الظاهر أن المشهد المأزوم صار يكتمل في الجزائر بالشكل الذي تنبأ به الكثيرون، من يوم انشقت وانفلقت نواة السلطة الصلبة، بتحالفاتها وموالاتها باستقالة بوتفليقة، وبقاء الجزء الخفي من عصابته، في مقاومة الكنس الثوري للشارع الجزائري، فالكل أضحى يتحدث عن دخول القوى الخارجية، وفرضها للحل الذي يرضيها في الداخل الجزائري، وفق مسارات دستورية مفصلة قبلا على نهج كهذا.
وذلك بطبيعة الحال سيكون على حساب مطلبية التغيير والتجديد، التي يرفعها الجيل الجديد في الجزائر، جيل لم يتصل في مبادرته عضويا وسببيا بثورات الربيع العربي، وإنما شكّل رؤيته في التغيير العميق، من عمق وعيه بالتجربة الوطنية المتراكة، مع تراكم أزمات الدم والدموع عبر عقود الاستقلال الستة، التي لم يُترك فيها مجال للشعب كي يؤسس سيادته الدستورية المؤسساتية الحقيقية، التي من شأنها أن تجعله يعيش آماله وأحلامه وفق خصوصيته في التاريخ والجغرافية.
وها هم الملاحظون يبهتون لأسئلة الظاهرة الجزائرية مجددا، هل نحن حقا بصدد استنساخ التجربة المصرية؟ وهل مفاهيم الثورة والعمل الدستوري مسها تطور العلوم السياسية في عصر العولمة، وانهيار القيم والمفاهيم الكلاسيكية للظواهر والأشياء الإنسانية؟ وما الجديد الذي ستضيفه التجربة الجزائرية كموجة جديدة قاطعة، مع إفرازات تلك التي سبقتها في ما اصطلح عليه بالربيع العربي الموؤد، أو «الموقود» بنيران حروب أشعلها المال الخليجي المتآمر، الإماراتي والسعودي تحديدا، على شعوب المنطقة، بتوجيه من قوى الهيمنة العالمية، أو ما بات يعرف بالنيوكولونيالية، التي تبتلع السيادات من خلف الحدود، وسياجات الوهم الوطني.
يجزم الكاتب الصحافي الفلسطيني المقيم بأمريكا أسامة فوزي، بأن التجربة الجزائرية في الثورة على حكم الأوليغارشية المالية العسكرية الحاكمة في الجزائر ستُطوى بالآلية والخديعة ذاتهما التي طويت بها التجربة السيساوية في مصر، وأن بن صالح الذي عين مؤخرا رئيسا للدولة بالنيابة، لا يقوم سوى بالدور ذاته الذي قام به عدلي منصور بعد الإطاحة بمرسي، في انتظار فارس السلطة الفعلية الذي سيقدمه العسكر للشعب الجزائري لتزكيته في الانتخابات المقبلة.
دساتير بوتفليقة المعدلة ثلاث مرات فُصلت على مبدأ الاحتمالات الحامية لعرشه العصاباتي، وليس لإدارة دواليب الدولة
طبعا تخمينات أسامة فوزي تنطلق أساسا من معطى واقعي يقوم على حالة التناقض التي يمشي وفق إيقاعها المشهد الجزائري اليوم، بين ثورة شعبية عارمة ضخمة، تروم التحول في التاريخ جيليا وفلسفة في الحكم والاحتكام الوطني، من نمط غريب رسخه نظام بوتفليقة المتصل في بعده التسلطي مع النظام القديم والمنفصل عنه في بعده البنيوي، بعد أن أقامه على الأسرية الملكية، والعصبية الجهوية، والأوليغارشية النفعية، والدعم الخارجي، وثورة مضادة تحاول خنق هذه الثورة الضخمة، في دستور ضيق لا يسعه في نصوصه حمل الحلم الشباني بوعيه الكبير وطموحه المتعاظم والقاطع مع الماضي شكلا ومضمونا، وبالتالي تغدو عملية الحشر والحصر بالقسر داخل الشعب وثورته، باستحالتها ولا موضوعيتها، عملية لدفن الحراك الثوري في القبر.
لكن ثمة ملاحظات تتصل بالتطور المرحلي الذي عرفته تجربة التمرد الشعبي على النظم في المنطقة، التي صار واضحا أنها تمشي وفق إملاءات قوى الاستعمار الجديد، لا غير، أهمها أن الكثير من النخب المتفاعلة مع ثورة الشعب، لم تهتد إلى بوصلة التوجيه السليمة، ووقعت في فخ اللغة حين تأخرت على الواقع، وبالتالي منحت الفرصة للعابثين بالتأويل القانوني كي يحجموا من إرادة الشارع ومطلبيته الآخذة في التعاظم من جمعة إلى أخرى. فالحراك كما هو معلوم من ناحيته اللغوية يتصل بالدلالة بالإسقاط الواقعي بحالة الرفض للحاصل دون الإشارة للتحصيل، وهو ما مارسه الشعب بإتقان في رفض وإبطال العهدة الخامسة للعصابة المتخفية في طوايا وزوايا وسرايا الحكم في الجزائر، لكن التطورات التي حصلت والحقائق التي تعرت في ما بعد، بانكشاف جذور العصابة ومشروعها، والأيادي الداخلية والخارجية التي تحركها، والمساند القانونية والدستورية المحبوكة التي تنهض عليها، رفع من سقف مطالب الشعب، وانتقل به من حالة «حراكية» إلى حالة ثورية بمشمول لفظة الثورة في النطاق والمعنى. فهل تقف النصوص واللصوص في وجه المد الثوري العاتي؟ وهل عرفت التجربة الثورية الإنسانية في التاريخ السير وفق شروط القوانين والدساتير والمؤسسات والشخصيات؟
من هنا يتبين مدى الإخفاق النخبوي اليوم في مسايرة صناعة الخطاب السياسي والإعلامي الذي صار يغزو الأبصار والآذان ليغسل الأدمغة في طرفة عين، بفضل تطور وسائل الاتصال وتكنولوجيا التواصل الافتراضي.
فعمل الثورة المضادة لم يقتصر في استراتيجيته على جوانب السياسة داخل دهاليز التخطيط ومكر التكتيك، بل اشتغل أكثر على الجوانب المرتبطة بالتلقي للخطاب، مطنبا في محاولة التنويم اللغوي للشعوب الثائرة، بما يساعده على تجنب مقاصل الوعي الحادة التي يحملها الجيل الجديد، وحرص على أن لا تُفعل، وقد نال إلى حد ما سعى إليه. وفي خضم هول هذا الإخفاق المنهجي للنخب الثورية في تسيير حالة التمرد الشعبي على نطاقات اللغة، بوصفها استراتيجية حادة في الصراع الذي تفرضه نسقية الحرب مع الكولونيالية الجديدة، العابرة لحدود التاريخ والمتراجعة في حدود الجغرافيا، فُرضت على التجربة الجزائرية، كما أشرنا الاحتكام إلى الدستور مثلما فرض الأمويون على أنصار علي بن أبي طالب الاحتكام إلى القرآن لاستغلال تأويل عمل سياسي ميداني تاريخي ضخم ينصرم على مقدرة التأويل العقلاني، بطله الحقيقي اللص وليس النص!
