وضعية النشر والكتاب في المغرب: هيمنة الكتاب العربي وازدياد الوعي بالموادّ الرقمية في عالم متحول

انطلقت فعاليات الدورة التاسعة والعشرين للمعرض الدولي للنشر والكتاب، الذي تحتضنه مدينة الرباط للمرة الثالثة على التوالي، بعد أن اقترن اسمه بالدار البيضاء منذ إطلاق نسخته الأولى عام 1987، وتمتدّ في الفترة بين 9 و19 مايو/أيار 2024. ويعرف المعرض الذي تحلُّ منظمة اليونيسكو ضيفة شرف عليه، مشاركة (48) دولة و(290) عارضا مباشرا، يحتضن مجموعة من الأماسي الشعرية والندوات واللقاءات التي تتناول قضايا متعددة حول الأدب والترجمة والنشر، بمساهمة كتاب ومترجمين وباحثين بصموا الميدان الأدبي والثقافي المغربي؛ مثل: الأدب أفقا للتفكير، قراءة التراث وكتابة المستقبل، دور الترجمة في الحوار مع الغرب، جمالية الخط العربي في الشعر، السرد المؤنث وسؤال الخصوصية اللغوية، الكتاب الأمازيغي وترسيخ المعرفة، السينما المغربية الجديدة رؤى واتجاهات، المركزية الغربية واحتكار الهيمنة، الدولة الثقافية من إشكالية التصور إلى إكراهات البناء، الأدب وتحولات البيئة والمناخ، شعر الملحون في المغرب، الذكاء الاصطناعي والمكتبات، الرقمي بين الحرية والعبودية الجديدة، وضمن هؤلاء جيل جديد من الشباب أثبت كفاءته الإبداعية من خلال الجوائز العربية التي نالها حديثا (جائزة الشارقة لنقد الشعر العربي، جائزة كتارا للرواية العربية، جائزة القوافي الذهبية). كما يستعيد مسارات بعض الكتّاب الذي أثروا المشهد الأدبي والفكري (مليكة العاصمي، أحمد المديني، كمال عبد اللطيف) ويستعيد وجوها ثقافية رائدة رحلت عن عالمنا من أجل ترسيخ ثقافة العرفان والتعريف بمنجزها المؤثر الذي ساهم في تطوير الأدب المغربي الحديث (عباس الجراري، إدمون عمران المالح، بنعيسى بوحمالة، بهاء الدين الطود، أحمد الطريبق). مثلما تحتضن بعض فضاءات المعرض أنشطة الأطفال التي تسعى لتلبية حاجاتهم من الأمان والتقدير وتحقيق الذات، وخلالها يعرض مبدعو الكتب المصورة لمارڤل ودي سي أمامهم ورشات متنوعة حول تقنيات رسم وإبداع القصص المصورة ونشرها.
ويأمل المتدخلون من المؤسسات الثقافية، والناشرون وعموم الباحثين والمهتمين بقضايا الكتاب والنشر في المغرب، تحقيق انفراجة أخرى تساهم في تجاوز مخلفات جائحة كوفيد، والتطبيع مع ورّاقات عالم الكتب، والتعريف بالإنتاج المغربي الجديد في مجالات الأدب والعلوم الإنسانية والاجتماعية، الذي تعرضه منصات النشر والعرض طوال أيام المعرض، مثلما يتجدد السؤال عن واقع الكتاب وحصيلته في السنوات الأخيرة، والعوائق التي ما تزال تعترض سبل ازدهاره المنشود.

حصيلة نوعية

عرف الإنتاج الأدبي والفكري في المغرب لسنة 2022- 2023 طفرة نوعية، إذ صدر نحو ثلاثة آلاف وخمسمئة عنوان من المنشورات الورقية (92 %) والرقمية (8 %) التي تغطي المجالات المعرفية المختلفة مثل الإبداع الأدبي والعلوم الاجتماعية والإنسانية، ومعظمها باللغة العربية، فيما هيمنت اللغات الأجنبية (الفرنسية بنسبة أكبر ثم الإنكليزية) على النشر الرقمي في شكل إصدارات لمؤسسات عمومية وهيئات رسمية، تعنى أساسا بمجالات الاقتصاد والتدبير والمالية والدراسات السياسية والاستراتيجية. ورغم الطفرة التي شهدتها بعد جائحة كورونا، فما تزال حصيلة المواد الرقمية دون طموح الناشرين المهنيين الخواص قياسا إلى النشر التقليدي (الورقي) لسببين: هشاشة النموذج الاقتصادي، ثم الممارسات والعادات القرائية، حيث لا يزال الاعتقاد بمجانية النصوص الرقمية سائدا بين أوساط القراء، مع غياب الوعي بالممكنات الفكرية وحقوق المؤلف.
وإذا كانت اللغة الفرنسية قد شكلت خلال العقود الأخيرة، التي أعقبت الاستقلال (1960- 1980) حقبة مشهودة في تاريخ الإنتاج الفكري المغربي، إلا أنها عرفت تراجعا واضحا؛ إذ لم تعد تغطي في الوقت الراهن سوى نسبة (16%) من حصيلة هذا الإنتاج. وفي المقابل، عرفت الإصدارات المغربية باللغة العربية نموّا كبيرا (80%) وإن تفاوتت هذه النسبة من عام إلى آخر. وحسب آخر تقرير أصدرته مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود، مشفوعا بالأرقام والحيثيات، فإن ارتفاع هذه الإصدارات يرجع إلى تنامي سيرورة تعريب قطاع الثقافة والنشر في المغرب، وإلى حركة التعريب التي شملت تدريس العلوم الإنسانية والاجتماعية داخل الجامعات المغربية منذ السبعينيات، وتخرّجت فيها أجيال جديدة من الباحثين والمؤلفين الناطقين بالعربية، أكثر شعورا بروافد الهوية الثقافية الوطنية وواجب إغنائها بروافد جديدة من الفكر العالمي المعاصر، وهو ما انعكس على حركة التأليف المغربي وموضوعاته الخاصة. فالواقع اللغوي للتأليف يؤكد أن المؤلفين المغاربة يكتبون بالعربية، فيما تفرض نظيرتها الفرنسية نفسها كرمز للتبعية الثقافية واللغوية التي أنتجتها سنوات الحماية الفرنسية، ويَطّرد الاهتمام بالإنكليزية على نحو حثيث في سياق انفتاح المؤسسة التعليمية والأكاديمية عليها.

ومن جانب آخر، ما تزال اللغة الأمازيغية، بعد مرور أكثر من عشرين سنة على إنشاء المعهد الملكي للثقافة، وإدراجها في الوسط التعليمي كلغة وطنية منذ دستور 2011، تحاول أن توسع دائرة الاهتمام بها من خلال إصدارات المعهد وبعض الجمعيات الثقافية الأمازيغية (جمعية تيرا في أكادير، جمعية إد نورو للكتاب..) التي تجاوزت خمسين عنوانا يهيمن عليه صنف الإبداع الأدبي (شعر، سرد، مسرح). وينهج مؤلفو الكتاب الأمازيغي الكتاب بالأبجدية اللاتينية في الغالب، قياسا إلى الكتابة بحرف (التيفيناغ) أو بخط مزدوج (عربي- تيفيناغ) حيث لا تغطي سوى عناوين قليلة، شعرية في معظمها. ورغم هذا التفاوت، بل التشظي إذا صح التعبير، على مستوى توحيد الخط، الذي تُكتب به النصوص الأمازيغية، إلا أن هذه اللغة تعرف دينامية ونشاطا ملحوظين في الوسطين الثقافي والأكاديمي، بل يسعى فاعلوها إلى التأسيس لتقليد مكتوب بعد قرون من الشفوية، من خلال ترجمة نصوص وأعمال أدبية وفلسفية وقانونية من الإنتاج العالمي، بما في ذلك ترجمة «حي بن يقظان» للفيلسوف الأندلسي ابن طفيل، و»روح الطفل» للكاتب الألماني هيرمان هيسه، و»في انتظار غودو» للكاتب المسرحي صموئيل بيكيت.

تنوّع المعرفة

يتربع مجال الإبداع الأدبي المكتوب بالعربية على قطاع النشر والكتاب، إذ تقارب نسبته المئوية ربع الكتب المنشورة؛ أي نحو (658 عنوانا) وإن كان جزء لا يستهان منها يتحمله المؤلف على نفقته الخاصة، ويأتي الإبداع السردي من رواية وقصة في الطليعة. وداخل هذا الإنتاج، حظيت الترجمة الأدبية باهتمام خاص ضمن عموم النشاط الترجمي الذي يمتد إلى معارف الإبداع والاجتماع والفلسفة والقانون والفنون وغيرها، ولاسيما الترجمة إلى العربية (150 عنوانا) من لغات المصدر (الفرنسية، الإنكليزية والإسبانية) أو منها (32 عنوانا). كما حظي تحقيق النصوص المخطوطة التي ارتكز اهتمام محققيها على علوم الإسلام والتاريخ والأدب والتاريخ الأدبي، وتنتمي في معظمها إلى مجال الغرب الإسلامي، سواء باعتبار الموضوع، أو باعتبار الانتماء الجغرافي الثقافي للمؤلفين، كما تتباين قيمتها التاريخية والمعرفية داخل الحقل الذي تندرج فيه، أو داخل عموم الإنتاج الفكري الكلاسيكي المكتوب بالعربية. غير أن هذه النصوص تعكس في مجملها اهتمامات أفراد واختياراتهم أكثر مما تعكس برامج مؤسسات بحثية منتظمة، ولاسيما من المحققين الباحثين الذين يسعون إلى تأطير تحقيقاتهم ضمن إشكالات معرفية محددة تمليها قواعد منهج البحث من جهة، والسياق التاريخي والثقافي الذي تأتي فيه ويجيب على أسئلة وقضايا ملحة. ويظهر من خلال هذه الإصدارات الأدبية والفكرية، بما في ذلك الأطاريح الجامعية والمجلات والدوريات الورقية والإلكترونية، أن موضوعها ظلّ يرتبط بالمجال المغربي وبالقضايا الوطنية الراهنة بشكل خاص. كما يظهر الاهتمام بالتراث الأدبي والديني الأندلسي لكونه يشكل امتدادا تاريخيّا للتراث الثقافي المغربي، عدا انفتاح المؤلفين على الفضاء المغاربي والمتوسطي عبر فترات تاريخه الممتدة.
ورغم هيمنة الطابع الذكوري على ميدان التأليف، إلا أنّ المرأة المغربية المبدعة والكاتبة ما فتئت تثبت ذاتها وتعبر عن مشاركتها الحيوية والمتزايدة في الفضاء العام، مستفيدة من اتساع دائرة المجال الحقوقي ومقاربات النوع الاجتماعي. ويرتكز الاهتمام عندها على الإبداع الأدبي بدرجة أولى، ويمتدّ هذا الاهتمام النسائي ليشمل قضايا المجتمع والقانون والتاريخ والاقتصاد والسياسة والفنون والدراسات الأدبية وغيرها. فيما يظلّ الإنتاج الجامعي في مجال النشر هزيلا للغاية، لا يعكس بصورة واضحة ما تعرفه الجامعة المغربية عبر أنشطتها وندواتها العلمية، من ديمومة مطردة في كل التخصصات، سواء الكلاسيكية منها أو الصاعدة.

عوائق وانتقادات

إذا كانت وزارة الثقافة المغربية قد نهجت في السنوات الأخيرة سياسة دعم الكتاب من أجل نشره وتوسيع مجالات تسويقه والاحتفاء به، إلا أن نسبة المقروئية بين جمهور المهتمين والمستهدفين من النشء المتعلم والطلبة الباحثين ما تزال ضئيلة، بالنظر إلى ارتفاع سعر اقتناء الكتاب، وغياب بنيات استقبال حديثة ومندمجة، وضعف الهيكلة الذي يطبع قطاع النشر، مع ما يوازيه من مشكلات التوزيع على مجموع التراب الوطني، حيث يظلّ معظم الإصدارات يتركز في مجال جغرافي محدد، بالنظر إلى أنّ حركة النشر نفسها تتمركز في محور الرباط – الدار البيضاء، وبدرجة ثانوية في مدن الشمال (طنجة، تطوان..) التي صارت مساهمتها أكثر إشعاعا داخل هذه الحركة، لتوافرها على مثل هذه البنيات ونشاط فاعليها الثقافيين. وصار من المعهود، كلما حان موعد انعقاد المعرض، أن تتعالى أصوات الأدباء الذين يجري تهميشهم وعدم استفادتهم من تنشيط فعالياته والتعريف بكتبهم وإصداراتهم الجديدة، سواء من الكتاب المعروفين بنشاطهم وأصالة إبداعهم على مدار عقود، أو من جيل الشباب والناشئة المتأدبين الذين أخذوا يثبتون موطئ قدمهم في أرض تمور بكلّ صنوف العطاء الفني، ويحتاجون إلى تحفيز ورعاية لصقل مواهبهم الإبداعية من مؤسسات الدولة ونخب القطاع الخاص وشبه الرسمي.

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية