشة تفاصيله، ذلك أن المكتبة التي لم أخطئ مواعيدي الصباحية في التردد عليها جهزت قاعة المحاضرات بشاشة كبيرة على اتصال مباشر بـ«استوكهولم»، حيث مقر الأكاديمية السويدية، وأعلمت زبائنها من الأعضاء المشتركين والقراء المترددين يوما من قبل، بأنها ستقدم على نقل حفل الإعلان، وبالتالي توجه الدعوة مفتوحة في وجه الجميع. وبالفعل تمام الساعة الواحدة من يوم الجمعة 10 أكتوبر، تابع الجميع وهم يتذوقون «الشوكولاتة» السويدية مهداة من المكتبة، خبر الإعلان عن الفائزين. وهنا كانت المفاجأة الصادمة. فإذا كان الإعلام السويدي تفوق في إشارتين :
– الاولى توقع منحها لرجل وامرأة.
– والثانية أن تظفر بها البولندية توكارتشوك (عن 2018)، والتي لم يترجم لها إلى اللغة العربية، ويتوقع ظهور نصها الروائي «رحالة»، خاصة وقد ظفرت بـ«المان» بوكر العالمية. فإن ما لم يرد ولم يتوقع، اسم النمساوي بيتر هاندكه (عن 2019)، خاصة أن من تقاليد الأكاديمية السويدية التكتم على الأسماء، وبالتالي خلق المفاجأة، مفاجأة فوز هاندكه، التي أسالت حبرا كثيرا من منطلق مواقفه السياسية المساندة لميلوسيفيتش. وبعد، فهذه لحظة في مسار حياة، حكيتها كما عشتها، وستظل من أقوى اللحظات المستعادة وبشكل دائم.
٭ كاتب مغربي