ودساتير بوتفليقة المعدلة ثلاث مرات عبر عقدي حكمه المشؤومين ، إنما فُصلت كلها على مبدأ الاحتمالات الحامية لعرشه الجمهوري والعصبوي والعصاباتي، وليس لإدارة دواليب الدولة وفق أبجدياتها المؤسساتية التي رسمتها الحداثة السياسية بكل أبعادها النظرية والتطبيقية، فحكم بوتفليقة، عمليا كان إمبراطوريا بامتياز، سعى عبر عقديه إلى الارتكاس بتجربة الحكم في الجزائر إلى الوراء خمسين سنة، وقد رمز إلى ذلك النموذج المفضل لديه في الحكم حين أعاد الاعتبار لمن وسمهم خطاب السلطة الوطنية بالخطيئة والردة عن توصيات مواثيق الحركة الوطنية المؤسسة للدولة الوطنية القائمة على نبذ الجهوية وحكم الفرد، ونعني بهما المصالية والبن بلية، الموشومتين بالديكتاتورية والأحادية، فقد اعتذر باللفظ لابن بلة وأطلق اسمه على مطار وهران الدولي، واعتذر لمصالي الحاج وأطلق اسمه على مطار تلمسان، بسيماء من يقول أن ذلك كان في الحقيقة هو النموذج في الحكم المثالي الذي يليق بالجزائريين، وبالتالي فكل دساتيره كانت تحمل في نصوصها سيادة الشعب، إلا كما تحمل الأطباق بهاراتها وتوابلها، ذلك لأن كل مغاليق تلكم الدساتير كانت مفاتيحها في يد السلطة الفعلية وصداها التأويلي مفتوح، بحيث لا يعطي القدرة للحسم لكل تنازعات ومنازعات قرائية قانونية، وهو مصدر أزمة اليوم، طالما أن الثورة يمنع سيلها الممتد الآن من أن يجرف الكل، دستورا ومؤسسات وأشخاصا في الظاهر كما في الباطن. الجزائريون حاولوا أولا الاستثمار في الأحادية البوتفليقية لوضع حد لحالة التسيب وزرع القلاقل التي كانت السلطة الفعلية والاستخباراتية تسلكها، لتكريس سبب الاحتباس السياسي الذي فرض على الجزائريين، مذ تم وأد التجربة الديمقراطية الشهيرة والنموذجية في المنطقة سنة 1992، لكن مع توالي السنوات ضاق الكل بوعيه المتعاظم المتراكم بحكم بوتفليقة الفاسد المفسد ذرعا، وتمردت النخب والشعب، معلنة بصوت واحد، القطيعة الموضوعية والمنطقية في التاريخ مع التجربة البوتفليقية المفلسة من كل الجوانب، التي فرخت أشكالا مشوهة في صور الحالة الجزائرية بعدما مست بجينات جسد المجتمع الجزائري الذي أنجبته مواثيق الحركة الوطنية وبيان ثورة نوفمبر الخالدة عام 1954. وعليه فإن فرض دستور أهوش أردأ من كل ما سبقه من نماذج دستورية فُرضت على الشعب الجزائري، في ظل قدرة الوعي الكبيرة والتي تفوق بمراحل قدرة ذلك النص، إنما هي كمسعى لحشر قدم فيل في نعل صبي صغير، وبالتالي يمكن الجزم بأننا دنونا من حالة حسم جيلي بخصوص النصوص المفضية لولادة جمهورية جديدة، اللاعبون فيها كثر والشعب والنخب أمام تحد لا يقل عن تحدي جيل نوفمبر أمام غطرسة الاستعمار ومساندوه من القوى الخارجية، و»الحركي» وهي عناصر شبيهة بعناصر لعبة اليوم من حيث الأدوار مع اختلاف في الأشكال والأسامي ليس إلا.
كاتب وصحافي جزائري
الشعب كره من الفساد و المحسوبية. بلد غني و شعب فقير يعيش بلا أمل و أقلية بلا أخلاق ولا حشمة تعيش في بذخ و تُبذِّر موارده في التّفاهات. أمّا الدستور فالطبقة الحاكمة لا تحترمه إلاّ في خدمة مصالحها وباقي الأيام يعفسونه بنعالهم و يغيّرون مضامينه كما شاؤوا. بلدنا أصبح فعلا مُسيَّر من طرف عصابات و الأغلبيّة ضاقت بهذا الوضع المُلوَّث و امتلأت قلوبهم بالكدر والغضب لذا لم يحتملو و خرجوا إلى الشوارع