ولد المخرج يسري نصر الله في عام 1952 ودرس الاقتصاد في جامعة القاهرة، ثم اتجه للدراسة في المعهد العالي للسينما عام 1973 وعمل في تلك الفترة ناقداً سينمائياً في إحدى الصحف اللبنانية، ولكن حبه للإخراج السينمائي تغلب على هواية الصحافة والنقد فكرس حياته للعمل السينمائي فقط وبدأ أولى محطاته من بيروت حيث عمل كمساعد مخرج مع فولكر شلوندرف في فيلم «المُزيف» ومع عمر أميرالاي في الفيلم التسجيلي «مصائب قوم». وبعد عودته من بيروت عمل أيضاً كمساعد للمخرج يوسف شاهين في فيلمي «وداعاً بونابرت» و«حدوته مصرية» كما شارك في كتابة سيناريو فيلم «إسكندرية كمان وكمان» عام 1990.
كان فيلم «سرقات صيفية» أول فيلم روائي طويل يُخرجه يسري نصر الله عام 1988 بعده توالت أعماله التي تمثلت في فيلم «مرسيدس» و«صبيان وبنات» و«المدينة» وفيلمه المهم «باب الشمس» بجزئية «الرحيل» و«العودة» وبعد ذلك فيلم «جنينة الأسماك» وفيلم «احكي يا شهرزاد» و«بعد الموقعة» و«الماء والخضرة والوجه الحسن» مع ليلى علوي، والأخير يُعد هو التجربة التقليدية التجارية الوحيدة التي قدمها المخرج الكبير صاحب وجهة النظر، الذي يُنكر دائماً ارتباط أفلامه بالسياسة برغم ما تحمله من تفاصيل هي بالقطع ذات صله بالقضايا الاجتماعية والسياسية.
لكن نفي نصر الله الدائم لانعكاس وجهة النظر السياسية في أفلامه يُحتم أن يكون التعامل معها إنسانياً بحتاً باعتبار أن صاحب الفيلم أدرى بما يطرحه، وإن كان ذلك لا يمنع التأويل ولا يحجر على المُتلقي تفكيره واستقباله للفيلم بشكل مُختلف، لأن أغلب الظن أن إصرار المخرج يسري نصر الله على ابتعاد أفلامه عن السياسة يأتي من قبيل الوقاية وعدم الرغبة في الصدام أو التصنيف، ربما لأن التصنيف له تبعاته المُرهقة والمُزعجة أحياناً.
المهم أن مُعظم إبداعات يسري نصر الله تُصادف قبولاً وتأييداً جماهيرياً ونقدياً كبيرين، وهو المطلوب إثباته لتحقيق مُعادلة التأثير القوية كهدف رئيسي وأساسي من أهداف السينما، وفي كل الأحوال سواء كانت السياسة عنصراً حاضراً في تكوين أفلام المخرج المُلقب بالمتمرد أم لا فهي تنتمي لنوع خاص وتتجاوز الأنماط التقليدية في عرض المُشكلات والأطروحات بكافة تفاصيلها ووجهاتها، وهذا ما يفرض استقبالاً خاصاً لها كونها تُشير إلى ما يهم المواطن المصري والمواطن العربي على اختلاف ثقافتهما وميولهما وتوجهاتهما وتُحقق بكل كفاءة شروط التأثير والتفاعل.
وهنا تنتفي التسميات والتصنيفات ولا يتبقى غير الأثر علامة ودليلاً على أهمية ما يتم طرحه أياً كانت ماهيته وتوظيفه، ولو افترضنا أن كل أفلام يسري نصر الله إنسانية ولا علاقة لها بالسياسة على حد قوله، فذلك لا يعني أنها خالية من الترميز والتلميح وغير مُشتبكة مع الهم العام، والحُجة في هذا الأمر هي النماذج السينمائية ذاتها، وأولها «باب الشمس» الذي قدم حيثيات قوية للغاية تدل على عدالة القضية الفلسطينية وارتباط فكرة الشتات والتهجير بحق العودة وضرورة الاستقلال وهذا واضح كل الوضوح على مستوى الموضوع والرؤية والتوظيف. غير أن فيلم «بعد الموقعة» وهو نموذج آخر من النماذج ذات الدلالة، اشتبك وبقوة ما الواقع السياسي في فترة ما إبان قيام ثورة يناير وطرح وجهة نظر بعينها تحتمل الاختلاف والاتفاق، لكنها وثيقة الصلة بالسياسة حتى وإن كان الغلاف إنسانياً بامتياز.
وفي النموذج الثالث فيلم «المدينة» لم تغب الخلفية السياسية على الإطلاق، فمُعاناة الشاب المصري الفقير الذي سافر إلى فرنسا لم تكن رحلته القاسية المُضنية مجرد صدفة، أو نزهة ترفيهية، وإنما كانت هروباً من واقع اجتماعي مرير إلى واقع أشد مرارة، ولو اختزلنا الأحداث كلها في هذا المفهوم فقط، سيكون كافياً للاستشهاد على حتمية التفسير السياسي للفيلم وإن أنكر المخرج صلة فيلمه بالسياسة كما يزعم فالحالة غنية عن المراوغة والإنكار، ثم إنه لا عيب في أن يكون للسينما دور سياسي فهي ليست تهمة يتبرأ منها المُبدع الذي يُعبر عن هموم الجماهير وآلامهم ومُشكلاتهم.
الغريب هي تلك المسافة الافتراضية التي يُريد المخرج يسري نصر الله وضعها لتكون حاجزاً بينه وبين القضايا السياسية لأسباب غير مفهومة وغير منطقية، فالطرح الإنساني في العمل الفني لا يلغي الخط السياسي البياني بالكلية، فالسياسي والإنساني عنصران مُتكاملان إذا توافر وجودهما ولا ينفي أحدهما الآخر، بل على العكس السياسة في كثير من الأحيان تكون بمثابة ظل للحالة الإبداعية الإنسانية حسب مُقتضيات الفكرة ومعطياتها السينمائية وزاوية الرؤية والمضمون العام.
لقد حظي نصر الله بتكريم مُستحق في الدورة 45 الأخيرة لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، ليس لأنه مخرج مُتميز مهنياً فقط أو تلميذ نجيب لأستاذه يوسف شاهين فحسب وإنما لأنه مُخرج مُثقف وصاحب وجهة نظر ومُتمرد بشكل حقيقي على الأشكال النمطية والاعتيادية لفن السينما، ولهذا فهو الأعمق والأقرب فعلياً لشاهين المُبدع والإنسان والفنان.