وفاء إلى روح الفنان التشكيلي التونسي عمارة غراب: كتاب فني ومعرض يلخص مسيرة عاشق الضوء والألوان

روعة قاسم
حجم الخط
0

تونس ـ «القدس العربي»: عمارة غراب، الذي توفي سنة 2023 عن عمر يناهز 78 عامًا، هو ذلك «الرسام والمعماري التونسي الذي يعشق الضوء»، نعم هو الوصف الذي يناسبه والذي اختاره له النقاد. فالانبهار بالضوء ينتشر في كل أعمال غراب، التي وصفها البعض أيضا، وبكثير من الحب لهذه الأعمال الإبداعية، بأنها «حالمة معلقة بين السماء والأرض».

مسيرة فنية حافلة

وُلد عمارة غراب في مدينة جرجيس الساحلية الجميلة الواقعة بولاية مدنين بالجنوب الشرقي للبلاد التونسية وتوفي بالعاصمة سنة 2023. ومنذ النشأة الأولى كانت جرجيس والصور التي التطقتها الذاكرة فيها هي المرجع والأساس. فالجهة تزخر بأشجار الزيتون التي يتم استغلال محصولها في إنتاج الزيت الرفيع، وينشط أهلها أيضا في الصيد البحري وتشتهر بأسماك بحيرة البيبان وأسماك خليج قابس التي يقبل سكان المدينة على باعتها. كما تزخر جرجيس السياحية بمظاهر البهجة والفرح وتنتظم فيها المهرجانات الفنية والاحتفالات النابعة من التراث التقليدي للجهة التي تعتبر واحدة من أهم مناطق البلاد التونسية الغنية بالتراث الذي يشكل فيسفساء من الألوان الزاهية، وهو ما انعكس إيجابيا على نفسية الفنان التشكيلي وعلى قدرته على الخلق والإبداع والابتكار.
درس عمارة غراب في مدرسة الفنون الجميلة بتونس العاصمة، وبسبب تفوقه الأكاديمي في رحاب الفنون حصل على منحة من الدولة لمواصلة دراسته في مدرسة الفنون الجميلة بباريس. وبعد إتمام تخصصه الفني قرر وهو في باريس دراسة الهندسة المعمارية وتفوق فيها أيضا ليعود إلى تونس سنة 1981 ويتخصص فيها ممارسة وتدريسا من دون نسيان ولعه بالفن التشكيلي.
لقد قام الفنان عمارة غراب وهو المهندس المعماري بتصميم مجموعة من المباني الهامة في مدينة تونس العاصمة تتمثل في منشآت عمومية وخاصة ومستشفيات ومعاهد ومدارس ابتدائية وفنادق ومنازل وغيرها. وقد رأى البعض أن هذا الجمع بين الفن التشكيلي والهندسة المعمارية هو الذي جعل تجربة غراب فريدة من نوعها ومليئة بالإبداع والثراء، ففيها توق خفي إلى المعمار وتشييد المدن جعل من لوحاته بنظر البعض بناء فنيا متكاملا يشبه معمار المدن.
ترك عمارة غراب حياته المهنية في مجال الهندسة المعمارية جانبا وتفرغ تماما للرسم مع بداية الألفية الثالثة ليحقق مجده الفني الذي طالما حلم به والذي جعله يلتحق بالكبار والمؤسسين لهذا الفن في تونس من حيث الإبداع والتأسيس لمدرسة متميزة خاصة به. لقد عبر في أعماله عن مشاعر الفرح والرضا التي تنتابه وصور العالم جميلا مضيئا كما رآه هو في مسقط رأسه جرجيس وفي محطته الدراسية بباريس وفي استقراره بمدينة تونس، وكان في كل هذه المحطات بشوشا ومحبا للحياة.
لقد سعى طيلة مسيرته الفنية الإحترافية إلى النفاذ إلى الأعماق في جميع الأشياء باحثا عن مواطن الجمال فيها ليقوم بإبرازها في أعماله التشكيلية إلى جمهوره الذي يتكاثر من معرض تشكيلي إلى معرض آخر. لقد أبدع عمارة غراب في تحويل الأشكال الهندسية الجامدة وهو المهندس المعماري، إلى كائنات تكاد تنطق حياة وتبدع فنا وموسيقى صاخبة تتداخل فيها الألوان والأضواء فبات الأمر شبيها بجوقة موسيقية تبدع أحلى النغمات.

الهالة الصامتة

إن إبداعات الفنان التشكيلي عمارة غراب محاطة دائمًا بهالة رقيقة وناعمة تتخلل مساحة القماش الذي تتشكل عليه اللوحة مثلما تتشكل عمارة المدينة التي خطط لها المهندس المعماري البارع. وتتميز اللوحات بوجود خفة غير محسوسة ومنتشرة على كامل الفضاء التشكيلي، يحاول المعرض تسليط الضوء عليها لإعادة التقاطها من جديد تكريما لهذا الفنان الاستثنائي الذي ترك بصمته في الفن التشكيلي التونسي.
لقد عرف عمارة غراب كيف يخلق باقة زهور متنوعة من المشاعر المتدفقة من خلال رسم زيتي بسيط أو رسم بالألوان المائية أو من خلال دفع الغير بإبداعه إلى صياغة نص ملهم يصف أعماله. هذه الأعمال التي تشبه في جانب منها أعمال فنانين تونسيين كبار مثل عبد العزيز القرجي وزبير التركي وإبراهيم الضحاك، وكذلك نجيب بلخوجة وفيكتور سرفاتي وعمار فرحات. وبالتالي، ومن خلال هذه الطريقة الانتقائية، يُعتبر عمارة غراب فنانًا يجمع بين جيلين وبين تقنيات متعددة أساسها إلهام تونسي عميق.
هذه الوفرة وهذا التنوع في المشهد إن صح التعبير، والذي يولد من الرغبة في التعبير عن جمال الواقع المكسو بالضوء، هو الانطباع الأول الذي يشعر به المتصفح للكتاب الذي يضم ألبوم الصور لمجموعة واسعة من لوحات عمارة غراب ورسوماته التخطيطية والذي أصدرته نادية غراب، أرملة الفنان الراحل. ويحمل الكتاب عنوان «عمارة غراب: رسام ومعماري في حب الضوء»، وقد صدر هذا العمل مؤخراً في طبعة جميلة جداً أنتجت في مطابع سيمباكت.
وتم تصميم هذا الكتاب، الذي يضم أيضا نصوصا لفنانين ونقاد مختصين صدرت باللغتين العربية والفرنسية، من قبل الزوجة الوفية نادية غراب، وهو يجمع العديد من أعمال الفنان والعديد من المساهمات التي تساعد في تحديد نهج عمارة غراب الذي يعشق الضوء بالفعل. ومن الكُتاب الذين تواجدت نصوصهم في هذا العمل فوزية الساحلي وهشام بن عمار وعمر الغدامسي الذين وقعوا على مساهمات تسلط الضوء على عدة جوانب من أعمال غراب وجعلوا القارئ يستجلي حقيقة تلك «الهالة الصامتة» من الضوء التي تحيط بأعمال عمارة غراب.

خطوط في نشوة

وبالتوازي مع صدور هذا الكتاب «ألبوم الصور» الذي يبلغ عدد صفحاته 150 صفحة، ينتظم معرض كبير يستعيد ذكريات لوحات عمارة غراب في الفضاء الثقافي «دار الفنون» بحديقة البلفيدير بقلب العاصمة تونس، برعاية وزارة الشؤون الثقافية. وهو تقدير مستحق للفنان التشكيلي والمهندس المعماري من الجهات الرسمية يوسع نطاق عمل الذاكرة الفنية التشكيلية للتونسيين الذي بدأه الكتاب الذي نُشر للتو وتضمن أيضا رسوما للوحات الفنان.
ويضم هذا المعرض الذي أحسن منظموه اختيار الفضاء الذي يقع بواحدة من أجمل الحدائق العامة بالبلاد التونسية قرابة مئة عمل للفنان التشكيلي التونسي الراحل. وتتنوع هذه الأعمال بين اللوحات والرسومات التي تعرض وتوثق المسيرة الفنية المتميزة لعمارة غراب لتكون لمسة وفاء لمبدع كان مصدر إلهام في حياته وما زال مؤثرا في المشهد الثقافي حتى بعد مماته.
ويحمل المعرض عنوان «خطوط في نشوة»، وينتظم خلال الفترة ما بين 15 شباط/فبراير و15 آذار/مارس الجاري، ويتيح للزوار إعادة الانغماس في ضوء أعمال الفنان الراحل الكبير. فبعد عامين من وفاته، يأتي هذا التكريم الذي يمكن الشباب من اكتشاف تفرد عمارة غراب في فن التكوين الهندسي والعائم الذي برع فيه.
إن هذا المعرض هو لحظات من اللقاء والتأمل الممزوج بالانغماس في عمل ينبع من أعماق الروح بحثًا عن النور في عملية تجريدية تتداخل فيها الألوان مع الرسوم بين الإنسان والمعمار، باعتبار أن تكوين الرسام في الهندسة المعمارية والفن التشكيلي جعله يجمع في أعماله بين التجريد والانطباع وهو ما جعل لوحاته تعج بالحياة والحركة والضوء. وكما يقول شاعر تونس الخضراء أبو القاسم الشابي في قصيدة من ديوانه «أغاني الحياة» بعنوان «خلقت طليقا كطيف النسيم»: «إلى النور فالنور عذب جميل، إلى النور فالنور ظل الإله».

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية