يسار- يمين: قصة «نصف الحلقة» الفرنسية الأخيرة

قبل الإفراج عن النتائج النهائية للانتخابات البرلمانية الفرنسية، ضجت فضاءات التواصل الاجتماعي العربية بالتهليل و»التكبير»، مبشرة بعودة اليسار الأوروبي، ومتحسرة على مآل اليسار العربي، بعد أيام قليلة من سيطرة حزب العمال على البرلمان البريطاني.
يفتخر الفرنسيون أنهم أصل تقسيم اليمين واليسار سياسيا (بدأت بجلوس المعارضة على يسار الملك والموالاة على يمينه في نصف حلقة يتوسطها الحاكم)، كما يفتخرون بالطابع الاجتماعي للدولة، والذي كان لليسار في نسخته الفرنسية دور في ترسيخه. يسار يبدو بعد انتخابات السابع من تموز/ يوليو 2024 مقتصرا على أرقام، ولغو وسائل الإعلام، في حين تشير كل المؤشرات إلى تغلغل واضح لليمين داخل المجتمع الفرنسي.

صوت ضد

الشائع في التقاليد الديمقراطية للانتخابات عامة أن يعبر كل مواطن عن رأيه باختياره الشخص الأنسب والأقرب لقناعاته. لكن الملاحظ في الانتخابات المسبقة، التي أمر بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في شهر يونيو/حزيران الماضي، إثر قراره بحل البرلمان، سيطرة توجه «التصويت ضد».
نجاح اليمين المتطرف في حصد غالبية الأصوات، خلال الانتخابات الأوروبية للتاسع من حزيران/ يونيو الماضي، وضعت الطبقة السياسية وعموم الشعب أمام رهان الوقوف في وجه «الغول» اليميني سليل «الجبهة الوطنية»، الذي عزز حضوره بالنجاح، الذي حصده خلال الدور الأول (يوم 30 ؛زيران/ يونيو) ما جعل الكثير من المترشحين من خارج أهم طرفين في المعادلة الانتخابية: اليسار ممثلا بالجبهة الشعبية (المزيج من أطياف كثيرة ومتنوعة من اليسار الفرنسي وحتى الخضر) واليمين المتطرف ممثلا في «التجمع الوطني» (الحزب الذي ترأسه مارين لوبان)، بإعلان التنازل لصالح اليسار في الأغلب لتشكيل سد في وجه أقصى اليمين، الأمر الذي انعكس بحذافيره على مواقع التواصل الاجتماعي.
لن تكون هذه المرة الأولى التي يتعين على الطبقة السياسية تشكيل صف واحد في وجه اليمين المتطرف (والذي يعبر عن رأي جزء كبير ومتزايد من المجتمع الفرنسي بالمناسبة)، إذ اضطرت مختلف الأطياف لدعوة قواعدها لدعم الرئيس المنتهية ولايته والمترشح لولاية ثانية إيمانويل ماكرون، حين لاح شبح «لوبان» الابنة خلال رئاسيات 2022.

وإذا الوحوش حشرت

من الانتقادات الكثيرة، التي وجهت للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كثرة التحديات التي وضع الفرنسيين أمامها في وقت قصير، (ثمان وعشرون يوما، ودوران من انتخابات برلمانية)، كللت بعبارة ضاعفت توجس الجميع: «البلد أمام خطر حرب أهلية»، التي تضمنها خطابه، الذي أعلن فيه عن حل البرلمان. عبارة تذكر الفرنسيين بفترات صعبة في تاريخهم، خصوصا «حرب الجزائر»، التي لا تزال تلهم الكثير من المتطرفين.
«تحرير الألسنة» كان أحد أوجه التطرف، الذي تطفل بشكل غير مسبوق على الفضاء العام الفرنسي (رغم الترسانة القانونية الكبيرة لمجابهته). لم يتوقف رواد مواقع التواصل الاجتماعي عن تشارك الرسائل العنصرية التي تلقاها الكثير من المواطنين من ذوي الأصول العربية والافريقية خصوصا، افتراضية وأخرى تقليدية لا هوية واضحة لأصحابها، لكنها لم تخطئ أهدافها.
الرسائل المشخصنة لم تكن أكثر ما أثار القلق، إذ ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بانتشار أغان من الطرفين اليمين واليسار، حملت عبارات مسيئة تفاعل معها الفرنسيون. يشهد لمناصري اليمين تفننهم في استلهام قواميس عنصرية عفا عليها الزمن. أغنية «سترحل» مثلا، التي أنجزت على ما يبدو باستخدام الذكاء الاصطناعي أبرز هذه الأمثلة.
أغنية مرحة تستلهم عبارة لمهاجر غير شرعي جزائري يصرخ برفضه الترحيل، بفرنسية «مكسورة». تتوعد الأغنية جميع «الغرباء» بالعودة إلى بلدانهم، هم و»فاطماتهم (الفاطمة هي الخادمة العربية بالتعبير الكولونيالي)، بجلابياتهم، وليصلوا كما شاءوا هناك» تقول كلماتها. كلمات يبدو أنها نالت إعجاب إيريك زمور، الذي تشاركها على صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي رافقها بفيديو له وهو يرقص عليها مستمتعا بالعبارات التي بدت مستلهمة من حقبة زمنية توقع الجميع أنها محيت من الذاكرة الجمعية الفرنسية (والذي لن يحصل على مقعد في البرلمان) الأغنية لن تكون الأخيرة للأسف.

هرج ومرج

الأمر الذي قد يغيب عن أذهان الكثير من المهللين بفوز اليسار الفرنسي أن عدد الأصوات التي حصدها اليمين المتطرف الفرنسي قارب التسعة ملايين صوت، وهو عدد كبير يتجاوز بكثير الأصوات التي حصدتها مختلف التشكيلات الانتخابية. لكن خصوصية الدور الثاني في هذا النوع من الانتخابات، حسب القانون الفرنسي تتعلق بما يحصده كل مترشح وليس كل قائمة، وهو ما جعل عدد ممثلي الحزب في البرلمان أقل من باقي التشكيلات الأخرى (في حين زاد عدد مقاعد الحزب في البرلمان بحوالي خمسين مقعدا مقارنة بآخر انتخابات).
أمر أفلت من انتباه مؤيدي اليمين المتطرف من جهة، كما قد تبرره التوليفة العجيبة للمترشحين باسم الحزب، والتي تصدرت التريند الفرنسي وأثارت دهشة رواد مواقع التواصل الاجتماعي. «تييري موسكا» مثلا مرشح حقق نسبة تجاوزت الثلاثين ٪ خلال الجولة الأولى من الانتخابات، قبل أن تكشف وسائل إعلام جادة فقدانه الأهلية، إذ لا يستطيع قانونا حتى التصرف في حر ماله، بسبب تخلف عقلي! «آني – كلير بيل»، مترشحة أخرى أثارت حفيظة الباحثين في تاريخ المترشحين، قبل أن تصنع الحدث على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ اتضح أنها مسبوقة قضائيا، فقد شاركت قبل ثلاثين عاما في عملية مسلحة لاعتقال رهائن داخل مقر البلدية التي تقطن فيها. «إيلودي بابين» الأخرى، مرشحة – شبح نجحت في حصد أصوات كثيرة خلال الدور الأول دون أن يراها أحد، ولا أن تنشط تجمعا شعبيا وحيدا، قبل أن تخسر الدور الثاني، والقائمة تطول.. جدا.
«نعاج جرباء، نجحت في الإفلات من الشباك» كان ذلك رد أقوى رجل في اليمين المتطرف العشريني جوردان بارديلا، والذي انتظره الجميع على رأس قصر «ماتينيون» يوم العاشر من يوليو/ تموز.
لن يفلت بدوره من مجهر الإعلام الفرنسي، الذي كشف اقتصار شهادات الرجل على تسجيلين في الجامعة أحدهما في مدرسة «العلوم السياسية» المرموقة في باريس، والتي يندر ألا تعد بين طلابها رجل سياسة فرنسي وحيد.
ماضي مترشحي «الجبهة الوطنية» ليس أكثر ما أثار حفيظة رواد مواقع التواصل الاجتماعي ومتابعي الانتخابات الأكثر إثارة في تاريخ الجمهورية الخامسة، إذ بدا جليا جهل كثر منهم بأبسط قوانين الجمهورية، وغياب برنامج انتخابي واضح قائم على وعود متفردة، فالتردد والتراجع لازما الخرجات الميدانية والميديائية لكافة المترشحين، بدءا برئيسة الحزب «مارين لوبان».

انتهى زمن الإعلام التقليدي؟

كانت العبارة الأكثر ترددا على ألسنة الكثير من السياسيين والإعلاميين الفرنسيين، وهم يتفرجون على الشعبية المتصاعدة لجوردان باديلا، قبل اكتشاف الحياة الموازية للفتى الذي يعد مليوني متابع لحسابه على منصة «تيك توك» لوحدها، يتقاسم فيها يومياته على طريقة الأنفلونسرز. فيديوهات طريفة في الغالب تنقل كواليس التجمعات الانتخابية التي ينشطها.
عكس السياسيين التقليديين يتحدث النجم «بارديلا» عن الأكل، يتقاسم صوره مع المعجبين، الذين وصل هوسهم بالشاب حد ملاحقته من مكان لآخر تماما كنجم بوب، حسب ما كشفته تقارير ميدانية، عمل بدأه على ما يبدو منذ فترة طويلة. فضاءات افتراضية تبدو عصية على سيطرة طبقة سياسية تقليدية، لم تتفطن قواعدها لأهمية الوسائط الجديدة وقدرتها على التأثير، حتى وقت قريب جدا، ما جعل كثرا يحاولون تأدية أدوار جديدة، تتجاوز التكييف إلى ترجمة الخطاب السياسي لجماهير هذه الوسائط ومغازلة شباب يبدو غير معني بالحياة السياسية.

