يا درويش: لم يعد للسوري سوى الريح

مدهشٌ ومستنكر أن يُرفع الصوت في وجه مسنّ، فكيف إن كان امرأة مسنّة! وكيف إن كانت بركلة قدم، لا يمكن وصفها سوى بالحقد الأعمى. ماذا بعد؟ ماذا بعد أن وصل حال السوريين أسوأ من حال الفلسطيني المشرد منذ 1948، حتى بات لا يعجب درويشهم، درويشنا جميعا، “شيء”.
أجل، نحن دراويش هذا العصر فكرا وتأملا وصوفية وحبا وتضحيات فاقت حد الخيال: تهجيرا وقتلا واستباحة، فبتنا أشد سكان الأرض صعقة لشدة الخذلان وهدر الحقوق وانتهاك أبسط أشكال الكرامة.

سؤال قضية السوريين المهجرين

لم تكن قصة السيدة السبعينية ليلى محمد الأولى من نوعها في ممارسة التعصب والتنمر ضدها، لكن طريقة صفعها على وجهها من قبل شاب تركي، اتهمها زورا بالسرقة، كما أثبت التحقيق، وردة فعلّها أن غطت وجهها بيديها ألما أو خجلا أو كبرياء، وربما لجميع هذه الأسباب مشتركة، لها الأثر الأكثر بلاغة في استعادة سؤال قضية السوريين المهجرين في دول الجوار، سواء كان ذلك في تركيا أو لبنان أو غيرها من دول اللجوء، التي تعالت فيها نزعات العنصرية ضد السوريين، حتى إن كانوا من الكهول والمسنين أو الأطفال.
قبل أعوام، وجدت جثة الطفل السوري أحمد الزعبي ابن الأربعة عشر عاما، متفسخة بعد ثلاثة أيام من موته، حيث أظهر فيديو نشرته صحافية وناشطة مدنية لبنانية مطاردة شرطة البلدية اللبنانية للطفل، داخل إحدى البنايات في بيروت، ليسقط بعدها في منور البناية، ويختفي إلى أن تم العثور عليه جثة متفسخة بعد ثلاثة أيام!
وأحمد الزعبي كانت جريمته أنه طفل يعمل ماسح أحذية، يكسب قوت يومه وقوت أسرته المهجرة من سوريا. أحمد استعان بفلسفة الحياة مخالفا سوءة عصر الانحطاط، عنوانها فلسفة الحياة الكريمة، فلسفة أن تكبر وأنت صغير السن، أن تصبر على الجوع لا أن تقبل بالمهانة والذل، أن تختار في وجودك المعتم هذا طريق أمل وبصيص حياة، وإن كانت شحيحة وعرضة للخطر.
الطفل الذي اختار طوعا العمل “بويجي” ماسح أحذية ليكتفي شر الحاجة والتسول، اتهم بأنه يخرق بعمله القانون الأممي بتحريم عمل الأطفال! فيما كانت ملاحقة الشرطة له والتسبب في موته خرق لحق الجيرة والقانون والحياء، وأبسط قيم الكرامة حقوق الإنسان، ودلالة تعصب عند بعض فئاتها المسيسة ضد السوريين المهجرين للبنان.
وإن كانت السيدة ليلى محمد ومثلها ملايين السوريين قد تركوا بيوتهم مهجّرين تحت وقع آلة القتل التي تدور رحاها في سوريا، سواء لتركيا أو لبنان أو إلى جهات العالم كافة، النسبة الغالبة منهم لم يكن لديها خيار، سوى الموت أو التهجير، وفي دول اللجوء ليس لديهم خيار العودة لتاريخهم وديارهم، فما زالت هذه الديار غير آمنة وقد تسلطت عليها كل صنوف الذئاب البشرية.

تعذيب الأطفال

ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها سوري للإهانة أو القتل أو حرق خيام لجوئهم، كما حدث في لبنان الشقيق مرات؛ فلم تزل مقاطع الفيديو التي سربت عن تعذيب أحد الأطفال اللاجئين السوريين في بيروت ماثلة في الأذهان، والعديد من الحالات التي تحدثت عن مقتل شبان سوريين في تركيا، عدا عن الآلاف الذين ابتلعتهم البحار غرقا. كما ظهر الكثير من التقارير التي تفضح استغلال لجوء السوريين بطرق مقززة للنفس الآدمية، خاصة في ابتزاز حاجتهم المادية لرغيف الخبز جنسياَ وزواج قاصرات. ورغم أن والي غازي عنتاب زار ليلى محمد واعتذر منها، وتم القبض على المجرم والإفراج عنه ثم القبض عليه مرة أخرى، لكن صورة ليلى محمد وهي تغطي وجهها ستبقى ماثلة في الضمير العالمي، وتسأل في حرقة: متى نعود لديارنا وكيف؟
كيف وقد باتت السياسة، التي أحاول جاهدا الابتعاد عن تحليل شؤونها، تتقاذف مصيرنا، كما تتنامى نزعة العنصرية والتعصب عند بعض أحزاب المعارضة التركية، خاصة أن تركيا في الآونة الأخيرة تطرح مشروع المنطقة الآمنة على طول الحدود السورية الشمالية بعمق 30 كم، ليكونوا جداراً بشريا فاصلا بين تركيا والكرد السوريين في منطقة شرق الفرات! وفقاعة المشهد أن السوريين ذاتهم المحتمين بتركيا منذ أعوام تضغط عليهم أن ينسوا ديارهم التي هجّروا منها، وأن يرضوا بالسكن في بيوت تسعى لتجهيزها وتسميها منطقة آمنة بديلا عن عودتهم لمدنهم الداخلية، هذا مع إجراء تغيير ديموغرافي آخر في بنية المنطقة الكردية ذاتها، وللسوريين أيضا.
ما يعيد سؤال المسألة السورية التي باتت عبئا على دول العالم جميعا،
والجميع يحاول التخلص من أعبائها وتركتها الثقيلة، بالطرق والوسائل السياسية منها والقانونية وغير القانونية، في معترك دولي قاتم المشهد.

الكارثة الإنسانية والسياسية

كارثة السوريين الإنسانية والسياسية تكشف مشاهد البازار والاستغلال السياسي، بحيث تطال في عمقها غالبية الدول التي تقدم سياسة المصالح على حساب حقوق الإنسان وحق تقرير المصير والحماية ورعاية الطفولة في القرن الواحد والعشرين.
فيا لهول كارثتنا! وكأنه لم يعد للسوري سوى الريح، المقولة التي أطلقها يوما محمود درويش عن الكرد، حين كانوا مهجرين قبل قرن من اليوم، واستضافهم السوريون في ديارهم نفسها يبحثون عن الأمان وفي جعبتهم أحلام وطن مستباح.
اليوم لم يعد للسوري ذاته سوى الريح فعلا، سواء كان مهجرا أو لم يزل باقيا في دياره، عربيا أو كرديا… لم يعد لنا سوى الريح، وللريح قصة صرصر في مخيمات اللجوء ونفس السوريين التي امتلأت قهرا من مصائرهم بين شتى صنوف السياسات والدول. بدءا من بيروت الشقيقة، بيروت الدولة التوأم التي عانت ويلات الحروب الطويلة وموجات النزوح المتعددة التي استقبلها السوريون مرارا، لتركيا الدولة التي لليوم تحمي ملايين السوريين.. للدنمارك وبعض متعصبي أوروبا، فكيف هو حال سوريو الداخل، وحقيقة أخجل أن أقول إني من سوريي الداخل! وقد عاندتنا كل ظروف الممكن ودورات الزمن العجاف، فالمشهد هنا تعجز عن وصفه اللغة المألوفة.
حين اشتد هول الظلم في عهود عربية إسلامية سابقة، اتخذ سيل من نويات الفكر والعقل وقتها درب الصوفية خلاصا روحيا، مستغنين عن نزعاتهم المادية كسبا للروح والعقل، فكان للحلاج نصيب في وصف أهوالها: عجبت لكلي كيف لا يحملني بعضي ومن ثقل بعضي ليس تحملني أرضي. ويبدو أن التاريخ يعيد كرّته في اشتداد البؤس، ونصبح عبئا على الأرض، عبئا على موازين القوى الدولية، وسياسات التعصب الأعمى، فكيف هي سياسات الموت الجماعي! ولسان حال السوريين يردد: لسنا متسولين، بل كنا أصحاب الأرض والتاريخ.
كنا الجابر والصانع والمغيث وأصحاب البيت الواسع، فماذا عسانا أن نقول اليوم بعد أن اختارت، وعلى مرأى من الأمم المتحدة ومنظماتها، آلات القمع والاستبداد المحلي، وميليشيات الحقد الطائفي، وشتى صنوف التطرف والإرهاب اقتلاعنا من جذورنا، فبات 13.6 مليون منا مهجرا ونازحا بين داخل وخارج سوريا. حتى بات تاريخ هذه الديار يشبه السجلات الرقمية في التعداد الصفر! وليت أغلبنا كان نصيبه الرقم صفر، بحيث يشطب من سجلات القهر والموت الإنساني إذا ما بقي حيا تأكله كل صنوف القهر ولا تنصفه المواثيق الدولية ولا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

*كاتب سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية