«وعَتَمَتُك وسِعتْ كلَّ شيءٍ» مجموعة الشاعرة المغربية إكرام عبدي: مهرةُ ليل القصيدة في ضوء المفارقة

المثنى الشيخ عطية
حجم الخط
1

قصيدة اللقطة أو النبضة أو الفكرة أو ما شاء للقراء والنقاد أن يضعوا من كلماتٍ في توصيف تميُّزها بالقصر، فرضتْ وجودَها على الشعر وبالأخص داخل قصيدة النثر، بما تمتلك من قدرةٍ على «تضييق العبارة وتوسيع الرؤية»، ومن إثارةٍ للدهشةِ في قفلاتها التي تقلبُ ما هو متوقّعٌ ومعتادٌ في المفاهيم واللغة، مع ابتكارها الارتقاءَ بالجملة الشعرية ضمن القصيدة، إلى استقلالها كقصيدةٍ بذاتها، أو تَمَوضُعِها كقصيدة جزئية ضمن القصيدة العامة.
ومثلُ كلِّ نوعٍ أو شكلٍ أو أسلوبٍ ينالُ الإعجابَ، تثيرُ هذه القصيدة بوجودها الاهتمامَ باكتشاف دوافع إطلاقها، ووضع فلسفاتِ ومبرِّراتِ وجودِها ضمن حركات الفن المتفاعلة مع عصرها، إضافةً إلٍى دفعها الموهوبين فيها لابتكار ما يمدّ أجنحتَها أكثر في التحليق.

مدارات الاستقلالية والترابط:
في ابتكار ما يُدهش ويُثري عوالمَ قصيدة النبضة، تنتج الشاعرة المغربية إكرام عبدي ثمارَ مجموعتَها الشعريّة الجديدة «وعتَمَتُك وسِعتْ كلَّ شيء»، التي يوحي عنوانُها مسبقاً بهمّ إثراء الشعر، قبل أن تتكشّف مواصفاتُه ضمن أسلوب هذه القصيدة أولاً، من خلال إثارته للتساؤل المرتاب حول التداخل بالآية القرآنية الشهيرة من سورة الأعراف: «قال عَذَابي أصيبُ به من أشاءُ ورحْمَتي وسِعَتْ كلَّ شيءٍ».
وقبلَ أن يكتشف القارئ ثانياً، التباسَ هذا العنوان في القصيدة التي أُخِذَ منها للتعبير عن المجموعة، في خطاب الشاعرة للّيل أو لكائن مجهولٍ يوحي بالإله من خلال التداخل بكلامه، ومقارنةِ الهامش بأصله، حيث:

«كلُّنا هوامشُ وأنتَ المتنُ
كلُّنا مَنافٍ وأنتَ السَّكنُ
كلُّنا لآلئُ وأنتَ الصَّدَفَةُ
كلُّنا التيهُ وأنتَ الضِّفَّةُ
وعَتَمَتُكَ وَسِعَتْ كلَّ شيءٍ».

وثالثاً، قبل أن يعيش القارئ مفهوم عبدي عن عتَمَتِها التي تنشرها بالتداخل الصوفي المتضاد، ضياءً، وتطهراً، وفيضاً وانتشاراً وتساؤلات، حيث:

«كلّما تعبتُ من النهار
أتطهَّر بالعَتَمَةِ
أفيض بها
أعبر كنهرٍ هادئٍ
أُلَمْلِمُ نُجَيماتِها
أندلقُ في محيط ليلِ الأبدية
وهديرِ أسئلةٍ بين مدٍّ وجَزْرٍ».
وفي هذا الابتكار، تنشر عبدي تعبيرات العتَمَة في لغة القصيدة المبثوثة في نسيجها، مثل مفردة الليل التي ترد في معظم قصائد باب ما راودَني في الليل، ومفردات الحُلْكة والعمى والتقرّي والاكتشاف والتضليل والهداية والغواية؛ مثلما تستخدم العتَمة وتعبيراتِها، كمجازات لتفاصيل الحياة والعشق، مثلما تفعل في قصيدة «قطّ ليليّ» في تعبيرها عن التوحّد في التضاد والمساحات الخاصة التي تتخلل التوحّد، مخاطِبةً قِطّها المَجاز عن العاشق:

«دعنا نُصِخ السَّمع لحديثِ خَطْوِنا
ولذاكرة من عبروا من هنا
يؤلمني وجعُهم أنينُهم
أحلم برقصة زوربا
بمطرٍ خفيفٍ
نغسل به حزننا الشفيف
وأحزاناً أخرى رماها آخرون
لا نعرفهم
من نوافذ قلقهم».

ويَلمس القارئ من دون عناء مدى نجاح ما تقوم به عبدي في تمييز وتخصيص مجموعتها ضمن أساليب قصيدة النبضة، بما تُبَلورُه في مفهوم استقلالية القصائد ضمن ارتباطها، متجنِّبةً فخاخَ اللقطة المنفلتة عن قدرة تشكيلها في كتابٍ لا يُتّهم باللّملمة التي تسود هذا النوع من القصائد؛ ولا يقوم فعل «مراودة القصيدة» اللحظيّ الذي تبتكره عبدي، سوى بإضفاء نكهة انفتاح المجموعة على الحياة دون أسرها بفخاخ التشظي.
وربّما يستمتع القارئ، ولا شرط في إدراك ذلك، أو في إقامته لذلك، بالاستقلالية ضمن الارتباط، فيما توحي به قصيدة «قطّ ليلي»، المجازيّة الوحيدة الطويلة في المجموعة، والمعبّرة عن حالة العشق الصعبة الوجود في مؤسسة الزواج، أو حالة المساحة الخاصة في التحام العاشق بمعشوقه كما لو كانا واحداً، حيث القطّ: «يسير بقربي جسداً بجسدٍ/مرَّة يشرئبُّ/ ليكبرَ خارج الظلِّ/ فتشمخُ سمائي/ ومرّة يُمسِّدُ ساقي/ فيخرُّ العشبُ/ ساجداً لي.». وحيث: «نمضي معاً/ ولي معهُ/ نِصْفُ الطريق/ نصفُ الأمنيات/ نصفُ اغنيةٍ/ نصفُ قمرٍ/ نِصْف صمتٍ/ إلّا مُواؤُه له وحدهَ/ وكلماتي لي وحدي./ كيف لوحيدةٍ مثلي استنفار الكلامِ بلا آخرِ؟».

مُراودات القصيدة:

ضمن آلية الاستقلالية/ الارتباط، تُشكّل عبدي بنية مجموعتها بأربعة فصول، يمكن توصيفها بأربعِ قصائد ترتبط ببعضها فيما تسمّيه من دون عبثٍ، وبارتباط عميق بموضوعات وشكل كتابها، بـ «المراودة»، الموحيةِ بعوالم الصوفية، والمؤكِّدةِ لها باستخدام مفهوم «الباب»، والسابحةِ بخصوصيةِ رؤيتها فيها من خلال تركيزها على التضاد.
وتأخذ هذه الفصول/ القصائد عناوين: (بابُ ما راوَدَنِي في الصباح، بابُ ما راوَدَنِي في الليل، بابُ ما راوَدَنِي في الشّجر، بابُ ما راودني في المطر). وتتضمّن الفصول خمساً وسبعين قصيدةً يمكن اعتبارها قصائدَ مستقلةً بذاتها، وقصائدَ جزئيةً ضمن القصيدة العامة في ذات الوقت، لما تتميز به من ارتباط بالموضوع والشكل، وإن تنوّع السّرد والخطابُ فيها.
ويلحظ القارئ بسهولة ويعيش ما تُشكِّلُه كلمة «راودني» من إيحاءاتٍ صوفيةٍ تعيد القارئ إلى مفهوم دفع النفس بفعل العشق الذي يكتنف المجموعة، ويكادُ أن يمسحها بزيت صَلبِه وقيامَته، حيث:

«لا ذاكرةَ للَّيل إلا في حضن العاشق
فاحذر أيها العاشقُ
أن تموتَ قبلَ خفوتِ اللّيل، أو تغادرَ الجحيمَ قبل الاحتراق،
وإنْ أَنهيتَ قصيدتَك،
اتركْها للأحلامِ تحرُسُ جَمْرَتَها.
لا تمُتْ قبل الهزيع،
وإنْ انتهتْ رحلتُكَ
ابتكرْ سَفَراً يَشِفُّ عن المعنى
لا تغبْ قبل انكسار الكأسِ
ستبقى وحيداً في الموت».

وحيث يصلُ العشق الصوفي إلى أنْ: «أرفعَ رأسي كلَّ صباحٍ/ لأرى وجهَ اللهْ/ وأنحني مساءً لألقى الله/ في وجه عاشقي». وحيثُ يغمرُ العشق المجموعة ويتّسع إلى: «ما أضيقَ الليل/ لولا سعةُ العشق»، وينتقلُ إلى عشق كائنات الطبيعة لبعضها في مناجاة الجمال وإبداع سيمفونية التآلف في التخالف داخل البابين الثالث والرابع: «ماراودني في الشجر والمطر»، لعيْش الفرح، واستبشار الأمل بالولادات وإنْ عبر الألم، مثل كل البدايات، حيث: «علَّمتني الريحُ أنْ أترنَّحَ بفرح الانبعاث/ وأُلَوِّح بالوداعِ لذاكرة الغياب». وحيث: «يكفي أن أمسكَ بريشةٍ مهملةٍ/ لأصيرَ أجنحةً»، في تداخل الطبيعة وامتزاجها بكائناتها جسداً وروحاً.
كما يلحظ القارئ إيصال عبدي مراوداتها في دفع النفس إلى التفكير بما تثيره اللفظة من معنى جنسيٍّ أفصح عنه القرآن بالتعبير صراحةً عن محاولة امرأة العزيز مراودةَ يوسف عن نفسه.
وتحفل المجموعة في العديد من القصائد صراحةً بمعاني الفعل الجنسي التي تبقى ضمن حيّز الارتقاء الإيروتيكي، من دون ابتذال الإباحية، وشمولِ هذا الفعل جميع ما يكتنف الطبيعة ويُلاقح الكتابةَ نفسها. وتفعل عبدي ذلك بجرأة لفظ كلماتٍ شبه محرّمة مثل كلمة المضاجعة، ومجازاتِها المعبِّرة عنها في مثل قصيدة «ملل»، حيث: «مللتُ الصباحَ كفكرةٍ/ ضاجعتْها كلُّ النهارات». وقصيدة «دعارة»، حيث: «النهار فتىً داعرٌ،/ والغروبُ تكفيرٌ عن خطيئته»، وقصيدة «مسّ» التي تختم بها عبدي مجموعتها وتعبّر فيها عن الفعل الجنسي مؤكَّداً بكلمة المطر المرافقة لكلمة «مسّ»، حيث: «إني مسّني المطرُ/ وأنت أرحم الراحمين».

