يا للهول الجميع صار يريد الديمقراطية للسوريين!

في البداية وكي لا يظن أحد أننا نسخر من الدعوات لتطبيق الديمقراطية في سوريا، أو لا نريد سماعها، لا بد من التذكير أنني أمضيت عشرات السنين من حياتي وأنا أصرخ بأعلى صوتي مطالباً بنشر الديمقراطية في كل أنحاء العالم العربي، وليس في سوريا فقط، وقد قدمت مئات الحلقات من البرامج في مقارعة الطغيان والديكتاتوريات والطغاة والجنرالات والطواغيت، وبالتالي أرجو ألا يصطاد أحد في الماء العكر ليتهمني بأنني لا أريد الديمقراطية في سوريا. لا أبداً، بل نريدها البارحة قبل اليوم في عموم الدول العربية، لكن أكثر ما يجعلني أقلب على ظهري من الضحك هذه الأيام أنه لم يبق أحد إلا وطالب بتطبيق الديمقراطية بسوريا في أقرب وقت، ناهيك عن توجيه مئات الاتهامات للسلطة الجديدة بأنها ذات لون واحد وأنها لا تمت للديمقراطية بصلة، مع العلم أن ملايين السوريين يعتقدون أنها تمثل السواد الأعظم من السوريين على الأقل عقدياً، مع هذا صار القاصي والداني اليوم يريد لنا الديمقراطية ولا شيء غيرها، لا بل إن البعض من شدة غيرته «الديموخراطية» علينا يريد أن يفرضها علينا فرضاً، لهذا بات ينتقد غياب الديمقراطية في دمشق ليل نهار، ولا شك أنكم قرأتم مئات الانتقادات للإعلان الدستوري لأنه لم يأت على ذكر الديمقراطية. ومرة أخرى، وكي لا يفهمنا أحد بالمقلوب، ليس لدينا أي مشكلة مع كل الذين ينهالون على السوريين بوابل يومي من النصائح الديمقراطية، فمرحباً بالداعين إلى تطبيق النظام الديمقراطي في ربوع سوريا، لكن الغريب العجيب: لماذا لم نسمع أصوات هؤلاء المطالبين بتطبيق الديمقراطية في سوريا اليوم إلا بعد أن سقط النظام الفاشي الذي كان يحظى بمباركة القاصي والداني رغم أنه كان لا يمثل سوى عصابة طائفية همجية بربرية، مع ذلك لم يقل عنه أحد إنه غير ديمقراطي. وللعلم فإن كل أدبياته الحزبية والسياسية كانت ستالينية داعشية طائفية متطرفة لم تأت يوماً مرة واحدة على ذكر الديمقراطية، وكان النظام من لون فاقع واحد لا شريك له يعرفه كل السوريين، وقد كان حرف «القاف» رمزه الإرهابي البشع الذي أرعب أجيالاً من السوريين على مدى عقود. مع ذلك لم نسمع يوماً أن أحداً طالب تلك العصابة الطائفية أو حثها بألا تكون ذات لون واحد وحرف واحد، بينما اليوم فقد صار الكل حنوناً ورؤوفاً بالسوريين ولا يريد لهم أي نوع من الأنظمة سوى النظام الديمقراطي. ونحن بلا شك نريد الديمقراطية بشغف منقطع النظير ونطالب بها ونشكرهم على غيرتهم الديمقراطية فائقة الرأفة والحنان، ونضرب لهم ألف تعظيم سلام على نصائحهم «الديموخراطية» المتدفقة على سوريا والسوريين كشلالات نياغرا، لكن هل بات هؤلاء متحمسين لتطبيق الديمقراطية في سوريا فعلاً؟

أصغر ضابط من الأقلية الحاكمة كان أقوى من رئيس الوزراء في سوريا، وأن ضابطاً طائفياً صغيراً برتبة مساعد في أي فرقة عسكرية سورية كان أقوى من أعلى رتبة عسكرية من الأكثرية

لماذا أصبحوا فجأة يضغطون على السوريين قيادة وشعباً كي يعتمدوا المسار الديمقراطي ولا شيء غيره؟ لماذا صاروا فجأة يرأفون بحال الأقليات وضرورة إنصافها واحتضانها، متناسين أن أقلية لا تتجاوز ثلاثة أو أربعة أو خمسة في المائة على أبعد تقدير قد تسلطت على سوريا والسوريين لأكثر من ستين عاماً وأذاقتهم شتى أنواع القهر والتنكيل والعذاب. ولا أحد في العالم يستطيع أن ينكر أن تلك الأقلية التي كانت تسيطر على الجيش والأمن فعلت بالسوريين الأفاعيل، فقتلت منهم أكثر من مليون واعتقلت مئات الألوف وذبحت عشرات الألوف في السجون، وشردت أكثر من نصف الشعب السوري من الأكثرية المسلمة حصراً، فلا يوجد لاجئ أو نازح واحد داخل سوريا وخارجها من تلك الأقلية أو غيرها، ناهيك عن تدمير مئات الألوف من بيوت وأرزاق الأكثرية، واستخدام السلاح الكيماوي ضد أطفال الأكثرية. وأرجو ألا يخرج لنا البعض لينفي أن سوريا كانت محكومة من قبل أقلية فاشية كانت تتحكم بكل مفاصل السلطة لصالح عائلة وطغمة طائفية يعرفها كل السوريين بالاسم. لكن فجأة يا سبحان الله صار العالم أجمع عطوفاً على الأقلية التي خسرت السلطة في سوريا، كما لو أنها هي المضطهدة والمقموعة والمسحوقة وليس ضحاياها من الأكثرية وعددها أكثر من ثمانين بالمائة من الشعب السوري.
لم نسمع من قبل أصوات المتباكين على تلك الأقلية عندما كانت تذبح وتهجر السوريين بالملايين وتدمر مدنهم وقراهم بالبراميل المتفجرة.
أرجو أيضاً ألا يقول لي أحد إن الجيش الساقط لم يكن طائفياً في سوريا، فكلنا يعلم أن أصغر ضابط من الأقلية الحاكمة كان أقوى من رئيس الوزراء في سوريا، وأن ضابطاً طائفياً صغيراً برتبة مساعد في أي فرقة عسكرية سورية كان أقوى من أعلى رتبة عسكرية من الأكثرية. ولا ننسى أن عدد الضباط الطائفيين الأمراء الذين يعطون الأوامر العسكرية في سوريا كانوا يشكلون أكثر من خمسة وتسعين بالمائة من مجموع الضباط الأمراء في الجيش السوري كله. قد يرد علينا البعض بالقول إن السوريين لا يريدون تكرار الماضي الأليم ولا يحبذون استنساخ النظام الساقط بشكل جديد، وبالتالي لا بد من التأكيد على تطبيق الديمقراطية في سوريا والترحم على كل قطرة دم سورية ذُرفت في سوريا في الأشهر الماضية وخاصة في الساحل، وهذا طبعاً من حقهم، ونحن نشد على أيديهم في ذلك ونرفض استهداف الأبرياء في أي مكان في سوريا، فلا أحد بكامل عقله في البلد يريد استنساخ الماضي الفاشي البربري، لكن مشكلتي مع هؤلاء المطالبين بتطبيق الديمقراطية في سوريا ليس أبداً في الفكرة، فأنا معهم وأناصرهم في طلبهم وإلحاحهم، لكن مشكلتي مع البعض منهم في النوايا فقط.
لماذا معظم المتشدقين بضرورة تطبيق الديمقراطية في سوريا داخلياً وخارجياً ليسوا من الأكثرية؟ هل يا ترى يغارون على مصالح الأكثرية من الأكثرية نفسها؟ هل هم فعلاً يريدون الخير والديمقراطية والكرامة والحرية للسوريين، أم إنهم يريدون فقط رفض الواقع الجديد ووضع العصي في عجلات سوريا الجديدة لغاية في نفس يعقوب؟ باختصار، هل هم صادقون فعلاً في طلب الديمقراطية للشعب السوري، أم هي ليست رمانة بل قلوب مليانة؟

كاتب واعلامي سوري
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبداللطيف العيد:

    أحسنت النشر دكتور فيصل ، كل المحبه والتقدير لشخصك الكريم ،ستبقى دائماً صوت الحق لنصرة المضطهدين من الطغاة المجرمين

  2. يقول ابراهيم المصطفى:

    أنت في مثابة جبل شاهق تعطي الدراسة الدقيقة للتغلبات السياسية جزاك الله خيرا

  3. يقول علاء النعسان:

    كوني من الأكثرية اقول جزاك الله عنا كل خير استاذ فيصل لانك بصدق رجل حر بأخلاقه و كلمته…..

  4. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

    شكراً أخي فيصل القاسم. لكن الخوف موجود من أن تتنصل السلطة الحالية من مطالب السوريين الذين في غالبيتهم يريدون دولة مواطنة حديثة لكل السوريين! لايوجد ضمان حتى الأن رغم أن الأمل كبير طبعاً والثقة موجودة لكن الله أعلم كيف ستتطور الأمور ومتى سنصل إلى دولتنا هذه، والأمثلة ليست بقليلة كتونس على سبيل المثال لا الحصر.

    1. يقول أكاديمي أردني:

      شكرا لك، المقصود أن نعتز أولا بحضارتنا ثم نأخذ من غيرنأ، وليس العكس كما يفعل الكثير منا، فمن لا حضارة له لا وجود له، كما قلت حضرتك نحن لا نبخل بالأخذ عن غيرنا ولا نخاف الثقافات الأخرى نتعلم منها بكل ثقة لأننا نعلم أن حضارتنا غنية ومعطاءة، لكن ما هو مؤسف طيلة 100 عام تركنا كل شيء ورحنا نركض خلف السراب.

    2. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

      يا أخي حقيقةً لا أرى أننا تركنا ثقافتنا ولا حصارتنا! من تركها! كلامك عام وفقط. أم تقصد الأنظمة التي تبيع وتشتري كما يحلو لها لأن اهتمامها هو السلطة!

    3. يقول محمد جمعة:

      أخي الكريم في تونس بعد انتصار ثورتها لازال الحرس القديم من الجيش وقياداته موجودة وجاهزة للرجوع إلى الخلف، بينما في سوريا تم اقتلاع الطاغية مع جيشه وحرسه القديم وهذا الذي أزعج الصهيونيون وأتباعهم وسيحاولون تعويض ذلك بتحريض الأقليات الذين لايقمون ولايؤخرون.

  5. يقول أكاديمي أردني:

    بعد كل هذه التجارب المريرة التي عاشتها شعوبنا، أخيرا الجميع يريد الهدوء، يريد العيش بكرامة وأمن وسلام، شبعنا تجارب حرية وديموقراطية ويسارية وقومية وغيرها كثير، أهم شيء يعيد لنا عزتنا وكرامتنا وثقتنا بأنفسنا أمرين: 1. الثقة بالنفس تتعزز برفض كل الثقافات الأجنبية الدخيلة، فلا تقوى ولا عز ولا كرامة طالما نحن نعتز بثقافة غيرنا، حتى الفرنسيين مثلا يرفضون كل فرنسي يتباهى بشيء انجليزي، والعكس صحيح، نحن لا نريد التعصب ولا المبالغة، نأخذ فقط المفيد لكن ليس على حساب ديننا وتقاليدنا وقيمنا 2. لا يمكن أن نتقدم للأمام طالما نحن حرب وحقد وكراهيةعلى بعضنا بعضا، التعصب والتشدد ايا كان قومي وعرقي ومناطقي ولأي شيء وحتى للدين هو علامة جهل وتخلف، وحذر منه الرسول الكريم فقال “هلك المتنطعون” عقلية الحوار بالتي هي احسن، وفهم القواسم المشتركة مع كل عربي ومسلم حتى لو كان من أتباع الديانات والمذاهب المختلفة هو الحل، والدليل هو هذه الحروب الأهلية التي خضناها طيلة 100 عام بسبب عدم احترامنا لبعضنا بعضا، وأحيانا بمغريات مالية نفطية وغازية ودولارية أهلكت الجميع، الاحترام المتبادل بروح ديننا الحنيف هو الحل، غير ذلك من صالح الأعداء الغربيين والصهاينة وتضييع وقت وهدم أعمار الشباب.

    1. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

      أخي اردني أكاديمي، ماذا تعني بنحن نعتز بثقافة غيرنا! الم نأخذ كمسلمين طبعاً العلوم عن الأغريق وذووناها ومن ثم أخذ هذا الغرب عنا! البعض ينكر ذلك في الغرب طبعاً لكن الحقائق في هذا الشأن واضحة ولالبس فيها. العالم ليس ثقافات مغلقة فيما أعتقد.

    2. يقول سلام عادل -المانيا:

      كلام عام الاعتزاز بقيمنا وثقافتنا واعرافنا وتقاليدنا أمر جيد ولكن هل يجب أن نبقى على قبليتنا إلى الآن وهل حروبها مع بعضنا من 100عام ام من الف سنة وهل يجب أن تبقى ثوابتنا الدينية كما فرضها علينا القدامى ام يجب تحديثها بما يلائم حاضرنا وهل الديمقراطية أمر سيء لأنها أتت من غيرنا

  6. يقول كوكب:

    كلام لا غبار عليه نأمل الخير قادم الأيام 🤲🏻 بالله عليك يا استاذ فيصل ماذا عن المعتقلين الذين لم تتلطخ ايديهم بالدماء بالله عليك بالله عليك بالله عليك

  7. يقول ابوياسر اليماني:

    انت رجل منصف
    الله يعطيك الصحة والعافية

  8. يقول jmhd:

    انفرط العقد الذي كان يخاف من فرطه الطاغية بشار والدول الداعمة له، انفرط إلى غير رجعة، فالشعب الأغلبية صارت بيده الكلمة وقادر على الدفاع عن أي شبر من سوريا ، والذين يحاولون اظهار أي تمرد على وحدة سوريا فسيقابله الملايين الذين سيفدون المكاسب بأرواحهم للدفاع عن النصر العظيم الذي أزال الطغمة الطائفية من أساسها، فنصيحتنا للذين لديهم أي أمل طائفي أن يكونوا واقعيين، وأن اعتمادهم على الخارج سيدمرهم عن بكرة أبيهم، والأيام بيننا إن حاولوا ذلك.

1 2 3

اشترك في قائمتنا البريدية