لنتخيل شاعرا رومانسيا متّقد الإحساس كتب قصيدة يَعدّها هو – كما يعدّها النقاد- أفضل ما كَتب فنيّا، ويُعجب بها الملحنون والمطربون فتُغنّى بدل المرة مرتين، ولكن عينه كانت على أعظم مطربة في عصره، فهو يدري أنها أقصر وأفضل طريق لخلود قصيدته، ومن ورائها قصة حبه. ولكن المطربة الكبيرة التي كانت تقول له عندما كان يعرض عليها قصائده «شعرك ما يتغناش» أخذت منه أيقونته، وسلّمتها لأحد أعظم من لحن القصائد، وغنّتها لتصبح واحدة من أفضل الأغاني العربية في القرن العشرين، بل أفضلها على ذمة استفتاء أجرته جريدة «لوموند» الفرنسية قبل ربع قرن. ولكن الشاعر الذي كان يحلم أن تغني الفنانة من شعره توفّي قبل ثلاثة عشر عاما من رؤية الأغنية النور، فلم يعش نجاحها وهي تُغنَّى على امتداد العالم العربي كله ولستة عقود كاملة، وقد صدق حين كتب في ختام قصيدته «كل شيء بقضاء»!
تلك قصة «الأطلال» القصيدة/الأغنية التي جمعت مطربة وملحنا وشاعرين. شاعران لأن من نظمها الشاعر الطبيب إبراهيم ناجي، ومن صنع منها أغنية الشاعر الذي نذر عمره لخدمة صوت أم كلثوم، أحمد رامي، ولا أشبِّه ما فعله رامي بالقصيدة إلا بما يفعله المخرج حين يقدّم قراءته الخاصة لرواية ما، فيصنع منها فيلما قد لا يشترك مع الرواية، سوى في العنوان، وهذا ما دفعني للتساؤل في مقال عنوانه «جسد القصيدة وثوب الأغنية» نشرته قبل أسبوعين في هذه الجريدة «هل كان إبراهيم ناجي يرضى بهذه العملية الجراحية التي أجرتها أم كلثوم على أطلاله؟ أم سيكون موقفه كموقف بدوي الجبل؟ الشاعر السوري الذي رفض استبدال كلمة واحدة من قصيدته وفاء لمن قيلت فيها، فحرم نفسه أن يصل شعره إلى مدى أكبر بكثير من قراء الشعر في الكتب عادة، وحرمنا «أطلالا» أخرى كان يمكن أن تصبحها قصيدته «شقراء» لو غنتها سيدة الطرب العربي.
عدد لا يحصى استمع إلى أغنية الأطلال وحفظ كلماتها، ولكن الكثير ممن استمع ملايين المرات على امتداد تسعة وخمسين عاما لهذه الأغنية (غنتها أم كلثوم أول مرة في 7/04/1966) لم يقرأ القصيدة كما كتبها صاحبها، ونشرها في ديوانه «ليالي القاهرة» سنة 1944 في 134 بيتا وليس 125 كما ورد في صفحته في الويكيبيديا ومواقع كثيرة. وحتى نعرف الفرق بين القصيدة والأغنية يكفي أن نذكر، أن أم كلثوم لم تغنِّ منها سوى أقل من خمسها، فالأطلال الأغنية تحوي 32 بيتا منها 7 أبيات من قصيدة أخرى لإبراهيم ناجي بعنوان «الوداع». وهذا الدمج بين القصيدتين ولّد خطأً آخر يكاد يصبح محلّ إجماع، ووقع فيه نقاد فنيون وإعلاميون، فلو بحثنا عمّن غنى «الأطلال» قبل أم كلثوم لأعطتنا نتيجة البحث ثلاثة أسماء: محمد صادق (1935) ونجاة علي (1955) وكارم محمود (1965)، والحقيقة أن نتيجتين من الثلاث نتائج خاطئتان، فسنة 1935 لم يكن ناجي قد كتب «الأطلال» بعد، ومنشأ الوهم أن محمد صادق غنى أبياتا من قصيدة «الوداع» التي نشرها ناجي في ديوانه «وراء الغمام» الصادر سنة 1934، ولأن أم كلثوم غنت سبعة أبيات من «الوداع» ضمن «الأطلال»، ظن المستمعون أنها من «الأطلال»، والأمر نفسه ينطبق على نجاة علي التي لحن لها محمد فوزي أحد عشر بيتا من قصيدة «الوداع»، اشتركت فيها مع أم كلثوم في ستة أبيات منها، وأضافت بيتا سابعا هو: وإذا النـور نذيـرٌ طـالـعٌ/ وإذا الفجر مطلٌ كالحريـق.
