وقائع انفجار «السردية الإيرانية» و«الربيع العربي» الذي سبقها

حجم الخط
1

منظومة «الممانعة» المشكلة من نظام الولي الفقيه في إيران، والنظام البعثي في سوريا، وجمع الميليشيات المرتبطة أو المحاكية أو المتصلة بالحرس الثوري الإيراني تتصدّع، تترنّح، تنخسف، تنهار.
لكن ذلك لا يحدث هذه المرة في أعقاب قومات شعبية، كمثل انتفاضة الإيرانيين على تزوير انتخابات 2009، أو احتجاجاتهم العارمة على خلفية اقتصادية اجتماعية 2019-2020 أو خروجهم الغاضب من بعد مقتل الشابة مهسا أميني 2022، ولا كنتيجة مباشرة لنزول ملايين السوريين العزّل إلى الميادين 2011-2012، في مواجهة بطش جلاوزة النظام الدموي وعقيدة «الأسد أو نحرق البلد» ولا من بعد نزول مئات آلاف المواطنين اللبنانيين إلى الساحات تنديداً بالاغتيالات ورفضاً للوصاية وتنديداً بمن أوصل بلدهم إلى حالة الإفلاس كما حدث في 2005 و2019، ولا في أعقاب احتجاجات تشرين العراقية التي حُرِّقَ فيها العلم الإيراني، وقَتَلت فيها الميليشيات الدهمائية الرجعية ألفين من الطلاب والشباب الغاضب وتعقبت الناشطين المدنيين أو على مواقع التواصل تختطفهم وتغتالهم.
منظومة الممانعة تتداعى الآن بعد سنوات على تألق هذه الحيويات الشعبية واصطدامها جميعها في نهاية المطاف بالظروف غير المؤاتية، وعناصر الوهن والتفسّخ الداخلي وما أكثرها، والتأهب «البطشيّ» العالي للميليشيات. فماذا حدث؟
قبل أي اعتبار آخر حرب غزّة.
الأنظمة «الأنتي ممانعة» اتخذت لها حيال هذه الحرب موقفاً غير راغب في ممارسة أي ضغط عربي جدي وشامل على إسرائيل لإيقاف حرب إبادتها. سلوك أسرة «الاعتدال السلطوي» هذه لن يمر هو الآخر بلا عواقب، إنما ليس الآن. ليس بالشكل المباشر.
منظومة الممانعة في المقابل تدخلت، عرضت أسلوبها في ممارسة نظرية «وحدة الساحات الجهادية». إنما بالشكل الذي لم يوقف هذه الحرب. بل امتدت لاحقاً إلى لبنان بشكل أتى أيضاً على ما كان يقوم مقام «الحبكة» في السردية المبثوثة انطلاقاً من إيران.
تقوم هذه السردية على جحود هائل بتركة الحروب النظامية بين العرب وبين إسرائيل، وعلى وصم هذه المرحلة بأنها كانت «انهزامية» من الأساس، مغتربة عن مصادر القوة والسؤدد لدى «المستضعفين في الأرض». وأن خروج مصر من الصراع، مع توقيع اتفاقية كامب ديفيد، ودخول إيران اليه، من بعد الإطاحة بمحمد رضا بهلوي وإقامة شاهنشاهية الكهانة، تعني أنه قد «ولى زمن الهزائم وأقبل زمن الانتصارات».
لا تحتمل السردية الإيرانية الخمينية تأرجحاَ في مجرى الصراع مع إسرائيل بين هزائم وانتصارات. تقوم على تقسيم الزمن نصفين. قبل الثورة الإيرانية زمن الهزائم العربية، وفي إثر الثورة انطلاقة مسلسل الانتصارات وصولاً إلى تخريب إسرائيل وقد اعتبرتها الأيديولوجيا نفسها استمرارية لحصون خيبر!

ليس الشيء نفسه أن يحدث انهيار منظومة الممانعة تحت أثر الاستباحة الإسرائيلية لدماء الفلسطينيين، وتلف النظام السوري وهو يحاول استجماع عناصر بقائه الموميائي من التعويم الرسمي العربي له

