«هيمن تكنسين ظلالكِ» الصادرة عن دار آفا ـ الدنمارك ودار مقام ـ مصر، عملٌ أدبي مصنّف من فئة الرواية، لغته خالية من الحشو في السرد والحوارات، وكذا توظيف اللغة في خدمة النص، التي هي أقرب إلى اللغة المحكية؛ للكاتب السوري جان بابير صاحب «فوضى الفوضى، ثلاثية القبور، الأوتاد، خيط واهن، وطفل يلعب في حديقة الآخرين». «هيمن».. كلمة صورانية وهي أحد أفرع اللغة الكُردية، ويعني الاسم في العربية الهدوء والسكون، إذ كيف لهذا العمل الأدبي الروائي أن يكون اسمه بهذا المعنى وهو يحمل في داخله الكثير من ضجيج وصراخ وحيوات تئن بين الفصول، في تصاعد للأحداث، وتشابك الحيوات وتفاعلها من فصل قتل إلى فصل حب؟
المؤلف/الراوي
جان بابير «الراوي» المتحدث باسم (مانو ـ الشخصية المحورية، فيما بعد تنبثق عنه شخصيات أُخرى بخفة ممثل مسرحي داخلٍ إلى المشهد بهوادة، إذ أنها رواية متعددة الأصوات) في الرواية التي تبدأ بصيغة اعترافية إملائية، ربما لأن الإنسان بطبيعتهِ يحن إلى ماضيهِ الذي أصبح طي النسيان حتى لو كان مؤلماً أن يأخذ منها العبر واللحظات المفرحة، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الرواية كُتبت بصيغة المتخيل الذاتي، وتسبقها مقدمة تمهيدية إلى عوالمها يُعرّف بها القارئ بموضوعها معتذرا في نهايتها عن الألم والحزن الذي سيسببه للقرّاء؛ والذي هو المؤلف في عين الوقت، إذ أن الأنا في شخصية مانو هي الأنا في شخصية جان؛ أو بتفصيل أكثر دقة نجد الكثير من شخصية الكاتب في الرواية، فالمؤلف هو الذي يعطي أفكاره الخاصة معتمدا على سلطات أخرى، على حد تعبير رولان بارت في كتابهِ (نقد وحقيقة).
مانو شخصية محورية
الشخوص من لحم ودمٍ باعتراف تدويني من كاتبها، الحوار، الفكرة كما لاعب الشطرنج تتحكم بظهور الشخصية وإخفائها كبيدق شطرنج، يتقدم لهدفٍ ما أو ينزاح إلى زاوية أخرى لسبب ما. «مانو» شخصيّة محورية في الرواية، وفي الحقيقة مؤسس الديانة المانوية التوحيدية، التي آمن بها سكان بلاد ما بين النهرين لمدة تقارب الألف عام، المكونة من تعاليم البوذية والمسيحية والزرادشتية، ليؤكد بذلك أثر تلك العقيدة في مدينته، كرفض «عيشانه» قتل الأفعى التي تُعتبر مقدسة في تلك العقيدة، والأمر نفسه بالنسبة إلى يوم الأربعاء المعتبر يوماً مقدساً يُحرّم غسل الملابس والاستحمام فيه، الأحداث بتمامها وكمالها تجري من خلالهِ، وليس بطلها الهاء ضمير متصل بالرواية، إذ باعتقادي صفة الـ»بطل» ليست منطقية في الروايات التي تتضمن قضايا اجتماعية أو بيئوية، باستثناء روايات السير الذاتية، وهذه الرواية ليست سيرة ذاتية، إنما هي مزج بين الخيال والواقع لشخوص مهمشين في مجتمعنا، لكن حين تكون هيمن سيرة ذاتية ومانو لاعب ملاكمة، حينها يمكننا أن نطلق عليهِ صفة البطل لما تحمله من دلالات، فـصفة البطل لها دلالة صراع من أجل الفوز بشيء مادي وهي متعلقة بـ»الأنا التعبيرية الوجدانية للآخر» وإبراز العضلات كونه يمثل دولته أو فريقه، فإذا خسر في مباراته أو مبارزته أحبط مشجعيه، وإذا فاز رفع من شأنهم «فوز فريق كرة القدم في المونديال أنموذجاً». لكن إذا أخذنا الحياة كحالة مجازية ساحة للقتال حينها نكون جميعنا أبطالاً فيها، كما أن الأنا في شخصية مانو ترمز إلى المجتمع، أي أنها الأنا الجمعية أو الأنا بصيغة الجمع.
الانتصار للإنسانية
يدور الخطاب في الرواية حول الإنسانية، وما حصل في سوريا، ربما كانت ثورة أو حربا ومؤامرة، أو ربما كانت أزمة، ذلك وفقاً لأيديولوجية الفرد أو الجماعة، وما ذهب إليهِ الروائي في عملهِ هذا هو، إخراج الإنسان من حلبة الصراعات الفكرية التي نتيجتها الحرب دون أدنى شك، نختلف على تسميتها، كأنهُ بذلك يريد إيصال رسالة إلى الساسة «حدقوا جيَّدا في الإنسان في ظل أوهامكم وصراعاتكم». فالأهم من التسمية بالنسبة إليه، الإنسان على امتداد البلاد (سوريا) طولاً وعرضاً، يمتلك جرحاً لا يندمل، إذ يكون في زمن الحرب كحبة قمح بين أحجار الرحى يئن ويبكي ويداوي جرحهُ وحيداً، ربما يكون هذا الجرح نزوحه من بيته إلى مكان آخر، أو بلاد أُخرى فيبقى سجين الذاكرة، أو ربما يكون فقداناً لعزيز في معمعة القتل الدامي، وربما يكون هذا الجرح فقدانه لمنزل العائلة وما يحتفظ به من ذكريات الطفولة والمراهقة والصِبا فيهِ، معتمدا بذلك تارةً على عكازة الذاكرة، مستحضراً فكرة من جيب الماضي القريب، وتارة أخرى تفاصيل كثيرة عاشها وجهاً لوجه واستذاقها بحواسه الخمس، مستعيناً بالمواويل الشجيَّة ليعبر بها عن حجم الفاجعة التي حلت بالإنسان السوري في زمن الحرب. هكذا يرفع جان راية الإنسانية ـ الإنسان المنكوب ومسلوب الإرادة ـ عالياً جدا فوق تلة الدمار.
زمكانية النص
المكان الروائي أو المكان في الرواية ليس كما هو متعارف عليه عقلياً بحواسنا؛ ربما يكون المكان خياليّاً مثل رواية «عالم العناكب» لكولن ويلسون، لا ينتمي إلى حيَّز جغرافي بعينه، وربما يكون الجغرافيا بعينها كما في الروايات الروسية «الحرب والسلام» لتولستوي أنموذجاً. المكان في هذهِ الرواية جغرافية الدولة السورية وبعض الجغرافيات الأخرى بمعناه الحرفي، فالكاتب يتحدث عن دمشق العاصمة السورية: «خرجتُ من دمشق والقلب يجول بين الحارات» والأمر نفسه بالنسبة إلى الزمان.. فـ(زمن) كتابة النص الروائي ليس هو زمن الفكرة، أو القضية المراد تدوينها، كما هو الحال لـ(هيمن) التي بدأت فكرتها قُبيل الحرب ومع الحرب أضاف كاتبها فصولاً إليها. كما يغلب على نص الرواية مناخ الشعر، وإذا أعدنا صياغته على مقاس القصيدة الحرة، تبين لنا أنها من نفسٍ طويل (قصيدة ملحمية) مستحوذة على فكرتها من الأساطير والمعتقدات الدينية والفلسفات القديمة.
كاتب سوري