وقفات مع الأولمبياد

بدأ أولمبياد باريس في وقت كانت تشهد فيه فرنسا تجاذبات سياسية واقتصادية مركبة. الانتخابات التشريعية، التي كانت قد تقررت بعد حل الرئيس إيمانويل ماكرون البرلمان، فشلت في تنصيب كتلة فائزة، فعلى الرغم من حصول «الجبهة الشعبية»، وهي تجمع يساري، على عدد أصوات أكبر، إلا أن المشرّع اعتبر أن ذلك ليس كافياً، ما لم يتم الحصول على أغلبية فائقة.
لم يكن ذلك مرضياً لتحالف الأحزاب اليسارية، التي اعتبرت أنها تستحق أن تحكم وأن تختار رئيس الوزراء. في المقابل كان «التجمع الوطني» اليميني يعتبر أنه هو أيضاً لم يخسر، وأنه قدم أداء جيداً ظهر في نسبة المصوتين وفي النتيجة، التي تقاسمتها ثلاث أقليات توزعت بين مجموعة الرئيس ماكرون والمجموعتان اليمينية واليسارية.
تزايد الإحباط تبعاً لذلك، حيث أفسد استمرار حكومة غابريال أتال في عملها، وطلب الرئيس ماكرون من قادة الأحزاب التوافق على شخصية يمكن أن يُعهد لها بمهمة رئاسة الوزراء، فرحة من كانوا يعتبرون أنفسهم الفائزين. كانت هناك مخاوف من أن يقود ذلك الإحباط لأعمال شغب وعنف، خاصة أنه، وبالنسبة لكثير من المتحمسين للتحالف اليساري، فإن الحديث عن ضرورة الحصول على نسبة غالبة لا أساس له، بل يظن أولئك أن الأمر لا يتعلق بالدستور، بل بمؤامرة تعرضوا لها هدفت لقطع الطريق عليهم.
لم يكن هذا هو مصدر القلق الوحيد، فقد تسببت الأزمة الاقتصادية وحالة التضخم وزيادة أسعار الطاقة، في الكثير من مظاهر السخط، التي تزايدت خلال الفترة الماضية، والتي كان أبرز ما فيها هو حالة الإضراب والعصيان، التي شملت نطاقات حساسة، على رأسها وسائل النقل. الوضع الاقتصادي الحرج ربما كان يفسر لماذا الميزانية المخصصة لدورة الألعاب متواضعة، لدرجة القول إن هذا الحدث هو الأقل تكلفة مقارنة بدورات سابقة، كما قد يفسر شكوى المشاركين المتعلقة بجودة السكن والطعام، وهي الانتقادات، التي كانت توحي بأن المنظمين لم يمنحوا الحدث الأهمية والاهتمام اللائقين. الشكاوى من فقر التحضير لم تكن متناسبة مع التركيز والانشغال السياسي بإنجاح هذه المنافسة، وجعلها تخرج بشكل مشرف، حيث ظل الإعلام يؤكد الاستعداد لإقامة الأولمبياد ولمجابهة جميع التحديات المفترضة، أو المتخيلة وعلى رأسها التخريب والإرهاب.

من حق الدولة المنظمة للأولمبياد أن تخرج ما تعتبر أنه يمثل ثقافتها وحضارتها، فهل باتت فرنسا المعاصرة والعلمانية ترى نفسها أكثر قرباً للحضارة اليونانية الوثنية منها للمسيحية الكاثوليكية؟

على ما يبدو فقد كانت الأولوية للصرف على بنود التأمين وخلق خطط بديلة للطوارئ والإخلاء. ظهر هذا من خلال إجراءات من قبيل نشر 45 ألف شرطي وعنصر أمن، تحسباً لأية مستجدات. الهاجس الأمني ظل موجوداً منذ هجمات باريس 2015، حيث أصبح من المعتاد رؤية عسكر وشرطة مدججين بالسلاح في ساحات المدينة وقرب المرافق السياحية. الهجمات التي كان يُخشى أن تتعرض لها الأولمبياد لا تقتصر على ما يسميه الفرنسيون «الإرهاب الإسلامي»، حيث كانت هناك احتمالية أخرى لانطلاق أعمال عنف من قبل مجموعات يمينية متطرفة، كما كان هناك افتراض الهجوم السيبراني، الذي كان يمكنه أن يؤدي لتخريب نظام المعلومات والخدمات. يتعاظم التفكير في الأمن السيبراني مع دخول العلاقة مع روسيا مرحلة العداء المكشوف، الذي أسفر عن منعها من المشاركة الرسمية. خبراء أمنيون كانوا عبروا عن قلقهم من أن تلجأ روسيا لتنفيذ عمل تخريبي، لاسيما اللجوء لسلاح المعلوماتية، الذي يمتلك فيه الروس خبرة واسعة، والذي يمكنه أن يتسبب بأضرار كبيرة.
كل هذه السيناريوهات كانت على بال المنظمين، الذين مضوا لأبعد من ذلك وهم يبحثون حلولاً لافتراضات أخرى تتعلق بتعطيل مفاجئ لخطوط النقل، أو ظهور وباء مفاجئ أو حدوث حادث تقع على إثره إصابات للعشرات أو المئات، إثر تدافع أو غير ذلك من الأسباب. امتد الهاجس الأمني والخشية من فشل التنظيم والاستضافة لعالم الفن أيضاً، فقبيل بدء الأولمبياد كان قد تم إطلاق الفيلم الفرنسي «في أعماق السين»، الذي كان مبنياً على قصة من الخيال العلمي تفترض وصول أسماك قرش للنهر، الذي يحتل قلب العاصمة الفرنسية. القروش، وفق حبكة الفيلم، سوف تؤقلم نفسها مع المياه العذبة لتطور نوعاً جديداً من الأسماك المفترسة، التي ستهاجم المحتفلين بالحدث الرياضي الكبير وتفسد فرحتهم. من جهة أخرى، نجح الحدث في أن يعيد إلى الواجهة موضوعاً حقوقياً يتعلق باستغلال المهاجرين والمقيمين بشكل غير شرعي، حيث انتهزت حركة اتخذت اسم «السترات السوداء» الفرصة من أجل تسليط الضوء على مأساة الآلاف من المقيمين، الذين يعيشون في الظل، فتتم الاستفادة منهم وتشغيلهم في أعمال مختلفة، لكن من دون منحهم أوراق إقامة، ما يجعلهم عرضة للابتزاز والمتاجرة، أو العمل في ظروف غير عادلة. بعض هؤلاء العمال كان يعمل بالفعل في المنشآت الأولمبية وضمن نظام كان يجعلهم مرتبطين بمقاولين محليين، ما يعفي الحكومة والشركات الكبرى من المساءلة. تسليط الضوء على هذه القضية في بلد يعتبره كثيرون قبلة لحقوق الإنسان كان محرجاً، ونجح في لفت الانتباه لقضية تتشارك فيها فرنسا مع غيرها من الدول الأوروبية، التي يبدو المشرع فيها وكأنه لا يرغب في تقنين أوضاع العمال المهاجرين، الذين يمثلون بوضعهم الحالي عمالة رخيصة بلا حقوق.
المتحمسون للأولمبياد كانوا يرون فيها فرصة لتجاوز الخلافات السياسية والتحيز. هذا كان يتناقض مع منع كل من روسيا وبيلاروسيا من المشاركة على خلفية الحرب في أوكرانيا. التذرع بالانتهاكات الروسية كان يطرح سؤالاً آخر حول مشاركة الكيان، خاصة مع استمراره في تنفيذ مجازر معلنة وانتهاكات موثقة في قطاع غزة وفي عموم فلسطين. في مقابل المقاطعة الرياضية الصارمة لروسيا لم يكن الفريق الإسرائيلي مرحباً به فقط، بل إن مجرد الحديث عن أهمية اتساق المواقف وضرورة البدء في مقاطعة مماثلة له كان كفيلاً بأن يجعل صاحبة عرضة للاتهام والعقاب، على غرار ما حصل لنائب يساري فرنسي. الانتقاد، الذي شغل العالم أكثر، كان المتعلق برسالة الأولمبياد، والإصرار في الافتتاح على لوحة الميول الجنسية، التي أبرزت المثلية بشكل صادم ربط بينها وبين لوحة «العشاء الأخير» لليوناردو دافنشي. اللوحة الشهيرة ترتبط بحدث يحظى بمكانة خاصة عند أتباع الديانة المسيحية، ما جعل كثيرين يرون في الأمر سخرية من المسيح نفسه. في ذلك الاحتفال ظهر الرجل الأزرق العاري، الذي مثل دور ديونيسوس، إله الخمر والجنون والاحتفال والمجون والطبيعة الوحشية والسادية، وكل أنواع الانحرافات الجنسية في الميثولوجيا اليونانية. إذا كان البعض استغرب شكله فذلك لأن ديونيسوس، الذي يجمع بين الحكمة والجنون، كان يجمع بين الذكر والأنثى.
لتكملة الصورة لم ينس العرض تصوير «الباكوسيات» وهن النساء المنحرفات، اللواتي كن يرافقن ديونيسوس في مواكبه الاحتفالية الماجنة، التي ترويها الأدبيات الكلاسيكية. باستحضار كل ذلك كان هناك سؤال يفرض نفسه وهو: ما هي الرسالة، التي أراد المنظمون إرسالها للعالم من خلال هذا التمثيل الرمزي، الذي تعاملت معه دول كثيرة كإهانة؟ من حق الدولة المنظمة أن تخرج ما تعتبر أنه يمثل ثقافتها وحضارتها، فهل باتت فرنسا المعاصرة والعلمانية ترى نفسها أكثر قرباً للحضارة اليونانية الوثنية منها للمسيحية الكاثوليكية؟ الواضح أن الحفل، بذلك الإخراج، كان يعكس أزمة هوية كان الباحث الفرنسي أوليفيه روا قد عبر عنها في كتابه: «هل أوروبا مسيحية؟»، وهو سؤال ليس بالبساطة التي يبدو عليها.
كاتب سوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أحمد:

    في أولمبياد باريس، كانت محاكاة “العشاء الأخير” فكرة مبتكرة، لكن يبدو أن بعض الدول العربية أخذت الأمر بجدية كبيرة لدرجة أنها قررت أن تودع المنافسات مبكرًا وتكتفي بالعشاء! أو أنها رأت أن “العشاء” يكفي و أن أداءها في المنافسات كان بمثابة استراحة بعد وجبة ثقيلة…ربما لا يصح تشخيص واحد لحالة الرياضة في كل الدول العربية، لكن يجب الاعتراف بأن الهوة بدأت تتسع بين بعضها البعض في السنوات الأخيرة، رغم أن الحصيلة الاجمالية تبقى أقل من التطلعات. فبينما هناك دول عرفناها فقط في كرة القدم، و لم نكن نسمع بها قبل 10 سنوات في بعض الرياضات كالسباحة والمسايفة والتنس وكرة اليد وكرة السلة والجمباز والتايكواندو و رفع الأثقال وغيرها، هناك دول مازال الحديث فيها حتى بعد الخروج المخيب من الأولمبياد، عن أن رياضات معدودة على أصابع اليد، هي فقط التي تلائم “الخصوصيات النفسية والثقافية والفزيولوجية” لشعبها، وهي التي تستحق أن يتركز عليها الاهتمام والدعم، في تشخيص ينتمي إلى عقلية متحجرة قديمة، ألفت الكسل ولاتحب المجازفة، حيث صارت عندها الرياضة علمًا يقتصر على دراسة الأنثروبولوجيا المحلية بدلاً من تطوير المواهب، مما يشي بأن دار لقمان ستبقى على حالها في المستقبل.

اشترك في قائمتنا البريدية