فلو قلنا إن محمد صادق ونجاة علي غنيا أبياتا من قصيدة «الوداع» قبل أم كلثوم لما جانبنا الحقيقة، أما كارم محمود فقد غنى مقطعين ثلاثيّين من قصيدة «الأطلال» أي ستة أبيات: مقطع «لست أنساك وقد أغريتني» ومقطع «أين مني مجلس أنت به» من ألحان محمد صادق نفسه بفترة قليلة قبل وفاته بداية 1966. وللمفارقة لو غنت أم كلثوم «الأطلال» كما كان مقررا لها بداية سنة 1963 لما سبقها أحد إليها، ولكن خلافا دبّ بينها وبين الملحن رياض السنباطي، بعد أن اكتمل اللحن، فطلبت منه أن ينزل بقفلة الأغنية «فإن الحظ شاء» إلى طبقة أقل، ولكن السنباطي أصر مستندا على معرفته الدقيقة بقدرات أم كلثوم الصوتية، وانسحب معتزلا غير متنازل، إلى أن أقنع عازف القانون في فرقة أم كلثوم محمد عبد صالح بصوابية رأي السنباطي، فأدّتها من دون تغيير بعد ثلاث سنوات كاملة، وللمفارقة أصبحت تلك القفلة ذات الطبقة العالية أفضل مقطع في الأغنية كلها، وقد استعادها الجمهور مرارا، ويقال يومها إن أم كلثوم توجهت من المسرح فجرا مباشرة إلى بيت رياض السنباطي لتشكره على ثقته في صوتها.
وفي حفلتها الأولى في سينما قصر النيل غاب اثنان عن فرحة نجاح الأغنية: إبراهيم ناجي صاحب القصيدة لوفاته قبل ذلك بسنوات، وأستاذ أم كلثوم وعازف العود في فرقتها محمد القصبجي لوفاته قبل الحفل بأيام، فبكته يوم غنت الأطلال، ووضعت على كرسيّه عوده ومن يومها أصبح الكرسي الذي يحمل عود القصبجي وروحه تقليدا ثابتا في حفلاتها.
صاحَبَ الاختلاف قصيدة «الأطلال» حتى في أصلها، فقد تضاربت الأقوال فيمن قيلت فيها، ولأن النصر له ألف أب، أما الهزيمة فيتيمة، فقد ادّعت أكثر من واحدة أن القصيدة كتبت فيها بعد أن ذاعت بصوت الستّ وانتشرت، فكلا الفنانتين زوزو حمدي وزوز ماضي نسبت القصيدة إلى إلهامها، وأخرجت الزوزُوَّتان ما في جعبتيهما من روشتات طبية باسم الطبيب إبراهيم ناجي عليها مقاطع من القصيدة، وكان من عادته أن يدوّن أشعاره على ما يقع بين يديه من أوراق، كما تُروى قصة تجعل من القصيدة حكاية رومانسية من حكايات ألف ليلة وليلة، حين يزعم مخترعها أن ناجي أحب في مراهقته ابنة الجيران، ثم سافر ليدرس الطب، فتزوجت هي، وبعد خمسة عشر عاما من انطفاء هذا الحب طرق بابه رجل ليلا يستدعيه لمساعدة زوجته في ولادة متعسرة، وعندما وصل إلى بيت الرجل وجد أن المرأة ليست سوى حبيبته السابقة، فأكمل واجبه الإنساني بتوليدها، وعاد إلى بيته لينزف شعرا فكانت قصيدة «الأطلال»، وهي قصة شاعرية تصلح للمسامرة لكنها لا تثبت أمام التحقيق العلمي ويكفي لنسفها أن نذكر أنّ ناجي درس الطب في القاهرة ولم يسافر.
