«وجوه لتمثال زائف»: دراسة الشخصية المركبة التي تعيش بيننا

«من المسؤول عن صناعة الجريمة؟ من بمقدوره الصمود أمام نظرات الضحية المتسائلة؟». رغم كم التشويق الذي يتلمسه القارئ والذي عمد إليه الكاتب في أسلوبه السردي، إلا أن الرواية تتطلب قارئا يمتلك الصبر وقوة الاحتمال، احتمال وتقبّل المشاهد متقنة الصياغة الضاجة بالدماء والأشلاء المتناثرة، أو مشاهد القسوة في أهون حالاتها، فمن الصعب أن تحتمل النفس البشرية كما هائلا من «الحقارة والذّل والعوز وكل بشاعة الحياة» – حسبما يعرّف بطل الرواية نفسه للقارئ – في نص واحد، لأن الكاتب هنا لم يسعَ إلى جعل القارئ أحد شخصيات الرواية، إنما أرغمه على أن يكون شاهدا، وربما شريكا في جرائم بطل الرواية «مرهون عيسى الصاحب» وأقول بطلا طبعا، لأن إسقاط مثل هذه الذاكرة على الورق ما هو إلّا بطولة وشهادة على فجيعتنا بعراقنا.
رواية تدعونا للانتباه رغم مرارتها وقساوة بيئتها، بأن كل أحداثها وكم الزيف والهشاشة التي تتحرك بصلابة على مسرحها، لا يمكن أن تكون ضربا من الخيال، بل هي حقيقة يعرفها المنتبهون ممن عاشوا تحت سماء بلد الحروب والفجائع، وقد قرأنا وشاهدنا وسمعنا من أفواه الناجين ومن تجار الحروب وسفاحي الدماء، عشرات القصص التي قد تتجاوز حدود الخيال بمرارتها وبشاعتها، لذا نجد في رواية «وجوه لتمثال زائف» للكاتب العراقي حسين السكاف الشاهد والموثق لجرائم وانتهاكات ارتكبت بحق العراق وأبنائه لأكثر من ثلاثة عقود، ولم تكن تلك الجرائم خاصة بذوي السلطة فقط، فالمجتمع كان شريكا واضحا وفاعلا في كل جوانبها وتفاصيلها.
«مرهون الصاحب» بطل رواية «وجوه لتمثال زائف» كثيرا ما يعترف عن طريق الحوارات الداخلية، بحقارته ونذالته وإجرامه، ولا يتوانى عن التطرق إلى آثامه ومساوئه، حيث يذكّر القارئ بين فترة وأخرى بتفاصيل جرائمه، من خلال الرجوع إلى «رموز الضحايا» التي كان يأخذها من الضحية بعد التنفيذ، ساعة، خاتما، نظارة، أو حتى كوب ماء، أو سلسلة مفاتيح، كان يجمعها في كيس قمامة أطلق عليه «كيس الضحايا» وكأن المؤلف يريد من وراء ذلك ترسيخ تعاطف القارئ مع الضحايا، وبُغْض الجريمة وإدانتها في الوقت نفسه، ما يجعل القارئ متابعا بشغف لأحداث الرواية.
تكشف الرواية إلى جانب أحداثها السياسية المتلاطمة، عن جرائم المتاجرة بالأعضاء البشرية، واختفاء العديد من الناس البسطاء، دون ترك أي دلالة عليهم، فجميع حالات الاختفاء التي حدثت في تلك الفترة الزمنية لم تكن بحاجةٍ لتحقيقٍ في أسباب اختفائهم، بينما كانت أسباب من أصدروا الأحكام والأوامر جاهزة، وكذا القارئ لن يكترث بمعرفة الأسباب لأنه ليس مُهِمّا، تماما، كما أنه لا حدث غير مألوف، تجد نفسك معنيّا بمعرفة دواعيه وحواشيه. وكذلك اختفاء سجين، أو مقتل امرأة، بمشرط جرّاح ليس جريمة مفاجئة، ليس حدثا يستدعي الوقوف ولن يشغل حواسّك وانتباهك، وهذا إشارة واضحة للتفريط بالفرد كقيمة إنسانية شبه معدومة.

تكشف الرواية إلى جانب أحداثها السياسية المتلاطمة، عن جرائم المتاجرة بالأعضاء البشرية، واختفاء العديد من الناس البسطاء، دون ترك أي دلالة عليهم، فجميع حالات الاختفاء التي حدثت في تلك الفترة الزمنية لم تكن بحاجةٍ لتحقيقٍ في أسباب اختفائهم، بينما كانت أسباب من أصدروا الأحكام والأوامر جاهزة، وكذا القارئ لن يكترث بمعرفة الأسباب لأنه ليس مُهِمّا، تماما، كما أنه لا حدث غير مألوف، تجد نفسك معنيّا بمعرفة دواعيه وحواشيه.

