«يرتاح ده عن ده»

تثور اليوم غضبة في الكويت تجاه فتوى صادرة عن دار الإفتاء حول شروط عمل المرأة، جاء فيها أنه يجوز للمرأة «الخروج للعمل طبيبة أو ممرضة أو معلمة إذا توافرت أربعة شروط»، حددتها الفتوى في: العمل في المجالات المشروعة، والحصول على إذن الولي أو الزوج، وعدم الاختلاط بالأجانب دون حاجة مشروعة، والالتزام بالحجاب «الشرعي الساتر». يستشعر المجتمع الكويتي، في غمار تحول الدول الخليجية المحيطة حثيثاً باتجاه مجتمعات أكثر انفتاحاً وتحررياً شخصياً، رغم ارتفاع درجة الشمولية السياسية وكتم الصوت المعارض عند هؤلاء الجيران، بتراجع مخيف وبتكبيل خانق للحريات، خصوصاً بالنسبة لشعب اعتاد التحرر الشخصي كما السياسي. ارتفعت الأصوات الليبرالية الوطنية معترضة، وتعالت الغضبة النسائية تجاه هذه الفتوى مستشعرة أنها، إضافة إلى كونها رأياً رجعياً خانقاً، هي تشكل محاولة تمييزية أيديولوجية بين النساء بحد ذاتهن، اللواتي يشكلن فئة مميز ضدها بأكملها أصلاً. هل الغضبة مستحقة؟ نعم، هل الهدف يستحق سهام الغضب؟ لا أتصور ذلك أبداً.
إن رد الفعل الكويتي، كما ردود الفعل العربية عموماً، تجاه التحركات الرجعية أو الآراء القهرية، هي في عمقها غضبات انفعالية تجاه النتائج لا المسببات، تفاعلات سلبية مع المحصلة لا مع صانعها ومصدِّرِها. حين تكون هناك وزارة إسلامية ودار إفتاء رسمية يعتد بهما وتتداخلان والسياسة أو والشؤون الإدارية في دولة مدنية، فلا بد أن تكون النتيجة حالة من الفوضى والغياب التام لمنهجية واضحة للتعامل مع المشاكل المجتمعية الوارد حدوثها في أي مجتمع. إن الهجين الغريب لدولة مدنية ذات تشريع ديني لن يولد سوى حالة توتر وتناقض مستمرين، هو هجين سيقسر الناس على عيش حالتين وتقمص وجودين، والأخطر هو سيقسرهم على تبني وجهين، كل يظهر حسب الحاجة والموقف.
بلا شك، وحيث إن كل المجتمعات الإنسانية تقريباً تقوم على فلسفة أو عقيدة دينية ما، تحتاج كل دولة في العالم إلى مؤسسات وعظية، تنظيمية، إرشادية دينية تكون متوافرة على أرض البلد لمن يحتاجها ويسعى للاستنارة بمشورتها ونصحها وتفسيراتها الشرعية. تكمن المشكلة، في رأيي، في رسمية وحكومية مثل هذه المؤسسات في دولنا، حيث تصبح طرفاً في التشريع القانوني والتنظيم الإداري والاجتماعي للبلد، مما يجعل مؤسسة الدولة بأكملها تعلن انحيازها المبدئي لدين وطائفة ورأي معينين، ومما يحيد بقية الأشخاص المنتمين لأديان وطوائف مختلفة ويخلق منهم أقلية ملزمة بالانصياع لتشريعات دينية لا تتوافق وتوجهاتها، وهل من شيء أسوأ على الإنسان من قسره على واجب ديني أو موقف أخلاقي يتنافى وعقيدته أو يتخالف ومفاهيمه الأخلاقية؟
تحتاج الدولة لأن تقف طرفاً محايداً، لأن تكون كما هو مطلوب منها أن تكون، إدارة وجهة تنظيمية. الحكومة ليست مدرسة أخلاقية وليست بيتاً تربوياً وليست مسجداً أو كنيسة يعبّدان الطريق للجنة ويحميان من صلي النار، الدولة لا تدين بدين، هي تنظم تنوع الأديان على أرضها دون أن تأخذ جانب أحد على أحد. الدولة مؤسسة إدارية يفترض فيها لنجاحها أولاً وقبل كل شيء حيادها، والدولة التي تحيد عن الحياد، تخلق في لبها أقليات يَنْفِضون استقرارها ويَقُضُّون مضجع حكومتها.
الغضبة الكويتية قد تكون مستحَقَّة، لكنها كذلك مستحِقة للتحليل الرصين والتناول المنطقي. بكل تأكيد وبلا أدنى شك، ستفتي دار فتوى إسلامية سنية بهكذا فتوي، بل إن دور الفتاوى لمعظم الطوائف الإسلامية غالباً ما ستفتي بذات الفتوى، فهذا هو الخطاب الإسلامي التقليدي، وهذا هو الرأي الديني السائد بين معظم مشايخ الإسلام. وعليه، لا يبدو حقيقة أن دار الإفتاء في الكويت خرجت عن المتوقع أو السائد دينياً. الاحتجاج يفترض أن يوجه لفكرة وجود وزارة حكومية دينية ودار إفتاء متداخلة تشريعاً وحياة الناس، هذا احتجاج يتواجه وحقيقة المشكلة، ذاهباً إلى قلبها ومتعاملاً مع أصلها. أما أن نترك الجوهر ونذهب للنتيجة أو المظهر، فهذا مما لن يجدي نفعاً أبداً. فحتى ولو بسحر ساحر قررت دار الإفتاء أن تغير قولها تجاه هذا الموضوع، أفلن يدب الخلاف تجاه مواضيع أخرى؟ ألن يستشعر البعض، في أي مواضيع أخرى قادمة، أن داراً دينية رسمية تفرض عليهم قراراً عقائدياً أخلاقياً لا يتناسب وفكرهم، فيدب الخلاف وتعم الفوضى؟ فعلياً ومنطقياً، ما المتوقع من دار إفتاء تتبع الرأي الديني التقليدي السائد؟ أن تسهم في حركة تحرير المرأة وأن تساويها بالرجل الوصي والولي وذي القوامة؟
لنكن واقعيين، إذا أردنا تمدين دولنا وفي الوقت ذاته المحافظة على تدين وثقافة مجتمعاتنا، فلا بد أن تكون قوانيننا وحكوماتنا مدنية خالصة، وأن تضم ساحتنا المجتمعية كل المؤسسات وجمعيات النفع العام ودور العبادة الدينية التي يرغب الأفراد في تأسيسها ويسعون لوجودها. ساعتها، يمكن للجمعية الدينية مثلاً أن تروج لهكذا رأي في عمل المرأة دون حرج على الدولة، ويمكن للدولة أن تشرع مدنياً دون حرج على رجال الدين الذين يضطرون، حباً في السلامة، في دولنا حالياً لتبرير توجهات حكوماتهم وتقلبات أنظمة دولهم. إما أن نضبط المعادلة ليصبح واقعنا متوائماً غير متنافر، وإما أن نحيا في ذات الفوضى التي اعتدناها وأصبحت منهجية حياتنا، لا نملك سوى أن نملحها بالاعتراضات الفقيرة التي لا تغني ولا تسمن من جوع، وعلى رأي الأحبة المصريين «شيل ده من ده…».

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    الكويت يا دكتورة حفظكم الله بلد إسلامي !
    أي يلتزم بقال الله , وقال الرسول !! ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    هناك حرية الحجاب وحرية الإختلاط بالكويت !
    أي : لا إجبار على إختيار الناس !! ولا حول ولا قوة الا بالله

  3. يقول الكروي داود النرويج:

    الدين الإسلامي ليس رجعي كما يدعي البعض !
    الدليل هو بتجديد الفتاوي لدى الفقهاء !! ولا حول ولا قوة الا بالله

  4. يقول الكروي داود النرويج:

    وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ ……… (29) الكهف
    29. And say, “The truth is from your Lord. Whoever wills—let him believe. And whoever wills—let him disbelieve”.
    أين الإجبار والقهر بهكذا إختيار؟
    فكما الإيمان بالقلب , كذلك الكفر !
    والحساب عند الله وحده لا شريك له !!
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  5. يقول الكروي داود النرويج:

    كلام الله صحيح 100 % بشرط حفظ الله للقرآن !
    كلام الرسول صلى الله عليه وسلم صحيح 100 % بشرط صحة النقل !!
    كلام الفقهاء متغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال والنيات !!! ولا حول ولا قوة الا بالله

    1. يقول Dr Arabi,UK:

      ومن نحن حتى نوافق ونقول إن كلام الله صحيح 100%, هذا شيء لا جدال فيه. مع تحياتي

  6. يقول سيف كرار... السودان:

    لنكن واقعيين، إذا أردنا تمدين دولنا وفي الوقت ذاته المحافظة على تدين وثقافة مجتمعاتنا، فلا بد أن تكون قوانيننا وحكوماتنا مدنية خالصة……. بصراحه يا استاذه هل نجعل الدين في اجازه ونحلق في سماء مصطلح المدنيه… قال الزعيم بن غوريون وهو أول رئيس لإسرائيل… من يأتي به الدين لا يخرج إلا بالدين… بمعني نحن نعمل بما انزله الله من السماء… المرأه مديره منزلها داخليا.. والرجل يخرج للصيد في غابة الحياة للأرزاق…ثم تم جواز عمل المرأه في الجو النسائي فقط…. يتبع…

  7. يقول سلام عادل _المانيا:

    الحل الوحيد لبلداننا هو نظام دولة علماني يحترم الأديان ولا يحشرها بتشريعاته اي أن الإنسان حر بتدينه من لباس واكل وشرب ووثيقة ورث وغيرها من الأمور التي تخص العبادة أو نظام ديني خالص وبالتالي سيعرف المواطن هل عليه أن يعيش في هكذا نظام أو لا ويختار مستفبله

  8. يقول سيف كرار... السودان:

    وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ” سورة البقرة آية:١١٣…. هم جميعا أهل كتاب واختلفوا مع بعض، فأصبحوا ثلاثه طوائف بإضافة المشركين… لكن وفق نظرية بن غوريون الدينيه تؤكد أن الاختلاف في الأحكام للذين لهم كتب سماويه يقودان الي الشرك والتخلي عن الدين.. مثال لذلك مصطلح الدوله المدنيه وموقف المرأه من المساواة وهي إحدي بروتوكولات آل صهيون التي يرفضها ويكذبها اليهود وترفض النسب إليهم… ولاحوله ولاقوه الا بالله…

    1. يقول سلام عادل(المانيا):

      النصارى كما يسميهم القران او المسيحيون كما هم معرفون عند الاخرين يؤمنون بتعاليم العهد القديم اي كل الكتب المقدسة عند اليهود بالاضافة الى العهد الجديد اي الاناجيل وما متصل بها فلذلك ما يقوله القران يبقى ملزم للمسلمين فقط ولا يمكن تعميمه على الجميع

  9. يقول جواد:

    ” الدولة لا تدين بدين، هي تنظم تنوع الأديان على أرضها دون أن تأخذ جانب أحد على أحد..” أين هي هذه الدولة التي لا تتدخل بالدين؟
    تصور الدولة مجرد هيكل فارغ , تصور قاصر عن فهم الدين!

    فراغ او حياد الدولة عن الدين هو دين بالضرورة. كل ما نازع الدين كان بديلا له ، كان عن الحاد او شبه الحاد او مجرد استحسان و تفضيل!

    الخطأ كله في تصور العلمانية مجرد صياغة ادارية ، شأنها شأن الديموقراطية! الحجاب حظرته العلمانية و ليس الديموقراطية .
    العلمانية تنازع الدين ، الديموقراطية لا تفعل.. الخلاصة؛ ليس هناك دولة بلا دين.

  10. يقول حكمة اقبال:

    شكرا جزيلا لك سيدتي لهذه المادة المهمة، وللأسف تتراجع المدنية والديمقراطية في الكويت التي كانت مثالاً بارزاً بين دول المنطقة. أوربا التي تطورت بشكل سريع لم تتمكن دون ان تفصل الكنيسة عن الدولة، وينطبق نفس الشيئ علي أي بلد آخر ليتطور بفصل الدين عن السياسة. حكومات ورجال دين يعاقبون الشخص غير الصائم في رمضان ويغضون النظر عن الجياع طوال السنة. كل عام وانتم جميعاً بخير.

اشترك في قائمتنا البريدية