نتيجة لتصادف وجود عدد من الشخصيات الباهتة في الفضاء السياسي، فإنه تسود في الولايات المتحدة، وفي عموم الغرب، حالة غير مسبوقة من الحنين للشخصيات السياسية، التي استطاعت أن تضع بصمتها على الساحة الدولية وأن تحتفظ بهيبتها، حتى بعد مرور وقت طويل على وفاتها. هناك بلا شك حالة من التراجع في مكانة الدول الغربية، بسبب ضعف قياداتها الحالية وفقدانها الكاريزما، كما أن هناك انقلاباً في صورة تلك الدول، التي كانت مرتبطة في الأذهان لعقود مضت برؤساء وسياسيين قادرين على كسب العقول والقلوب وتحقيق مصالح بلادهم الوطنية بأقل تكلفة.
لن تكون مقارنة الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب وجو بايدن بالرؤساء السابقين، حتى في التاريخ القريب في مصلحتهما، وكذلك الأمر في فرنسا بظهور الشاب أيمانويل ماكرون، الذي يبدو صامداً في مقعده الرئاسي بسبب الحظ فقط، وبفضل الظروف الاستثنائية، التي جعلت الكثيرين يخشون من أن استبداله قد يقود لتسلط اليمين. الأمر مشابه في إيطاليا وفي ألمانيا، التي تعاني من أزمات متلاحقة، والتي ظهر فيها المستشار أولاف شولتس بشخصية خافتة خلفاً للسياسية الجريئة أنغيلا ميركل. التخبط السياسي في بريطانيا وتغير الحكومات وفشل رؤسائها، كان أيضاً مما يقود للحنين للعصور، التي لعب فيها البريطانيون أدواراً بارزة على يد أسماء تاريخية مثل ونستون تشرشل، ومارغريت ثاتشر، «المرأة الحديدية».
كتاب «وودرو ويلسون» لكريستوفر كوكس، الذي صدر في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وعلى الرغم مما احتواه من انتقادات لتلك الشخصية المهمة في التاريخ السياسي الأمريكي، يمكننا وضعه في هذه الحالة من النوستالجيا أو أدبيات الحنين السياسي. جوانب كثيرة يمكن أن يتطرق لها الدارسون في شخصية وودرو ويلسون (1856-1921)، فهو صاحب فكرة إنشاء عصبة الأمم، التي ما لبثت أن تحولت إلى منظمة «الأمم المتحدة»، وهو أول رئيس منتمٍ للديمقراطيين من ولايات الجنوب عقب الحرب الأهلية، كما أنه الرئيس، الذي استطاع أن يضع بصمته من خلال دوره في الحرب العالمية الأولى، والذي حمل بلاده على المشاركة فيها بشكل جعل هزيمة ألمانيا ممكنة. داخلياً، استطاع ويلسون أن يؤثر على طريقة الحكم الأمريكية، بتأسيسه لمؤسسات متعلقة بالاحتياطي الفيدرالي، وبتقنين التجارة. إلا أن أهم ملامح شخصيته يبقى أنه كان، إلى جانب أدواره السياسية، مثقفاً كبيراً وأكاديمياً لامعاً، ما يجعل منه النسخة المقابلة للرئيس دونالد ترامب، الذي دلف إلى السياسة من باب «البزنس».
هناك حالة من التراجع في مكانة الدول الغربية، بسبب ضعف قياداتها الحالية وفقدانها الكاريزما، وانقلاب صورتها، التي كانت مرتبطة برؤساء وسياسيين قادرين على كسب العقول والقلوب
كريستوفر كوكس وهو سياسي وموظف كبير سابق بالبيت الأبيض، يذكر في مقدمة كتابه أن بالإمكان إحصاء ما لا يقل عن ألفي عنوان باللغة الإنكليزية فقط عن الرئيس ويلسون. هذه الحقيقة لم تمنع كوكس من أن يؤلف كتاباً يتناول فيه موقف الرجل من حركة الكفاح من أجل المساواة العرقية. في الواقع كانت تلك هي النقطة السوداء الأكبر في سيرة الرجل، الذي حكم الولايات المتحدة بين عامي 1913 و1921. الرئيس، الذي يوصف بأنه ذو انفتاح وثقافة واسعة، والذي اعتبره مؤرخون مثل آرثر شليسنغر أعظم رئيس أمريكي، بعد كل من أبراهام لينكولن وجورج واشنطن وفرانكلين روزفلت، كان عنصرياً ضد السود، لدرجة أنه كان يضع من القوانين ما يجعل مشاركتهم في تقلد وظائف مهمة صعبة. هذه العنصرية المفضوحة، التي بلغت ذروتها في رفض ويلسون منح السود الحق في التصويت، لأن ذلك يلغي الفروق ويجعلهم، برأيه، على قدم المساواة مع البيض، تسببت في أن يزال اسمه من كليات جامعة برينستون ومن عدد من المعاهد التعليمية الأخرى خلال الأعوام الماضية. للتذكير، فإن النقاش حول وضع السود ليس أمراً قديماً، بل إنه كان يتصدر المجالس السياسية الأمريكية حتى بداية القرن العشرين، كما أن مسألة إلغاء الرق كانت ضمن أسباب اندلاع الحرب الأهلية. هذه النقطة مهمة، لأن البعض يعتقد، نتيجة لصوتهم العالي، وخطبهم الرنانة، واتهاماتهم التي لا تتوقف للغير، أن الأمريكيين عريقون في مسألة محاربة الرق والعنصرية العرقية. المفارقة هي أن الثقل المعرفي والخلفية الثقافية، التي جعلت ويلسون يختلف بشكل كبير من ناحية العمق والثقافة عن ترامب، لم تمنع التقاء الرجلين حول مبدأ الاستعلاء الأبيض، فالرئيسان، وعلى الرغم من التباعد في الزمن والظروف، لا يخفيان إيمانهما بالهوية الوطنية للولايات المتحدة، التي يرون أنها كانت، ويجب أن تكون دائماً، بيضاء ومسيحية.
