المقامة أسلوب من الكتابة الأدبية يقوم على المحاورة بين اثنين، يهدف إلى التعليم أو التوجيه أو الفكاهة. وقد عُرف هذا النوع من الكتابة في الأدب العربي في القرن الثالث / الرابع الهجري-الثامن/التاسع الميلادي، في العراق بصورة خاصة. وكان أول من مارسَ هذا النوع من الكتابة هو بديع الزمان الهمذاني المتوفى عام 398 هج/ 1007م. وقد جاء بعده الحريري المتوفى عام 516 هج/1123م. وقد ألّف الحريري 50 مقامة قيل إنها بتوجيه من وزير الخليفة العباسي المسترشد بالله 1118- 1135م. والحريري لغوي أديب بصري اتخذ في هذه المقامات بطلاً اسمه أبو زيد السروجي، وهو من بلدة سُروج في أعالي الفرات. كان هذا الرجل ظريفاً ومُحتالاً كبيرا ًوكان يُحاوره شخصٌ آخر اسمه الحارث ابن همّام، وهو الذي يروي هذه المقامات. وكان رجلاً خارق الذكاء استطاع أن يكشف حِيَل أبي زيد السروجي في جميع المقابلات بينهما، وفي ظروف مختلفة. ويرى الباحثون أن الحارث إنما هو الاسم الذي أطلقه مؤلف المقامات، أي الحريري، على نفسه. يتميّز أسلوب المقامات بالتأنّق اللفظي واستعمال المحسّنات البديعية والتشبيهات البليغة التي استهوَت القرّاء. وقد أخذ الشحّاذون يردّدون بعض هذه المقامات بأسلوب مَسجوع، لأن أبا زيد السروجي صار شحّاذاً متنقلاَ بين المدن، يدخل إلى مساجدها ويطلب من الناس مالاً مُدّعياً أنّه يريد مساعدة رَجُلٍ مريضٍ أو امرأةَ راح عنها زوجُها وليس لها من مُعين. ويرى أبو زيد السروجي أن حِرفة الشحاذة منذ أن وضعها ساسان هي تجارة لا تَبور، وأوصى بها ابنه لإتّخاذها تجارةً بعد وفاته. والمقامات بمُجملها أشبه بالصور الكاريكاتورية التي تُمثل مُختلف وجوه الحياة في البصرة في أيامه. وبهذا المعنى فهي نوعٌ من النقد الاجتماعي بأسلوب من الطرائف النحويّة والشعرية، من جناسٍ طَردي وعَكسي. ويأتي كل هذا على لسان مُؤلف المقامات في صورة الحارث ابن همّام، ويمثل الفكاهة والإمتاع في هذه المقامات شخصية السروجي بما له من صفات متناقضة مثل الكرَم والبُخل، والشجاعة والكذب، والغدر والوفاء. وكل هذه الصفات لا تلبث أن تنكشف في المحاورات بين السروجي والحارث ابن همّام.
وقد يكون من المناسب ذِكرُ بعض الأمثلة على أفعال الحارث ابن همّام وتصرّفات أبي زيد السروجي وتقديم بعض العيّنات من اللغة المستعملة في مقامات الحريري، لما فيها من محسِّنات لفظية وبديعية. ففي المقامة الأولى “الصنعانية” سافر الحارث إلى مدينة صنعاء في اليمن، ودخل إلى نادٍ وجد فيه شيخاً يُلقي خطبةً على الحاضرين، ينصحهم فيها بالابتعاد عن المعاصي وارتكاب الخطايا وترك ملذات الدنيا. ويزيّن هذه المقامة الأولى صورةٌ من أعمال الواسطي. وبعد الخطبة حصل الشيخ الخطيب على بعض المال، فانصرف وتبعَه الحارث حتى دخل بيته فوجده “مُثافِناً لتلميذ، على خبز سميذ، وجَديٍ حنيذ (مشوي) وقبالتهما خابية نبيذ” فسأل الحارثُ التلميذ عن الشيخ وعرف أنه أبو زيد السروجي. فتعجّب مما رآه ثم انصرف. وفي المقامة الحادية عشرة زار الحارث مدينة “ساوه” فشاهد جنازةً تُدفن. وبعد دفن الميت أقبل على الجمع “شيخ من رباوه مُتخَصِّراَ بهراوة، وقد لفع وجهَه بردائه، ونكَرَ شخصَه لدهائه، وألقى فيهم خطبةً مؤثِّرةً ذكّرَهم فيها بمصيرهم فانهالواعليه بالعطايا فاحتَلبَ به أولئك الملأ حتى أترعَ كُمَّه وملأ، ثم انحدر من الرَبوَه جذِلاً بالحَبوَة”. وفي المقامة الرابعة عشرة “المكيّة” سافر الحارث إلى الحج في موسم الصيف ونزل مع جماعته في خيام ليستريحوا فدخل عليهم شيخ طاعن في السن ومعه ابنه يطلبان راحلةً وطعاماً بأسلوبٍ شِعري جميل، فاستوقفهما الحارث وسألهما عن بلديهما فأخبَره أبو زيد أنهما من سُروج التي ضاعت واستولى عليها الأعداء وأخذ يبكي على فقدها، فنُشاهِده في الصورة واقفاً وقد “اغرورقت عيناه بالدموع وآذنت مدامِعُه بالهموع، فكَرِهَ أن يستَوكِفَها ولم يملك أن يُكفكِفها” ثم ودّعهم وانصرف.
وأهمّية هذه المقامات أنها تصوّر الحياة في العراق في العصر الوسيط، ويوجد من النسخ الأصلية المصوّرة إحدى عشرة نسخةً منها في بغداد ودمشق ومصر. كما توجد نسخة أو أكثر في كلٍّ من المكتبة البريطانية في لندن (المتحف البريطاني) وفي المكتبة الوطنية في باريس وفي اسطنبول وفيينّا وليننغراد. وقد طبعت المخطوطة أول مرّة في كلكتا عام 1809 ثم في باريس عام 1822 بإشراف “ساسي” كما اهتم بها الباحثون الألمان فترجمها إلى الألمانية الشاعر فريدريك روكيرت عام 1826.
وقد قام بتصوير الأشخاص والمشاهد في مخطوطة المقامات الأولى الرسّام الواسطي المتوفى عام 1226. تُبيّن صور الواسطي مزيجا من التأثيرات المسيحية الشرقية والفارسية والإسلامية، ويظهر ذلك بشكل خاص في مزج الألوان. ومن النادر أن يترك الرسّام إسمه في أسفل الصورة. والملاحظ في الصور أن الوجوه تكاد تكون فارسية أو منغولية، كما نلاحظ أن الملابس وأغطية الرأس لا تكاد تختلف كثيراً عما نجده في بعض الأزياء الشعبية في العراق في صور تعود إلى القرن الماضي مثلا. إلى جانب صور الأشخاص من رجال ونساء ثمة صور حيوانات وبخاصة الإبل والخيول، في مشاهد السفر الكثيرة في هذه المقامات. وفي هذه الصور نجد الكثير من الأشجار والسفن والمراكب مما يكسِب المقامات نوعاً من الحيوية، وبخاصة في صور حركة الإبل بالتركيز على امتداد الرقبة واتجاه الرأس إضافةً إلى مواقع خُفّ البعير، مما يوحي بالحركة. ونجد في صور الواسطي كذلك صور الأثاث المنزلي من كراسي وموائد وصوراً للمساجد والمنابر، وغير قليل من صور الأسلحة والسيوف المستعملة في العراق في العصر الوسيط. وقد اهتم الباحثون الأوروبيون بهذه الصور بشكل خاص، لأنها صورٌ تكاد تنطق بأحوال البلاد والعباد في حاضرة العالم الإسلامي في العصر الوسيط.
أثار تصوير النُسَخ الأولى من مقامات الحريري جدلاً معاصراً بقي حتى أيامنا هذه في بعض المناسبات، قوامه أن التصوير غير جائزٍ في الإسلام، بل هو حرام. ولكن الأبحاث تُبيّن أنه لا يوجد في كتاب الله أي نص يُفيد بتحريم التصوير، بل إن التصوير هو من أعمال الله: “ولقد خلقناكم ثم صوّرناكم” (الأعراف،11) و”المُصوِّر” هو أحد أسماء الله الحسنى. وفي الجاهلية كان العرب يتداولون النقود الكِسروية والبيزنطية، وكلاهما يحملان صور الأكاسرة والقياصرة، وبقيت تلك النقود مستعملةً في العهد الإسلامي ولم يعترض عليها الرسول (ص) وقد قام الخليفة عمر (رض) بسَكِّ نقود على نمط الدراهم الكسروية ولكن أضاف إليها عبارات مثل: الحمد لله، محمد رسول الله، واستمر ذلك التقليد في العهد الأموي. وكانت تَرِد إلى مكة والمدينة منذ الجاهلية وفي العهد الإسلامي كذلك أقمشة من اليمن عليها صور بقيت مُستعملة ولم يعترض عليها المسلمون. ويروي المسعودي في “مروج الذهب” أن الرسول (ص) كانت لديه درع عليها صورة رأس خروف. كما يذكر أن الكعبة كان فيها تماثيل أصنام وصور، وعند فتح مكة أمر النبي (ص) بتحطيم تماثيل الأصنام الجاهلية كما أمر بمسح الصور على جدران الكعبة الداخلية ما عدا صورة مريم وعيسى والملائكة. وقال بقيت هذه الصور في داخل الكعبة حتى عام 64هج/ 683 م عندما قام ابن الزبير بهدم الكعبة فذهبت معها تلك الصور الجدارية. وعند فتح القادسية دخل المسلمون إلى إيوان كسرى وأقاموا صلاة الفتح، وكانت الجدران في ذلك الإيوان الساساني مليئة بالصور، وقد بقيت حتى عهد متأخر. وفي العصر العباسي نقرأ قصيدة البُحتري في وصف بركة المتوكِّل كما وصَفَ الصور والمنحوتات علي الجدران الداخلية لإيوان كسرى، ومنها وصف معركة انطاكية: “فاذا ما رأيتَ صورة انطاكية/ ارتعتَ بين رومٍ وفُرسِ. والمنايا مواثلٌ وأنوشر/ وانَ يُزجي الصفوفَ تحت الدِرَفس”. أمّا الأنصاب والأزلام فهي الأعمدة والتماثيل التي توضع عليها القرابين في الجاهلية، وهذه لا تشبه التماثيل في عصرنا الحاضر أو قبله، لأنها ليست بالتماثيل التي يُصَلّي إليها. واعتراض الفقهاء لاحقاً على تماثيل الأشخاص هي أنّها تشبّهٌ بصنعة الخالق، وهذا كلام لا يصمد أمام المنطق. وليس في الصور التي أبدعها الواسطي لتمثيل الحياة في العراق وبعض البلاد العربية في العصر الوسيط أيّة إشاره إلى أن هذه الصور ذات مغزى يتعرض للقيم الدينية في الإسلام.