أما الشاعر صالح جودت فقد اقترب كثيرا من معرفة ملهمة «الأطلال» حين ذكر في كتابه «إبراهيم ناجي حياته وشعره» الذي كتب مقدمته العقاد، أنها جارته في شبرا عنايات محمود الطوير مستندا إلى دلائل منها إهداء ناجي ديوانه «ليالي القاهرة» الذي يحوي قصيدة الأطلال «إلى صديقي ع .م الذي ندّى الزّهر الذابل من خمائل الماضي، وأنبت في روض الحاضر زهورًا نديّة مخضلة بالألم والحياة.. إليه أقدّم ما أوحى به إليّ»، ونسختْ رواية صالح جودت روايات من سبقه وأصبحتْ معتمدة إلى أن أصدرت حفيدة إبراهيم ناجي «سامية محرز» ابنة ابنته أميرة كتابها «إبراهيم ناجي زيارة حميمية تأخرت كثيرا» أثبتت فيه أن ع.م ليست عنايات محمود، بل أختها عليّة محمود الطوير، كما أكد ذلك أيضا حفيد عليّة نفسها نقلا عن والدته وجدّته. ولكن المهم في كل هذا أيا كانت ملهمة القصيدة فقد ذهبت وبقي الأثر الذي خلده ناجي في قصيدته، ولخصه بكلمات مختصرة جعلها مقدمة للقصيدة قال فيها «هذه قصة حب عاثر: التقيا وتحابا، ثم انتهت القصة بأنها هي صارت أطلال جسد، وصار هو أطلال روح، وهذه الملحمة تسجل وقائعها كما حدثت». ولكن… ماذا بقي من هذه الملحمة – كما وصفها صاحبها- في الأبيات الأربعة والعشرين التي اختارها رامي وغنتها «الست»؟ هل كان ناجي سيحتج على تغيير ملامح قصيدته وخلطها بقصيدة أخرى له، أو كان يفرح لأن أطلاله أصبحت بنيانا ضخما يتغنى به كل لسان عربي وتطرب له كل أذن. أتخيل إبراهيم ناجي معاتبا أم كلثوم التي ولدت معه للمصادفة في يوم واحد 31/12/1898، فتبتسم له بمودّة وتجيبه غناءً على الطبقة العالية التي تهيّبتها «يا حبيبي كل شيء بقضاء».
شاعرة وإعلامية من البحرين
لقد زرت فندق أمّ كلثوم في الزمالك؛ ودخلت غرفه { البسيطة والجميلة } ومما لفت نظري أنّ أغلب غرفه؛ وهي أكثر من مائة غرفة؛ تحمل أسماء أشهر أغاني أمّ كلثوم وفي مقدّمتها أغنية الأطلال؛ لأنّ الأغاني المسجلة لأمّ كلثوم يصل عددها إلى (300 أغنيّة ).وهناك مثل هذا العدد لأغانٍ غير معروفة وغير متداولة؛ تعود للأيام الأولى والبدايّات المبكّرة لانطلاقتها فنيًّا.ودخلت إلى غرفة: الأطلال وإلى غرفة: ألف ليلة وليلة؛ والأخيرة أقرب إليّ من غيرها.ولكن لا أدري هل لا يزال الفندق على هيئته تلك؛ أم ناله الهدم والهلاك؟
لم يبدو لي من مقالك السابق و موضوع اليوم من سرد بعض موافق ام كلثوم من قصائد و ازجال و حتى ألحان لاصحابها سوى عنوان بارز لموضوع متصل بسيرتها و مسيرتها الفنية رأيته بهذه الصيغة و التعبير ( شعراء و موسيقيون تحت رحمة الست), للحديث بقية تحياتي
صديقي قلم الرصاص
أكاد أن أجزم بأنه لو بقيت أسمهان على قيد الحياة بسني العمر الطبيعي
لكانت أم كلثوم الآن في عداد المغنيات الثانويات – إذا ما قلنا “الهامشيات”
ومسألة التنافس في مجالات الغناء خاصة تحدث حتى بين الإخوة والأخوات
كما هي الحال وحتى إلى حد الغيرة في ميادة الحناوي وأختها فاتن/ تحيتي
اشاطرك الرأي بدون تحفظ صديقي الكريم قلم المداد. اسمهان بعدد محسوب من الأغاني وعمر قصير ضمنت الخلود بصوتها المتفرد. شخصيا أغنية من صوتها مثل ( يا ليالي البشر) تغنيني عن ألف مطولة بآهات طوال . تحياتي لك و العزيز ابوتاج الحكمة
أحسنتم الإخوة قلم المداد وقلم الرصاص في توصيف أسمهان بالتفرّد والخلود.. يكفيها أنها تتمتع بصوت سوبرانو أوبرالي تعجز عن أدائه ليس فقط أم كلثوم بل كذلك الكثيرات من مغنّيات الأوبرا المشهورات في العالم – وأغنية مثل (يا طيور) تشهد على ذلك..
