يشغل تنظيم «الدولة الإسلامية» منزلة بين منزلتين: ما بين تنظيم «القوات المسلّحة الثوريّة الكولومبية» الذي صهر النظرية الماركسية بتجارة المخدّرات، ونظام «الخمير الحمر» الماوي، الذي ما زالت تخيّم ذكراه ككابوس مريع على أغلبية الشعب الكمبوديّ.
لم تسمح الظروف بعد لتنظيم «الدولة الإسلامية»، أو «داعش»، كما يكنّى، لاطلاق العنان لمخيلته الإباديّة، على غرار «الخمير الحمر» الذين أبادوا خمس شعبهم، وما زالت الفظائع التي يرتكبها هذا التنظيم تقيّد في باب «الجرائم ضد الإنسانية» لا الإبادة، علماً أنّه يشهر الإبادة نفسها كهدف رسميّ له، في حين تغنّى «الخمير الحمر» ببناء «كمبوتشيا الديموقراطيّة»، وبالإصلاح في الأرض من خلال تهجير سكّان المدن إلى الأرياف. هذا مع استدراك افتراضي قوامه: كيف يمكن لجماعة تعتمد ايديولوجيا دينية دعوية مسلّحة ولو كانت كتنظيم «داعش» ان تكون إباديّة على طول الخط؟ بمعنى: يمكن لجماعة ايديولوجية تنادي بتصفية «عرق» من الأعراق، أو قوم من الأقوام أن يصادق فعلُها المقصد فتكون لها سياسة إباديّة، وكذلك الأمر بالنسبة لمن ينادي بتصفية طبقة اجتماعية، وفي حالة كمبوديا تصفية البرجوازية الصغيرة المدينية، أو في حالة المجاعة الأوكرانية، طبقة الفلاحين المتوسطين «الكولاك». أما في حالة حركة أيديولوجية دينية متطرّفة، فمنحى المخيال الإباديّ هو الضغط، بالمجازر، على المخالفين دينياً ومذهبياً، للتوبة!
قد تكون العلامة الفارقة لتنظيم «داعش» أنّ «دولته» تتمدّد فوق أراضي الدولتين الوطنيتين المفروزتين كولونيالياً، العراق وسوريا. لكن «الخمير» أيضاً سعوا الى التمدد، الى لاووس المجاورة، وجمعوا بين اليافطة الأممية وبين حلم قوميّ بـ»كمبوتشيا الكبرى» الفضفاضة على نطاق الهند الصينية.
بهذا المعنى، تتفوق «داعش» على «الخمير» في «الأممية». في الأدبيات الستالينية، جرى التفريق بين الأممية الحميدة، أو «الأممية البروليتارية» التي تقيم وزناً للأوطان والحركات الوطنية، وبين «الأممية الكوزموبوليتية» مرذولة، التي تكابر على ما هو وطني وقومي. بهذا المقياس، «داعش» من الصنف الثاني، والقلق الغربي من هجرة أبناء الحواضر الإمبريالية وأبناء المهاجرين اليها يضفي صدقيةً على ما هو في الأصل … نكتة.
أغلب الظن أنّه لن تكتب لأبي بكر البغدادي اجراء محادثات مع أي رئيس دولة «من عالمنا – عالم الدول الوطنية»، على ما حظي به زعيم «الخمير الحمر» بول بوت بمقابلته الزعيم الروماني نيقولاي تشاوشيسكو وزوجته ايلينا عام 1978، وكان هذا الزوج أقرب من في أوروبا الشرقية للغرب. لكن هذا لا يعني أنّ العزلة الدولية مطلقة في حال «داعش»، فتنظيمها ليس بمنأى عن التقاطعات الظرفية مع هذا المركز الإقليميّ أو ذاك – كذلك حال «الخمير» فبعد أن نبذتهم الصين نفسها وجدوا ضالتهم في دعم تايلند.
واذا كانت فيتنام الشيوعية هي التي تحمّلت الأعباء الأساسية في عملية تقويض نظام «الخمير الحمر»، ما جرّ عليها اجتياحاً صينياً لشمالها لبعض الوقت في نهاية السبعينيات، فإنّه من الصعب ترشيح دولة من الشرق الأوسط لممارسة دور مشابه حيال «داعش». قوّة «داعش» الأساسية في إجماع ضدّها يعطّل نفسه بنفسه. فمن يسدّد لها الضربة المركزية، تلك التي تذكر بصنيع طوسون ابن محمد علي باشا ضد الدولة السعودية الأولى. «الدرعية»، أو بالتدخل الفييتنامي في كمبوديا؟ ايران الشيعية؟ تركيا السنّية؟ الحكومات العربية؟ تكرار العملية الفرنسية الافريقية المشتركة في مالي؟ اعادة احتلال العراق؟!
ليس لدى تنظيم «الدولة الإسلامية» أوهام أيديولوجيّة ببناء اقتصاد «اوتارسيّ»، أي يكفي نفسه بنفسه ومنعزل عن العالم. وهي بذلك الى الرفاق الماركسيين الكولومبيين أقرب، مع فارق أنّ هؤلاء يتاجرون بالممنوعات، وهي تشرّع النموذج الذي يناسبها من «النفط مقابل الغذاء»، وان بقيت قنوات التمويل الاقليمية مركزية عندها.
ككل تنظيمات حروب العصابات والحركات الأيديولوجية التي تسيطر على مساحات ترابية واسعة، تجد من يسلّط الضوء على معالم لـ»داعش» في تيسير الإدارة المدنية أو الحياتية لشؤون السكّان. تجد بهذا المعنى، من يصادق جزئياً على أطروحة «انّها الدولة»، أو من يشدّد في المقابل على انّها نتيجة لانهيار الدولتين في العراق وسوريا. ثمّة ما ينبغي أخذه بعين الاعتبار من هاتين المقاربتين، يبقى ان الاطار الأساسي لما هو قائم في المناطق الواقعة تحت سيطرة «داعش» هو استمرار عمل بقايا مؤسسات الدولتين العراقية والسورية، مع تطويعهما الاعتباطي لمواويل «داعش» وأساليبها، ومن المبكر جدّاً الحديث عن اعادة هندسة «داعشية» شاملة لحياة السكّان، تقارن بحالة «الخمير الحمر» مثلاً، ومن هذه الناحية يبدو تنظيم «الدولة»، أقرب الى نموذج «القوات المسلّحة الثوريّة الكولومبية». بالاصطلاح الماركسي، لم يقم التنظيم بتدمير جهاز الدولة القائم، أو ما تبقى منه، في العراق أو في سوريا، انما هو يكتفي بـ.. «تشغيله».
الملايين تعيش تحت سيطرة تنظيم «الدولة». هذا لا يجعل من التنظيم دولة لكن يجعل منه نظاماً، فسواء كان عارضاً أو مزمناً الا أنه يبقى نظاماً، بمعنى أن تمدّده حاضر في الزمان كما في المكان على حد سواء، لكنه حين يقارن بسواه، لا يشبه «امارة» الطالبان، الأولى أو الحالية، ولا تجارب السيطرة الجهادية في الصومال وجنوب اليمن والتشاد ومالي، بقدر ما انه يغري بالتموقع «وسطيّاً»، بين نموذجين «شيوعيين»، كمبودي وكولومبي.
٭ كاتب لبناني
وسام سعادة
داعش لا يقارن بغير داعش أو ميليشيات ايران بالعراق
فهؤلاء يقتلون باءسم الدين
أي تفويض الاهي بسفك الدماء
مصير داعش والميليشيات كمصير الخوارج الى مزبلة التاريخ