إبان التنافس الانتخابي الأخير، كان التباين بين الاتجاهين واضحاً، حيث تمحورت أهم الخلافات بين الديمقراطيين والجمهوريين حول الموقف من رؤية اليسار الأمريكي لشكل الولايات المتحدة. في مقابل الشعبوي اليميني ترامب، كان المرشحان الديمقراطيان، جو بايدن وكامالا هاريس يمثلان اتجاه الانفتاح، الذي يقبل الجميع، بما يفكك فكرة وجود هوية أمريكية. يركز كتاب كوكس أيضاً على ارتباط اسم الرئيس ويلسون بالوقوف ضد نضالات النساء، حيث شهدت فترة حكمه أيضاً انشغالاً بتحقيق المساواة المرتبطة بحق المرأة في التصويت والانتخاب، الذي لم تحصل عليه السيدات الأمريكيات إلا في نهايات حقبة ويلسون. الحصول على هذا الحق لم يكن أمراً سهلاً، ولولا الضغوط الكبيرة والمحاصرة، التي أدت في نهاية المطاف لاستسلام ويلسون، الذي كان يبدي تعنتاً كبيراً ومقاومة، لما كان بالإمكان تجاوز هذه العقبة. يذكّر كوكس هنا بحجم المعاناة والتنكيل، الذي تعرضت إليه ناشطات أمريكيات في سبيل الحصول على ما يعتبر اليوم حقاً بديهياً. ذلك التنكيل شمل الضرب والاعتقالات والتجويع، بل وإحالة بعض الناشطات المزعجات إلى مستشفى الأمراض العقلية.
لا يتحدث كتاب كوكس عن ترامب، لكنه يجعلنا مجبرين على تذكر سلوك الرئيس الأمريكي الحالي الغريب، فهو يحكي كيف كان ويلسون يستخدم عبارات فيها تحقير للنساء وتقليل من شأنهن، حتى إبان عمله كأستاذ جامعي، كما يورد أن صحفاً مقربة منه كانت تدعو لتقييد حقوق التعبير بسبب خوض البلاد للحرب. هذه النقطة لافتة أيضاً، إذا ما وضعنا في الاعتبار أن تقليص حرية التعبير والانتقاد كانت حلماً ظل يراود ترامب، الذي عانى خلال حقبته الرئاسية الأولى من فرط الحرية الأمريكية، التي تجرم المساس بالصحافيين، حتى إن شككوا وانتقدوا أعلى سلطات البلاد. أمور أخرى يوردها كوكس مما تميزت به حقبة ويلسون، كظاهرة البلطجية، الذين يظهرون إبان الاقتراع بتواطؤ مع الشرطة، أو القضاة الفاسدين، الذين كانوا يقومون بمحاكمة متظاهرين محاكمات قاسية بتهمة تعطيل الحركة المرورية. هل كان ويلسون هو من يأمر بكل هذا؟ ربما لا، لكن الأكيد هو أن كل هذا وقع في عهده وأنه لم يفعل شيئاً من أجل تغييره.
مفارقة أخرى لا يمكن لقارئ التاريخ الأمريكي أن يتجاوزها، فالذي يحدث اليوم هو أن الولايات المتحدة، التي تمارس الحرص على حقوق الإنسان وأعلى معايير الحريات في داخل حدودها، لا تظهر اهتماماً مماثلاً بما يحدث خارج هذه الحدود، بل تساهم في كثير من الأحيان في مساندة الاستبداد والطغيان والانقلابات غير الدستورية، إذا كانت تخدم مصلحتها. في عهد ويلسون كان الأمر مختلفاً قليلاً، كما كانت الصورة معكوسة، فالرئيس، الذي لم يكن يبدي انفعالاً كبيراً بما تشهده بلاده من قمع داخلي، كان يتابع تقديم خطب بليغة حول الديمقراطية، التي يجب أن تسود العالم.
كاتب سوداني
صورة ويلسون بدت جميلة لتوفره على الكارزما لكنها على الأرض منخوره: العنصريه العرقيه.. حق المرأة في التصويت. السكوت عن محاكمات جائره.
يكفي إسقاط تمثاله دليلا على قبحه مهما برع في درس الدمقراطيه