جماليات المراودة:
في العتَمة التي وسِعت كلَّ شيءٍ، تتجلّى جمالياتُ قصيدة اللقطة لدى عبدي بنبض كلمة «ما راودني» إلى حدود غمرِ إيحاءاتِها وتداخلاتِها العشقية عنوانَ المجموعة. وفي جماليات هذه الإيحاءات والتداخلات يبرز جُهد عبدي في تجْلِية المتضادات بضوء العتَمَة، حيث لا يكون شيء بغير نقيضه؛ كما تبرز إثارتُها للدهشة في قلب المعتاد إلى درجة أنه: «كان يكفي أن ابتسم هذا الصباح/ ليبصرَكَ الجميع».
ويَبرزُ تداخلُها الخاص بالتراث الإسلامي، بدءاً من العنوان الذي أشرنا إليه، إلى الكثير من القصائد، مثل «ضلع الليل» التي تتداخل عبدي فيها مع المصفوفةِ الإسلامية حول خلق المرأة من ضلع آدم، ومع الصوفيّة في فلسفتها للاكتمال، ضمن العشق، بوضعها جسد المرأة وإحساسها به، محوراً لهذا التداخل، حيث: «لستُ ليليّة بما يكفي/ لكن الله اصطفاني/ خرجتُ من ضلع دَيْجورٍ/ كي لا تغيب ملامحي».
وقصيدة: قُلْ هو الليل، التي تتداخل فيها مع «قل هو الله أحد»، حيث: «خيالُه أكبرُ من الظلِّ/ علَّمَني/ أن التحليقَ في وضح النهار/ لن يتمَّ إلا بشهقةٍ مختلَسةٍ/ في جنح الليل». وقصيدة بِلّور، حيث: «قل هو الليل/ بِلّورٌ/ احذر أيها النهار وأنتَ تلِجُه/ أنْ يتهشّمَ». وقصيدة «عبور»، حيث ينبض التضاد بـ: «قلْ هو الليل/ عبورٌ/ كلّما طالَ/ قَصُرت خطواتنا نحو الموت.». وقُلْ هو الليل، «كؤوس تتناسل…». وحيث: «الليل دليلي إليَّ».
وإضافةً إلى جماليات تنويع السّرد والخطاب الذي يظهر واضحاً في قصيدتِها الطويلة، ويشمل القصيرة، لا تنسى عبدي مدَّ ليلِها: «على محمَل الوطن»؛ ولا تنسى أن تكون مع حرّية التعبير، حيث: «هل كان لا بدَّ من نشيدٍ رقراقٍ في البراري/ لنُصَدِّقَ أنَّ للحرف مكاناً آخر غير الزنزانة».
كما لا تنسى في تجربة إبداعها لقصيدة نبضةٍ مغايرةٍ عنادَ الشاعرة في التأكيد على تضادّها، حيث:

«مهرةٌ أنا
أخبُّ في سهول الليلِ
لأحلامي عنادُ الجبالِ
أتعدَّدُ وأصنع ضوئي
أهربُ من ظلِّي
لا شيءَ يَسْتَغْوِرُني كهذا السّواد
أعشقُ حتى الثمالةِ
أُشرقُ بعذوبةٍ لتبصرَني
أنطفئُ بسحرٍ لئلَّا أغيب».
إكرام عبدي: «وعتَمَتُكَ وسِعتْ كلَّ شيء»
فضاءات للنشر والتوزيع: عمَّان 2024
128 صفحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول حسان:

    تحية للشاعر الناقد الكريم
    وللشاعرة المرهفة.
    قصاءد مترعة بالوجد والنبضات والاشارات واللفتات
    اللطيفة المدهشه..
    – الاكثار من التداخلات مع
    الايات القرانية وعبارات الصوفية قد يثير الملل والشعور بذلك التهافت؟
    فليعرف الشاعر/ة ميزانه/ا
    ولا يسرف ولا يكن من
    المتكلفين.

اشترك في قائمتنا البريدية