تتحدث مصادر إيرانية عن ترتيبات روسية لتحجيم دور الخبراء الإيرانيين والميليشيات الموالية للحرس الثوري، عن التفاعلات في سوريا والتفرد بالنظام السوري في أيامه الأخيرة، وعلى الرغم من الحديث المرير، إلا أنه ينطوي على فشل إيراني في قراءة الحليف الروسي، الذي يعيش داخل أزمة هوية تعمقت بعد الفشل الواضح في أوكرانيا، وحاجته لطوق الرئيس ترامب ليجد مخرجا من الحرج المتعدد الأبعاد على المستوى الوطني، وثقة الروس في قدرة بلدهم على حماية مصالحها، خاصة بعد التدخل الكوري الشمالي في المعارك.
ويمتد الحرج ليصيب مكانة روسيا على الساحة الأوروبية الأساسية والجوهرية لدى الروس، التي تعتبر أي ساحة أخرى هامشية مقارنة بها، فالأوروبيون الذين توقعوا دخول الدبابات الروسية لكييف، في مشاهد تذكر بأيام سطوتهم وإذلالهم لبراغ 1968 وجدوا جيشا متعثرا يحاول التعامل مع الأسلحة الغربية، بصورة لا ترتقي لتضعه في المكانة المتخيلة التي احتلها لعقود من الزمن.
تشوش الرؤية التي كانت تعيشها إيران، كان يقابلها العمى الكامل من قوى عربية عرّفت نفسها بالقومية واليسارية، وهي تبدي حماسا مفتوحا للرئيس فلاديمير بوتين، لتشيع تسمية «أبو علي بوتين» السمجة، التي تدلل على تواصل غيبوبة القوى التي يفترض بها النخبوية، لدرجة دفعتها لسلوكيات مشجعي كرة القدم في حواراتها السياسية، التي رفضت أي نقد للنظام السوري وحلفائه، وجهزت ترسانة التخوين في وجه أي تساؤلات مشروعة، وغضت النظر عن اتفاقية سوتشي في اكتوبر 2021 التي سمحت للجيش الإسرائيلي العمل بحرية في سوريا، وتواصلت الهجمات التي ضربت، إلى جانب مقومات الجيش السوري، مصالح الإيرانيين في سوريا. عادة ما يكذّب الناس ما يسمعونه، إلا أن الحالة العربية التي جعلت دمشق الأسد قبلة القوميين واليساريين، عملت لسنوات على تكذيب عينها وهي تشاهد اللطف الزائد من الرئيس بوتين في معظم لقاءاته مع مسؤولين إسرائيليين، بل وابتلاعه إهانة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي لم يكلف نفسه استقباله على باب مكتبه، ولا حتى الوقوف للترحيب به في أحد اللقاءات.
تتبع روسيا السياسة البراغماتية، بالانكفاء وقت الضغط والانقضاض عند وجود الفرصة المناسبة، وكل ذلك يجري وفق التقديرات الخاصة بموسكو والغرف المغلقة في الكرملين والمؤسسات الأخرى
بالتأكيد حصلت روسيا على ثمن سيتضح مداه في الأسابيع المقبلة، وخاضت ترتيبات مطولة سمحت لها بتأمين قواعدها ومنشآتها العسكرية، لتظهر سلوكيات منضبطة من هيئة تحرير الشام تجاه الوجود الروسي، وكل ذلك لا يأتي منفصلا عن السياسة البراغماتية التي تتبعها روسيا بالانكفاء في وقت الضغط والانقضاض عند وجود الفرصة المناسبة، وكل ذلك، وبطبيعة الحال، يجري وفق التقديرات الخاصة بموسكو والغرف المغلقة في الكرملين والمؤسسات الأخرى، وليس لسواد أو زرقة عيون أحد في هذه المنطقة من العالم، أو غيرها، دور في ترتيب الأولويات الروسية. يعتقد قطاع واسع من النخبة العربية أن الأمور يمكن إدارتها على أسس شخصية في دولة مثل روسيا، بناء على انطباعات قدرة الرئيس الفرد الملهم على صناعة الأحداث في دولهم، ولكن على كل الشخصية الطاغية للرئيس بوتين، وتمكنه من البقاء في منصب الرجل الأول لفترة طويلة تليق بديكتاتور شرقي، إلا أنه يعمل داخل القدر الروسي وضمن الممكن وفقا لما تراه موسكو بأجهزتها ومؤسساتها، وليس من وظائفه أن يعتلي المسرح ليقدم ما يطلبه الجمهور، خاصة إذا كان الجمهور يتطلع لبطل أيديولوجي يحمل الخير والعدل للعالم، وهذه الأمور هي آخر ما يمكن أن يشغل بوتين. ينشغل بوتين الذي حظي بتسمية «أبو علي» كناية عن تحالفاته في الشرق الأوسط، وتقاربه المتأرجح من إيران وحلفائها، بالواقع الروسي المعقد ويدرك هشاشة بلاده الاقتصادية والسكانية، التي تحول دون وجودها كدولة عظمى تشترك في كتابة التاريخ، هي دولة كبيرة ولا يمكن تجاهلها، والصراع معها بالغ التكلفة، ولكنها وفي جميع المناسبات السابقة لم تتمكن من الإمساك بحصص كبيرة، ولا من وضع شروطها وإملاءاتها على الآخرين، كما أن الدافع ليس متوافرا في حالات كثيرة، فما الذي يمكن أن تفعله روسيا بمزيد من الأرض وهي لم تمتلك الكتلة السكانية التي تجعلها تكتشف كامل سيبيريا الشاسعة مثل قارة.
يستيقظ الإيرانيون على وقع سوء تقديراتهم والتحولات العالمية التي سبقتهم، ومع ذلك يمتلكون فرصة لاستعادة بعض من مواقعهم، أو الاندماج بصورة تحمل شيئا من الاستقلالية داخل منظومة جديدة للمنطقة، وكذلك فرصة مستقبلية لأداء دور له قيمة استراتيجية في لعبة كبيرة ستحمل عنوان تطويق الصين، أما ما تبقى من ميراث حقبة الربيع العربي، فسيكون معروضا بالكامل لتحالفات جديدة وحركة تقاسم نشيطة ستحمل مفاجآت شتى، وستتطلب التخلص من تراث النخب التي فشلت مرارا وتكرارا في فهم الصراع، الذي يعمل على أرضية الجغرافيا ويلقي سجلاته على رفوف التاريخ وليس العكس أبدا. تبقى النخبة العربية غير قادرة على قراءة الأرض وعاجزة عن فهم الإنسان بوصفه كائنا فردا أو كيانا مجتمعيا، ولكنها تبدي الجرأة على ادعاء قدرتها على الاستماع للسماء، والقيام بتنفيذ مهامها المقدسة، وما دامت تمتلك هذه القريحة والقواميس الواسعة من الشعارات والألقاب فلا شيء يمنع من استثمارها وإغداقها على أي شخص يبدي موقفا قابلا للتأويل أو يتلفظ بجملة شعبوية تتلاقى مع أهوائهم. تتكشف الأوراق ويصبح من الضروري توديع أبو علي بوتين واستقبال فلاديمير بوتين بوجهه الحقيقي، الذي يمكن أن يحمل درسا تاريخيا سيفوته القوميون واليساريون العرب كعادتهم.
كاتب أردني
تبقى النخبة العربية غير قادرة على قراءة الأرض وعاجزة عن فهم الإنسان بوصفه كائنا فردا أو كيانا مجتمعيا، ولكنها تبدي الجرأة على ادعاء قدرتها على الاستماع للسماء، والقيام بتنفيذ مهامها المقدسة،
مقال رائع استاذي جليل. مشكلتنا أننا شعوب سطحية عاطفية تلهث وراء العنتريات و القوة الوهمية. نعاني أزمات عديدة، منها أزمة هوية، وزادت الحكومات العسكرية العربية الدكتاتورية القبلية الأمور سوءا.
لدي احساس ان بوتن سيرحل عن قريب. خسارة الروس لبلد مثل سوريا لن تمر مرور الكرام عند القوميين الروس. دخلها السوفييت ب ١٩٤٩ وخرجو منها باذلال ٢٠٢٤. بوتن واصحاب العمائم بطهران سيدفعون ثمن هذه الخسارة الهائلة.
“بالتأكيد حصلت روسيا على ثمن سيتضح مداه في الأسابيع المقبلة، وخاضت ترتيبات مطولة سمحت لها بتأمين قواعدها ومنشآتها العسكرية”
لا اعتقد. روسيا سترحل عن سوريا لان الارض ليست صديقة. متى سترحل؟ بانتظار صفقة مع الامريكي. السيد الشرع محنك للغاية وبراغماتي.