يرحل المعلم لكن درسه لا ينتهي

كتب فرج ياسين قبل رحيله على صفحته في فيسبوك، تعبيرا عن يأسه التام، وإقلاعه عن الأمل في توفر أي فرصة للحل في بلده: «العراق وطني، وحين ضاق كثيراً صار الوطن مدينتي، وحين طال الخراب مدينتي انكفأت في بيتي، وبما أن البيت لم يَفِ بسيرورتي الوجودية، انحشرتُ في زاوية قاتمة مكانها داخل نفسي، وأنا أمكث فيها منذ مدة طويلة وأنتظر الخلاص».
من يدمن صنعة الأدب يرغب في الموت، مثلما يرغب في الحياة، وتسير هاتان الرغبتان جنبا إلى جنب طوال الوقت، وفي هذا شرح لكل ما في هذه الصنعة. تعود صداقتي مع فرج ياسين إلى عام 2011، عندما قصدته إلى بيته في مدينة تكريت، صحبةَ هيئة تحرير مجلة «إمضاء»: سعد محمد رحيم ومحمد علوان جبر ومحمد خضير سلطان، نحمل أسئلة هي مادة الحوار مع أديبنا، من حسن الحظ أني وثقته في آلة تسجيل صوتي. كان الوقت خريفا، الفصل الأكثر أبهة وأشد بهجة وكآبة في الوقت نفسه في المدينة، وفي العراق عموما. استقبلنا أديبنا في مكتبه المستقل، والمتصل أيضا مع صالة المعيشة، حيث جُهزت لنا مائدة الطعام، وحيث الشمس في النوافذ تختبئ خلف سحاب خفيف، وتلقي ظلالا باردة على حديقة المنزل. على الحائط لوحة للأديب، ملامحه تبين كأنما من وراء جدار أسود، مع حروف خضراء صفراء، تزيد من قوة التعبير في الوجه، وتعطيه صدى فائضا غير مستقل عن الأصل.
لقائي الثاني مع أديبنا جرى في مدينة أربيل، في مقهى قريب من القلعة الأثرية، وكان الحزن باديا على محياه بسبب مغادرته مدينته، لأن عصابات «داعش» احتلتها، وكانت تجري في ذلك الوقت معارك طاحنة بينها وبين الجيش العراقي. مع أقداح الشاي، رحنا نتنادم في موضوع الخسارات. حكيتُ له كيف احتل الإرهابيون بيتي في حي العامرية عام 2007. سكنوا فيه 12 عاما. حين غادروه أخيرا، تركوه في حال كأنها في ما وراء الزمن المبهم. لقد أكلت الحروب أعمارنا، وها هي تأتي على أعمار أولادنا: حرب الشمال مع الأكراد، وحرب الخليج الأولى والثانية والثالثة، والحرب الأهلية الأولى عام 1991 والثانية عام 2007، ولا نعرف ماذا يخبئه القدر للأحفاد. كنتُ أحمل معي مختارات لقصائد الشاعرة الأمريكية اليزابيث بيشوب. أهديتُه الكتاب، مع هذه الملاحظة على الصفحة الأولى: «الخسران ليس صعب التعلم»، وهو عنوان قصيدتها الشهيرة:
«فقدت ساعة أهدتها لي أمي/ وفقدتُ منزلا في حي هادئ/ لكنه راح للأبد/ وخسرتُ مدينتينِ حبيبتينِ لقلبي/ وخسرتُ أشياءَ أعظمَ، عوالمَ امتلكتُها ذاتَ يوم/ حتى خسرانُكَ أنتَ/ ما كانَ علي أن أكذبَ. الأمرُ واضحٌ وجلي/ فن الخسران ليس صعب التعلم/ رغم أنه يبدو (أكتُبُها!)… يبدو كالكارثة».
معنى قصيدة بيشوب واضح. خسارةُ النفس الإنسانية هي البالغة والجسيمة، وما تستحق أن نأبه له، ولا عزاء عندها غير الذكرى، والعِبرة من الدرس الذي تعلمناه. اللغة الحية تدل على روح رحبة وذهن متفتح وضمير نقي.
كتبتْ رشا فاضل الصحافية والأديبة، كلاما مؤثرا في رثاء أستاذها فرج ياسين، وابن مدينتها، أنقل من بلاغة الطالبة ما اخترته عنوانا للمقالة:
«ها هو المعلم يكمل درسه، ويضع الحرف الأخير في رسالته ويمضي مزدانا بالبياض، وهذه المحبة العظيمة التي اجتمع عليها الخصوم قبل الصحاب.. وكلما داهمنا غبار المدن السريعة، وسرقتنا الحياة في متاهاتها الملونة، ستبقى كلماته تؤكد لنا أن المحبة عظيمة، وأن الكون يتسع للجميع، فلا أحقاد ولا تنافس ولا تنافر، بل شراكة إنسانية وكلمة حنونة، نربت بها على أكتاف المتعبين».
قبل حوالي عشر سنوات نشر فرج ياسين كتابه الأخير «قصص الخميس» القصيرة جدا، ثم صارت وسيلة اتصاله بالقراء، صفحته في فيسبوك، يتابعون فيها ملاحظات وتذكارات وحكايات، أهم ما يميزها شحنة الشجن القوية، والاختصار في اللغة، كما أنه لا يوجد وصف أو شرح للمشاعر والأفكار. من القصص الجديدة التي لم يضمها كتاب، واحدة عنوانها «الآن»، اخترتُ نشرها كاملة، لأن تلخيصها يحتاج إلى مساحة أكبر في المقال:
«الزوج يشعر بتوق شديد إلى أن يرتدي الكوفية والعقال. تلاحظ زوجته ارتباك يديه. تسأله: أتريد أن تفعل ذلك حقا؟ لم يجبها بشيء، لكنه نشر الكوفية على رأسه، ورفع العقال فوقها. قال: يخيل إليّ أنني أردت أن أفعل ذلك بضع مرات في حياتي! سألت الزوجة: لكنك تفضل دائماً البدلة مع ربطة العنق. أليس كذلك؟ الزوج يوجه نظرة آسية إلى زوجته، وينشر الكوفية على الأريكة، ويخطئ في إعدادها، ثم يطرحها فوق رأسه، ولا يطمئن إلى وضعها مع العقال، وينزعها، ويحاول أن يجعلها ملائمة. نعم. هو اللباس الذي يلائمني الآن. قال الزوج، وبلغته في الحال نظرة الزهو التي كانت في عيني أبيه، يلقيها في نظرته الأخيرة في المرآة».
تشبه قصص فرج ياسين الخرائط التي رسمها الجغرافيون القدماء للعالم، جمعوا فيها عناصر رمزية للمعالم الطبيعية مثل الجبال والأنهار والبحيرات، تخطيطات كانت تبدو في زمانهم خربشات ومحذوفات وأسهما توضيحية، لكننا نجدها اليوم تشبه الواقع إلى حد بعيد. قصة «الآن» إحدى تلك الخرائط، فهي على قِصرها الشديد، تُعطينا فكرة كافية عن طبيعة المجتمع، كما أن كل ما يخص الأديب العظيم لا يجري اعتباطا، فهو يعيش حياته في الواقع، مثلما هي على الورق. في سنواته الأخيرة لم يعد فرج ياسين يكترث بهندامه كثيرا، وكان يظهر في المحافل الاجتماعية مرتديا الدشداشة مع السترة، أو من دونها، ومن دون الكوفية والعقال، على وجهه أمارات تدل على التمرس الطويل مع المعاناة. في الخمسينيات، وربما امتد الأمر إلى منتصف الستينيات، كان القانون والعِرفُ يمنعان من يستغني عن لبس الكوفية والعقال مع الدشداشة، من مراجعة دوائر الدولة، أو الظهور في نادٍ أو جمعية أو مؤسسة عامة أو خاصة. فرج ياسين؛ الأستاذ في كلية الآداب، والحاصل على شهادتي الماجستير والدكتوراه في الأدب الحديث، ومن كانت أناقته في الماضي تدل على إحساس بالرفاه على الدوام؛ بدلة وربطة عنق لا يجوز التهاون في أمرها، حتى في أشد ساعات التعب والقلق والحيرة، اختار أن يظهر أمام الملأ بملابسَ من النمط الذي لا تقف عنده العين، أو قل إنها تشبه ما كان على دراويش الصوفية في الماضي، وهم يقصدون في ذلك رفضهم وعدم انتمائهم إلى زمانهم. إن أسلافنا يعيشون معنا، وعظامهم تتململ في أبداننا، لكننا خذلناهم مرتين؛ لم نكن منتمين إليهم ولا إلى عصرنا، بل نحن كائنات ضائعة في الزمان والمكان، لا شغل لديها غير «انتظار الخلاص»، بتعبير أديبنا، وقد اختار أن يكون في طبيعة ثيابه، استعارة للتعبير عن عصره، وعن عدم انتسابه إليه.
لا بد أن تكون كارثة الفقدان التي تحدثت عنها الشاعرة الأمريكية، أقل وقعا وتأثيرا، عندما نجابهها بهذه المشاعر. أعود إلى كلام رشا فاضل: «أنت قِبلة محبتنا يا فرج ياسين، بل الماركة المسجلة لمدينتنا. وجه تكريت الصافي الذي نحبه وسنحبه أبدا، سنحفظك في قلوبنا كأغنية دافئة، كتاريخ شخصي جدا، كتميمة تحمي أرواحنا من اليباس، وقصة لن تكون قصيرة أبدا… بل قصة طويلة تبدأ من اسمك حتى ما يشاء الله».
وأنا أقوم بإعداد المقال، أحضرتُ آلة التسجيل التي قامت بتوثيق لقائنا الأول، وجاءني صوت صديقي ذي النبرة الهادئة والمطمئنة: «يمكن اختصار حكاية وطن في حبكة واحدة في قصة، إذا تمكن الكاتب من تمثيل أساطير بلاده، وهي النقطة الأهم، بالإضافة إلى الوجدان، ما يجري في لا وعي الإنسان، وما يحصل في القلب، إن اجتمعا يكونان دعامة الحياة؛ القوة العاطفية والقوة الأخرى التي يوجهها عقله الباطن، والتي هي مبهمة المصدر، ينحط المجتمع وتتوقف الحياة فيه عندما يفشل في أخذ هاتين القوتين مأخذ الجِد، والفن القصصي في الأخير يشرح تاريخ الناس الخفي، المتصل مع الماضي البعيد».
عندما تُستأصل القيم المدنية والحضارية في البلد، ويسير هذا المشروع حثيثا سنة بعد سنة، تنتقل حياة الناس فيه كل يوم من عتمة إلى عتمة، ويصير الظلام والظلم والجهل عادة يألفونها، والابتذال والتفاهة أيضا. كلمة أخيرة أختتم بها المقال، لا أعدها إطراء للأديب، ولا مكابرة أو تأسية، حتى لو كانت نسبة فرج ياسين بين العراقيين واحدا من مليون، فإن البلد ناهض من كبوته لا محالة، في المستقبل القريب أو البعيد أو الأبعد.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبد الرحمن:

    في العنوان يرحل المعلم لكن درسه لن ينتهي.
    الصواب رحل المعلم ودرسه لن ينتهي.

اشترك في قائمتنا البريدية