عودة الابن الضال

التحديات التي وضع الرئيس الفرنسي شعبه أمامها خلال الأسابيع الماضية جعلت الكثير من رجال السياسية الفرنسيين ممن اختاروا العزلة الطوعية أو الإجبارية يعودون للوقوف في وجه الخطر المحدق بالجمهورية حسبهم.
فرانسوا هولاند، الرئيس السابق، اختار الترشح عن مدينته «تيل» بإقليم «الكوريز»، بعد سنوات من الغياب عن الحياة العامة لم يقطعه غير إصدار كتاب أو مشاركة في حدث مميز. أمر نجح فيه إذ حصد مقعدا في البرلمان مع «الجبهة الشعبية»، على طريقة الرئيس السابق فاليري جيسكار ديستان، الذي عاد للبرلمان بعد خروجه من سدة الحكم.

أما الاسم الآخر الذي فاجأ خروجه السياسيين والجماهير كان اليساري «دومنيك ستروس – كان» الذي اضطرته فضائحه المتتالية لـ»انكفاء على عقبيه» نحو «خلوة» إجبارية، بعد أن كان من أقوى المرشحين لرئاسة البلاد. عودة «ستروس – كان» عبر وسائل إعلام ثقيلة جاءت للتحذير من عواقب سيطرة محتملة لليمين المتطرف على أهم الأجهزة الديمقراطية في البلاد.
يحسب لليمين المتطرف الفرنسي محاولته الدائمة للاستفادة من سابق أخطائه، فقد وصلت زعيمته مارين لوبان، حد التخلص من زعيمه التاريخي، «والدها»، وغيرت تسمية الحزب من «الجبهة الوطنية» إلى «التجمع الوطني»، لمحاولة التحايل على الصورة التقليدية السلبية للحزب المرتبطة بالنازية وجرائم الحرب في المستوطنات الفرنسية السابقة.
لكن «المعسكر اليساري» لا يبدو في أفضل حال، إذ تشير تقارير إلى وجود تجاذبات بين مختلف الأطياف لفرض اسم واحد عن «الجبهة الشعبية» لقيادة الحكومة القادمة، في ضوء الاختلافات الأيديولوجية والرؤيوية.
ما يضيع عن المتابع العربي المنتشي بفوز اليسار، أن أكثر المستفيدين من هذه الانتخابات الفرنسية السريعة والغريبة، هو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي جعل من كسر التقسيم التقليدي بين اليمين واليسار شعار (ومشروع) حكمه، من خلال خلق ما صار يعرف بـ»الماكرونية» قرارات وقوانين يستحدثها الرئيس وتدعمها تشكيلة حزبية هجينة، أثبتت السبع سنوات الماضية ترسخها ضمن اليمين (رغم تأكيد تنوع مناهلها)، تحترف استراتيجية «التخويف» (التلويح باليمين المتطرف، تغذيته واستلهامه) وتقنيات السرعة في التنفيذ مثلما حدث خلال الانتخابات الأخيرة التي فرقت أربع أسابيع بالضبط بين الإعلان عنها وإجراء دوريها.
نجاح «النابليون 2.0» لن يتوقف هنا، إذ ختم «المخاض الاصطناعي» الذي أجبر الفرنسيين عليه بإعلان نفسه وفريقه (معا من أجل الجمهورية) أنجب تلاميذ هذا الامتحان الشعبي الجديد (حصدوا المركز الثاني من حيث عدد المقاعد) من خلال رسالة وجهها عبر الصحف لشعبه وهو «يحج» إلى اجتماع الناتو بواشنطن، والحقيقة أن ما يعتبره «ماكرون» نجاحا لا يتعلق بالتشكيلة التي تتوسط بين اليسار واليمين (المتطرف) والتي يعتبرها عائلته، ولكن بعودة زمام الأمور إلى يديه من جديد، فغياب أغلبية ساحقة في التشريع الفرنسي يعطي صلاحيات أوسع لرئيس الجمهورية.

 كاتبة من الجزائر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول زهير:

    كلما أحاول أن أتابع أخبار الشأن المحلي الفرنسي على يوتيوب، تقفز إلى شاشة هاتفي فيديوهات أرشيف التلفزيون الفرنسي. وبدلاً من مشاهدة أحدث قرارات الحكومة، أجد نفسي أشاهد شيراك وهو يناقش بحماس أنواع الجبن في فرنسا أو ساركوزي وهو يركض في سباق مع ظله. أبحث عن جديد ماكرون في الانتخابات التشريعية الأخيرة، فتأتيني لقطات نادرة لجورج بومبيدو وهو يلقي خطاباً يبدو وكأنه من زمن اختراع التلغراف!

  2. يقول Ok:

    كلما أحاول أن أتابع أخبار الشأن المحلي الفرنسي على يوتيوب، تقفز إلى شاشة هاتفي فيديوهات أرشيف التلفزيون الفرنسي. وبدلاً من مشاهدة أحدث قرارات الحكومة، أجد نفسي أشاهد شيراك وهو يناقش بحماس أنواع الجبن في معرض الفلاحة أو ساركوزي وهو يركض في سباق مع ظله. أبحث عن جديد ماكرون في الانتخابات التشريعية الأخيرة، فتأتيني لقطات نادرة لجورج بومبيدو وهو يلقي خطاباً يبدو وكأنه من زمن اختراع التلغراف!

اشترك في قائمتنا البريدية