الفرق بين صوت ام كلثوم وصوت اسمهان فرق نوعي في طبقات الصوت.ام كلثوم امتلكت عدة طبقات صوتية تصلح لكل درجات السلم الموسيقي..أما اسمهان فطبقة صوتها جبلية..والفرق شاسع.بالتالي تفوق ام كلثوم لا يمكن لاسمهان بلوغه فنيا.
من أجمل الأصوات في عصرنا الحديث التي خلقها الله تعالى، الجميل الذي يحب الجمال، أصوات المرحومين عبد الباسط عبد الصمد وام كلثوم.
ومن أجمل ما أطربت ام كلثوم مع صعوبة الانتقاء حيث كل أغانيها طرب، ما لحن السنباطي.
كشخص رومانسي يحب الجمال في كل شيء، أكان وردة، او سحابة وحيدة في وسط سماء زرقاء صافية، او امراءة حسناء حلال، او الطيب من الرواءح، او طرب اصيل، ما اطرب لسماعه ولا أمل منه وإعادة سماعه عدة مرات (قبل الحرب) وما يحقق غاية رومنسيتي ويشبع رغبتها، قصة الأمس ومن اجل عينيك.
وأكثر ما كان يضايقني عندما تقول الحسناء الحلال اللي عندي وطي الصوت بدي انام!
المقاطع التي اعشقها وتطرحني ارضا في رائعة قصة الامس:
يسهر المصباح والأقداح والذكرى معي
وعيون الليل يخبو نورها في أدمعي
يا لذكراك التي عاشت بها روحي على الوهم سنينا
ذهبت من خاطري إلا صدى يعتادني حينا فحينا
والمقاطع التي تطرحني جوا وتقضي علي في رائعة من اجل عينيك عشقت الهوى:
استشف الوجد في صوتك اه اه اه اه ..آهات دفينة ..
تتوارى بين أنفاسك .. كي لا استبينه
لست أدرى أهو الحب .. الذي خفت شجونه ..
أم تخوفت من اللوم .. فآثرت السكينة
لا تقل أين ليالينا .. وقد كانت عتابا
لا تسلني عن أمانينا.. وقد كانت سرابا
إنني أسدلت فوق الأمس.. سترا وحجابا
فتحمل مر هجرانك .. واستبق العتابا
كم تضاحكت عندما كنت أبكى
وتمنيت أن يطول عذابى
كم حسِبت ألايام غير غواني
وهى عمرى وصفوتى وشبابى
كم كتمت الآنين بين ضلوعى
رجع لحن من الاغانى العذابِ
وأنا أحتسى مدامع قلبى
حين لم تلقنى لتسأل مابى.
بسم الله الرحمن الرحيم
من يقول بأن اسمهان طبقة صوتها جبلية وبأنها بالتالي لا يمكن ان تفوق ام كلثوم فنيا، فانه لا يفقه حقيقة شيئا في فن الغناء العربي الانثوي!
نحيي الاخوة قلم المداد وقلم الرصاص على الملاحظات القيّمة والاخت بروين حبيب اثابهم الله خيرا
ادا سمحتم لنا نضع بعض السطور لكن بلغة متواضعة جد ا جد ا شكرا لكم وكدالك الكاتبة الباحثة المحترمة فالموضوع فني موسيقي غنائي شاعري كلثومي تاريخي مصري الثربة نعم فمن رسمت من اجلها الكلمات ونقصد لاغنية استمعنا لها وهناك اغاني ولكل واحدة لها معاني لاتوجد واحدة ليس لها معنى غير ممكن وألا ما الفائدة في القصيدة الشعرية الغنائية بدون معنى أم كلثوم لم تغني الشيء التافه بل غنت القصيدة الشعرية القائمة على القاعدة الفصيحة وكدالك الزجلية .