يمين ويسار

المكان المقصود اليوم هو مدينة تكريت، فيها قلعتها الأثريّة التي أنشئت قبل الميلاد، وعاشت فيها أقوام اختلفت فيهم القصص، وتعود أهميّتها إلى أنها المكان الذي شهدَ ولادة القائد صلاح الدين الأيوبي، عاش فيه يوما واحدا، هو يوم ولادته، قبل أن ينتقل به ذووه إلى الموصل. المعروف أن صدام حسين كان يعتزّ كثيرا بهذه المعلومة، ويهتزّ طربا حين تُذكر أمامه، فقد كان يأمل في أن يكون شبيهاً لهذا القائد لأنه من مواليد تكريت أيضا.
كان الفجر الشتويّ دافئاً وبارداً في الوقت نفسه، الدفء تحسّه من خلال الثياب الصوفيّة التي تُثقل خطوك، والبرد تشمّ رائحته في الهواء. دقيقة، وينعكس لديك هذا الشعور، فيضوع الصوف بشذاه اللطيف في أنفك وفمك، وتلسعك رياح صقيعيّة في وجهك، وأنت تسير وتُسرع طلباً للدفء، لتلحق بالباص الصغير التابع لإحدى شركات السفر، الذي سوف ينطلق في تمام السادسة.
من كان يمتلك الشّغف في قاموس الألوان يراها في الطريق العام بين المدن، حيث تمتدّ الطبيعة في لوحات تجريدية تمرّ سريعاً، التّعبير الفني الغامض في ألوان المغرة الحمراء والصفراء والأرجوانية، فيه من الجمال أكثر مما في لوحات أشهر الفنانين. تبدو اللوحة التجريدية في الأرض الخلاء فارغة ولا معنى لها، لكنّ الإنسان حاضر فيها مثلما في الموسيقى، وكانت هذه تصلني عبر جهاز التسجيل في الباص، أنغام لإلياس رحباني تشدو في الأذن وتشدو في القلب. ثم انتقل الجوّ داخل الباص سريعاً إلى كرنفال من الفرح الجماعيّ خلع فيه أعضاء الوفد السياحي (الكروب)، رجالاً ونساء، حياءهم وخفرهم فهم يصفّقون ويغنّون، وبلغت النشوة بالبعض إلى التمايل والرقص.
بعد حوالي ساعة من الحبور والسعادة، تصاعدت فجأة خشخشة من محرّك الباص، تحوّلت سريعاً إلى صليل وقرقعة طغت على أصوات التصفيق والغناء. ثم تباطأت سرعة الباص تدريجياً، وتوقّف. شخّص السائق العطل مباشرة، دون أن يغادر مقعده، بتعبير إن أردتُ نقله إلى الفصحى، قلتُ: «سكتَ قلبُ المحرّك». المكان الذي نحن فيه يقع عند منتصف المسافة بين بغداد وتكريت. وبعد مداولات بين ممثّلة شركة السياحة، وإدارتها عن طريق الهاتف، اتُّخذ قرار العودة إلى بغداد، وأسهل طريقة وأسرعها في هذه الحالة، هي أن ننقسم ونتوزّع في سيّارات تمرّ على الطّريق.
العجلة التي أقلّتني كانت تحمل جنديين من مدينتي الرمادي والحلّة، عائدين من وحدتهما العسكرية. السائق تكريتيّ، وأنا من «العمارة»، مع الشاب «سيف»، بعينيه الرقيقتين القلقتين وشكله الهادئ، بغداديّ وأحد أعضاء الوفد (الكروب) الذين فشلت سفرتهم بسبب عطل الباص. كانت الدولة العراقية الحديثة ممثّلة بكلّ مكوّناتها في المجتمع الصغير المكوّن من خمسة أفراد، تضمّهم كما لو في زجاجة مختبر، سيّارةُ هونداي موديل 2019 بيضاء اللون.
إحدى مساوئ السفر في السيارة الصغيرة أن المحيط الضيّق يجبر المسافرين على الكلام، ومن ثَمَّ التعارف، وبعد قليل يصبّ مجرى الحديث حتماً في السياسة. كان الفصل الأخير من حكم آل الأسد قد تمّ، وهرب بشّار مثل اللصوص من سطح الدار، ودخلت أضواء الكاميرات إلى زنازين سجن صيدنايا ومصانع الكبتاغون في بيت ماهر، وتكشّف جميع المستور تقريباً. ومثل من يُقارن بين القمل والقراد، انبرى أحدنا إلى تعداد الفروق بين حزب البعث في العراق وسوريا.
روى لنا السائق قصّة خرافية كأنها جرت في عالم ألف ليلة وليلة. حكم برزان التكريتي لمّا كان مديراً للمخابرات على امرأة شيوعيّة بالإعدام وهي حامل. التفّ الحبل حول الرقبة، وتدلّى الجسد وولدت المرأة في تلك اللحظة. تبرّعت إحدى العاملات في المكان بحضانة الطفل، وشبّ الولدُ وكبرَ وصار شرطيّاً. ثم دار الزمان دورته، وكان الشابّ يتدرّج في رتبته إلى أن بلغ المبنى الذي جرت فيه محاكمة برزان، برتبة ضابط. إنه يعرف قصّة أمه كاملة، وأقسم أن يأخذ الثأر من القاتل بتنفيذ الحكم عليه بيده. المعروف أن رأس برزان انفصل عن جسده بعد إعدامه شنقاً، وسقط على الأرض، كما لو كانت الآلة المستعملة هي المقصلة. انحنى الضابط على (برزان) وصاح: «هل تذكر رباب إبراهيم خلف؟». فتح الرأسُ المقطوع عينيه، وأغلقهما إلى الأبد.
هناك اعتراضات عديدة على القصة التي رواها سائق الهونداي، رغم أنه كان تكريتياً، أي من بلدة برزان، وأقسم مراراً أنها حقيقية. برأيي، التلفيق في الحكاية، إن حصل فعلاً، لا يبعدها عن أن تكون واقعيّة، فأكبر الكذبات في التاريخ تصير عن طريق تكرارها، وبمرور الزمن، حقيقة لا تقبل الجدل. ثم نشب خلاف بين أحد الجنديين والسائق حول طبيعة حكم البعث في العراق، والفرق بين نهاية صدام وبشّار، وتصاعد الجدل بينهما إلى بُعد خطوة من التصايح والشِجار.
أين مني ساعة الصفاء وسكينة الروح في باص الذهاب، عندما كان الجميع متفقين على شيء واحد هو السعادة، وبدل الموسيقى والغناء والرقص حلّ نقاش أجوف بين اثنين لا يريدان أن يفهم أحدهما عن الآخر، وهذا ببساطة تعريف الكلام في السياسة. حتى اللوحات التجريديّة التي كنتُ أتأمّلها من نافذة الباص اختفت الآن، وكانت تمنحني إحساساً قويّاً بالحياة، والوجود يكون معها مرئيّاً بصورة أخرى، بالإضافة إلى أنها تجعلنا نشعر بالحماية كأننا في معبد. نحن نعيش في عالم كلّ سرّ فيه لا بدّ أن ينفضح عاجلاً أم آجلاً، ويأتيك بالأخبار من لم تزوّدِ. روى الجندي الثاني ما قام به علي حسن المجيد (علي كيمياوي)، لمّا هجم الجيش في مراكب صغيرة (شخاتير) على قرية في هور الجبايش في أثناء الانتفاضة الربيعيّة (الشعبانية). فتّش الجنود الصرائف (بيوت من القصب) ولم يعثروا على أحد، لأن الجميع هربوا خوفاً من انتقام العسكر. ثم تعالى صراخ طفل رضيع تركته أمه في عهدة أخته الصغيرة لأنها كانت تساعد زوجها في العمل، وفرّت البنت مع الفارّين. عالم الهور مائيّ مئة في المئة، وكان علي كيمياوي جالساً في مركبه لمّا سمع صوت الرضيع، وأمر أحد جنوده بإحضاره.
حرّر ذراعَ الطّفل من قماطه، وراح يدوّره فوق رأسه، ثم رماه في الماء. التفت بعد ذلك إلى الجنود قائلاً، مبرّراً فعله الوحشيّ:
– عندما يشبّ ابن الأوغاد هذا يصير متآمراً مثل أهله.
إذا كانت حكاية برزان غير أكيدة، فهذه القصّة موثوق بها لأني سمعتها من أكثر من جنديّ كان بمعيّة علي المجيد. الحياة حافلة بالمكر والعنف ورذائل لا حصر لها، وكلّ هذا يصدر عن الجميع وتكون الحياة لا تطاق بسبب ذلك، ولكن عندما يقترف مسؤول رفيع في الدولة مثل هاتين الجريمتين، فإن إخلالاً كبيراً يحصل في روح البلاد. وحينما يبرّر بعض ناس البلاد (والأمّة أيضاً) هذا الاعوجاج في ضمير المسؤولين، لمجرد أنهم كانوا مستفيدين من النظام الحاكم، فإنهم لن يكونوا قادرين على رؤية العالم، دون أن يكون ثمة اعوجاج في طريقة تفكيرهم، الأمر الذي يفسّر تأخرّهم عن بقيّة الأمم، وهذه طريقة لطيفة لعدم القول إنهم مدفونون في حياتهم تحت التراب.
لأني عراقيّ، لا أستطيع الكلام بالتفصيل عن جرائم البعث في سوريا، وفي ما يخصّ بلدي، ما زلت أعمل على إنجاز كتاب يشرح آثار الحروب الخمسة التي سبّبها البعثيون في أقلّ من ثلاثين عاماً: حرب الخليج الأولى (1980-1988) والثانية (1990- 1991) والحرب الأهلية الأولى (الانتفاضة الشعبانية) والغزو الأمريكي (2003) والحرب الأهلية الثانية (2004– 2007). كان العراقيون يتنفسون طوال هذه السنين هواء مختلفاً، وينال كلّ منهم حصّته من العذاب.

بعد الإطاحة بحكم البعث عام 2003، راح قسم من البعثيين العراقيين ينعتون أنفسهم، كي ينأوا بأنفسهم عن جرائمه، بأنهم غير صداميين، فهم من جناح الحزب اليساري، مثل ذلك الذي حكم سوريا في عهد الأسد. أطلق عند ذاك صديق شيوعيّ نكتة عن حزب البعث بأنه مثل المسار الواحد، لا يوجد فيه يمين ويسار

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول كلام رصاص:

    الصورة لقب المسجد الأقصى في القدس وضعت بأمر الرءيس صدام حسين في مدخل مدينة تكريت للدلالة على أن القائد صلاح الدين الايوبي محرر القدس بمعركة حطين ولد في هذه المدينة.

  2. يقول بلي محمد من البيضاء المملكة المغربية:

    سطور متواضعة جد ا ادا سمحتم لنا مرة أخرى ندخل وعلى ظهر هد ا الموضوع الفني التاريخي عالم الفن الشاسع المتنوع جد ا شكرا لكم وكدالك الكاتب المحترم ثربة العراق خرج منها كتاب كبار في الشعر في التشكيل في الرواية في القصة في المسرح في السينما والموضوع زينته القبة القدسية التي وضعت بأتقان فوق الجسر ان صح التعبير شكرا

  3. يقول حسان:

    يا الهي يا الهي يا رفيع الدرجات
    نعم اتى علينا حين من الدهر لم نكن
    شيءا ..

  4. يقول مرزوق خنفر:

    رحم الله الشهيد صدام حسين كان المدافع الاول عن فلسطين.

اشترك في قائمتنا البريدية