لقد استطاعت هذه السردية أن تلحق بها من كان يفترض أن له بالأساس سردية أخرى. كالنظام السوري، المفترض أنه لا ينظر لحرب 1973 «التحريرية» كزمن «هزائم» وأنه يتبنى مقال التسوية، على أساس منطلقات مؤتمر مدريد ومبدأ «الأرض مقابل السلام». وحركة حماس، المفترض أنها لا تتشارك مع هذه المنظومة الإيرانية رؤيتها العقدية العامة، ولا فكرة أن الفلسطينيين وسائر العرب كانوا كالهائمين على وجوههم في مجرى الصراع إلى أن حضر خميني.
هزيمة إيران الخمينية أمام صدام حسين أواخر الثمانينيات كانت كفيلة بتفتيت هذه السردية، لولا أن صدام نفسه اجتاح الكويت في إثرها وجرجر وراءه حسابات قاتلة إلى حين الغزو الأمريكي لأرض الرافدين، الذي فتح بوابة المشرق العربي للجحافل الإيرانية على مصراعيها.
رعونة بشار الأسد دفعته أيضاً إلى التضحية بالمفاهيم التي كانت لا تزال تفصل بين نظامي «البعث» و«ولاية الفقيه». لكن عنصر القوة الأساسي في السردية الإيرانية الخاصة بالصراع مع إسرائيل كان «حزب الله» وبالذات في حقبة السيد حسن نصر الله. الضربة القاسية التي تعرّض لها الحزب في الحرب الأخيرة حجمت إلى حد كبير هذا العنصر.
الأنتي ممانعة تقول جهاراً إنها ليس عندها ما تقدمه لفلسطينيي غزة. ليس عندها «سردية» سوى الاكتفاء بتحميل المسؤولية الى خيار استمرار مقاتلة إسرائيل، ومن دون الاهتمام بالوصل الكافي بين هذا الأمر وبين فض إسرائيل يدها نهائيا، وبلا رجعة على ما يبدو، من كل تراث «الأرض مقابل السلام».
الممانعة لا تزال تقول للفلسطينيين واللبنانيين إنهم يعيشون زمن انتصارات. يقود ذلك حتماً إلى انفجار السردية. لقد حبس التصور الخمينوي للصراع مع إسرائيل نفسه في هذه القسمة بين عصر هزائم «عربي – دنيوي السمة» وعصر انتصارات «إيراني – اسكاتولوجي السمة».
يعكس انفجار السردية مشكلة عويصة أخطر، وهو أن منظومة الحرس الثوري والميليشيات المرتبطة به وصلت إلى حد التوسع اللامحسوب، التوسع الذي عادة ما تنفجر الامبراطوريات من بعده حين تصل اليه، إذ يتحول هذا التوسع إلى وبال عليها، يرهق إمكاناتها، ويستهلك مواردها بدلاً من أن يجلب لها الجاه والكنوز وعناصر المكنة والاستمرار. أصاب إمبراطورية الحرس ما يصيب كل الإمبراطوريات التي كانت فعلا امبراطوريات، من مغبة «التوسع الزائد». مع فارق أن هذه الإمبراطورية الحرسية بقيت وهمية إلى حد كبير. إمبراطورية أبقت بلداً ضخماً بحجم إيران على هامش الثورة الصناعية الآسيوية.
يبقى أنه ليس الشيء نفسه أن يحدث انهيار منظومة الممانعة تحت أثر الاستباحة الإسرائيلية لدماء الفلسطينيين واللبنانيين، وتلف النظام السوري وهو يحاول استجماع عناصر بقائه الموميائي من التعويم الرسمي العربي له، وتقاسم مناطق سيطرته مع الإيرانيين والروس. ليس الشيء نفسه أن يحدث الانهيار نتيجة الاهتراء المتزايد وليس تحت وطأة القومات الشعبية. بل وفي عز اليأس والقنوط لدى الجموع، واستفحال النزيف الديموغرافي في بلدان المشرق، وهذه حالة لا تلغيها ردات الفعل على تقهقر قوات بشار وماهر الأسد مدينة في إثر مدينة.
هذه السنوات التي تفصل قومات هذه المنطقة ضد «الممانعة» بمختلف عناوينها على انهيار منظومة الممانعة نفسها، وقد بدأت فصوله، ليس من السهل إلغاؤها، أو اعتبارها مجرد استراحة محارب. إنها بالعكس، مؤشر إلى تلف مجتمعي عميق لا يمكن أن يعالج بالمكابرة الآن على التعددية الإثنية والإثنو-دينية في «الكيانات الوطنية الرسمية» القائمة. فقبل أن تتهافت سردية «الممانعة» تهافتت سردية «الربيع العربي» أيضاً. تلك التي ترى الى «شعوب» غير موجودة بهذا الشكل الملحمي التمجيدي لها، الجاحد بالاختلافات القارّة فيها، غير المسائل للبنى الثقافية المانعة لاستدامة النزعات التحررية، بحجة اجتناب «الثقافوية» وكيد الاستشراق.
هل هذه المجتمعات قابلة لإعادة الاستصلاح بالفعل؟ وفي جيلنا هذا؟
اليوم تنهار سردية الممانعة، وتنهار في إثرها أشكال الطغيان التي تغذت على هذه السردية، لكن سردية «الربيع العربي» هي أيضاً أصيبت في مقتل، ولا ينحصر هذا في القمع الذي لقيته، أو السياق الجيوبوليتيكي الذي ساهم بإجهاضها.
هل هو سؤال «تيئيسي» فقط لا يتناسب مع المشاعر الجياشة المفترضة ومع ميلودراما «الفرح والخوف» الرائجة حالياً؟
بل هو سؤال يعكس، بلا شك، قدراً من الإرهاق أصاب شعوب هذه المنطقة. قدراً من الاعتراف بأن «القوى الحية» في هذه المجتمعات ما عاد وجودها بالأمر البديهي، التلقائي. قدراً لا يجعلها قادرة على استبدال غنائية ملحمية بأخرى، بين ليلة وضحاها. قدراً لا يجعلها قادرة على استمرار استبعاد سؤال المسؤولية عنها طول الوقت. ربما هو السؤال المستبعد منذ قتل هشام بن عبد الملك لغيلان الدمشقي، شهيد الدفاع عن فكرة أن الإنسان مسؤول عمّا يفعل.

كاتب من لبنان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد خ حمدان:

    دكتور وسام سعادة، متابع كتاباتك من فترة زمنية وتحديدا بالسنة الاخيرة لاسباب عديدة، منها النقد البناء، التحليل المنطقي

اشترك في قائمتنا البريدية