مثال: «حيث السارق لا يدخل البيوت أو المحال التجارية، بل يدخل جسم الإنسان ليجرده من أحد أعضائه الداخلية، أو ربما كلها. كان الأمر مرعبا جِدّا بالنسبة لي، لكن روحي بقساوتها ولا مبالاتها، كانت عونا لي على التماسك». وهنا يشير «مرهون الصاحب» إلى درجة القسوة التي وصلت إليها روحه بلا إنسانيتها وقلقها وتركيبتها المعقدة.. فيما ستُصادف قبل نهاية صفحات الرواية، إشارة واضحة إلى تلك الحالة اللاإنسانية بطبيعة سردية متماسكة، ما يزيد من جمالية النص وقيمته الفنية..
من هذا كله، ولأن الرواية تقوم أساسا على تظهير هشاشة الفضاء العام وقساوته، كأن لا قيمة ولا معنى لأي شيء، أو فعل في حياة شخوص الرواية، نتلمس أن تلك البيئة وذلك الفضاء الذي عاشه بطل الرواية، ساهم بشكل مباشر في صناعة «مجرم محترف» يحبه الجميع، فلا أحد يعرف ما اقترفت روحه ويداه من آثام، وتلك إحدى الركائز المهمة التي بنيت عليها فكرة الرواية، والتي منحتها أهمية مضافة.
ثمّة اعتناءٌ كبير بوصف الأشياء وتعيينها، وبإتقانٍ عال، إضافة إلى الحديث عن مناخ من انعدام الجوهر في حياة الشخصيات التي اهتمت الرواية بسرد تفاصيل حياتهم وحاضرهم وهواجسهم خاصة الهجرة. ليظهر انعدام الشعور بالجدوى تجاه أي مضمون أو فعل، كأن احتفاء مضمرا يريده الكاتب بكل ما لا يُحسب مُهِمّا في حياة العراقيين، أو كأنه يرمي سؤالا مخفيّا عمّا إذا كانت هناك أهمية أو قيمة لأي شيء في بلد الحروب، وذلك الالتباس المزمن الذي تعانيه الحياة هناك، حيث الاحتلال حاضر وغائب معا، وحيث السلطة واللاسلطة، حيث التناقضات والمتاهات الوفيرة والاختفاء والدماء والأشلاء المتناثرة.. ترى ما الجدوى من حياة لم تعرف الاستقرار؟

ثمة عناية مهنية بالجانب السيكولوجي النفسي للقاتل «بطل الرواية» بعد وقوع الجرم. كالحديث عن أرواح القتلى، أو لنقل ضحاياه، كانت لفتة مهمة جِدّا لم أقرأ رواية من قبل تناولت هذا الجانب، رغم معرفتي المهنية القريبة بمثل شخصية «مرهون الصاحب» وجدت في الإشارة إلى هذا الجانب ذكاء مِهْنِيّا من شأنه أن يحث على إعادة التفكر بالنتائج، قبل اقتراف الجرم، وهذا ما ينقص أساليب الواعظين، لأن توجيهاتهم ونصائحهم تصب فقط في الجانب الديني، بمعنى أن القاتل سوف يُقتل وأن مصيره جهنم ولا أحد منهم يلتفت إلى كيفية التخلص إن أمكن من أرواح الموتى الذين يخرجون مثل زومبي الأفلام، وأنهم باقون في ذاكرة القاتل يرافقونه ويظهرون رغبة في الانتقام كلما رفّ له جفن. وهذا يذكرنا بحادث مقتل سعيد بن جبير على يد الحجاج بن يوسف. وذُكِر أن الحجاج مكث ثلاث ليالٍ لا ينام، يقول: «ما لي ولسعيد بن جبير؟» وقد زاد ابن الجوزي: أنَّه كان يقول: «ما لي ولسعيد بن جبير كلَّما أردتُ النوم أخذ برجلي؟».
مثال، «صحوت عَطَّشَانَ لاهثا من الركض أثناء كابوس كانت تطاردني فيه سحالي بحجم كلاب، مجتمعة بسلاسل مرتبطة بسلسلة واحدة طويلة تمسكها أختي وداد. كانت شعثاء الشعر، محمرة العينين، وكانت تصرخ: امسكوا مرهون النذل، مزقوا مرهون النذل».
القارئ أحوج ما يكون الآن، إلى إعادة النظر في سلبيات الأحداث، خاصة السيكولوجية التي تؤثر بشكل كبير على الفرد، وتؤدي إلى تفاقم الاضطراب النفسي لديه، وبالتالي تصنع منه آلة قتل شكّلها التفاعل المعقد بين مناخ الحروب والتجارب الحياتية القاسية.
كما لا بد من أن نلاحظ ذكاء الراوي، حيث أجاب القارئ عن سؤال لا ينفك يُطرح على الكاتب، «لمن تقرأ؟». ففي رواية «وجوه لتمثال زائف» حرص الكاتب على ذكر كتّاب فلاسفة وروائيين وكذلك الإشارة إلى عناوين مؤلفات غاية في الأهمية، كانت قد ساهمت في تكوين خلفية بطل الرواية الثقافية، ليخرج القارئ من آخر صفحات الرواية بمكتبة مستقبلية يضعها هدفا رئيسيا في مسيرة الاطلاع والمعرفة.
وفي الختام لا بد من الإشارة إلى تلك اللوحة التي زيّنَت غلاف الرواية، لوحة فنيّة لها قيمة حقيقية مكمّلة للرواية بفكرتها، فمن يقرأ الرواية ويعيد النظر إلى اللوحة بعد الانتهاء منها، سوف يعثر على كامل الرواية بين ألوانها وتفاصيلها الحادة، فكان اختيار اللوحة خيارا موفقا.

كاتبة فلسطينية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية