بات اسم دكتورة ليلى سويف الأكثر تداولاً ربما، على مواقع التواصل الاجتماعي في مصر بين المهتمين بالشأن العام، حيث دخل إضرابها عن الطعام الممتد من سبتمبر 2024 مرحلةً صحيةً دقيقةً وحرجة للغاية، تنذر باحتمال مفارقتها للحياة في ما لاحظ صحافيٌ كبيرٌ وشهير بأنها ستكون “السابقة” في تاريخ مصر السياسي الحديث (على ما فيه) حيث يقضى مضربٌ عن الطعام في قضيةٍ سياسيةٍ عامة منذراً بأن ذلك سيكون فاتحةً، أو إيذاناً بتطوراتٍ ذات شأن.
لم أُجرِ إحصاءً (ولا أظن ذلك ممكناً ميسوراً في بلدٍ كمصر بظرفها السياسي) إلا أنني أزعم أن الغالبية العظمى والجمهور الأوسع إما لا يدرك ما يحدث، أو لا يلتفت إليه أو يعيره اهتماماً، كالمسرنمين يمضون في نفقٍ مظلم يثقل هاماتهم، بل يسحقهم، الغلاء المتزايد بوتيرةٍ مرعبة، وما يفرضه من خوفٍ، بل من هلعٍ من المستقبل؛ فالاهتمام بالمعتقلين يشكل أمراً هامشياً وترفاً لا يقدرون عليه، كما أنهم إذ يكابدون الجوع ويتهددهم الموت، لقصور ذات يدهم عن العلاج، لن يشغلوا أنفسهم بموت آخرين، خاصةً أن كثيرين يرونهم يدفعون ثمن اختياراتهم، ولعلهم يلقون عليهم باللائمة على ما صاروا يعتبرونها “كارثةً” و”مؤامرةً” لم تأتِ إلا بالخراب، فيرون في حبسهم وموتهم جزاءً وفاقاً مستحقاً.
هنا تكمن المفارقة المأساوية (أو أحدها على الأقل)، إن أولئك الذين دافع الناشطون عن حقوقهم لا يكترثون لمصائرهم البائسة، من موتٍ وتشريدٍ وضياع أعمارٍ في غياهب السجون. وددت ألا أبدو متشائماً وألا أُتهم بالقنوط، إلا أن الواقع السياسي والاجتماعي العام والخاص متردٍ وبائسٌ للغاية. كأي حدثٍ أو تطور تطرح محنة -مأساة الدكتورة ليلى سويف وعائلتها، خاصةً علاء عبد الفتاح ابنها، الكثير من الأسئلة مما يستحيل الإحاطة بها في مقالٍ واحد، أسئلة لعل أكثرها إلحاحاً على ذهني: لماذا كل هذه القسوة ومن أين أتت؟ وكيف وصلنا إلى هذه النتيجة؟ في 2019 كتبت مقالاً بعنوان “مقتل الأمل” إبان حملة اعتقالات شملت آنذاك الحقوقي والكاتب وعضو مجلس الشعب الأسبق زياد العليمي والصحافي هشام فؤاد، بدعوى تشكيل أو الانخراط في “تنظيم الأمل”، الذي يتستر على تمويل الإخوان المسلمين، وطرحت أسئلةً قريبة، ولما كان شيئاً لم يتحسن، بل ساءت الأمور فإن ذلك يؤكد تفسيري آنذاك. لا شك أن إخافة الجمهور، أو على الأقل كل من يصل إلى علمه خبر أحد المعتقلين، تشكل عنصراً مهماً في تلك السياسة، يقين البطش والتخويف والتيئيس المنهجي، ليتأكد كل من يفكر أو تسول له نفسه أن يعترض أو ينتقد، أنه سيلاحق ويحبس، في مصر لا توجد حقوق مضمونة ولا أي ضمانات من أي نوع، فليس هناك تعليم، أو رعاية صحية مضمونة، لكنك تستطيع أن تضمن وتراهن واثقاً على أن انتقاد السيسي سيوصلك إلى السجن. من ذلك أيضاً إيصال رسالة واضحة لا تحتمل لبساً: لقد تغيرت قواعد اللعبة، لقد كان مبارك “طرياً وناعماً ورخواً” نوعاً ما مع معارضيه، أما الآن فلا، وليس هناك أي قدسية للحياة البشرية، بل ليعلم الجميع أنها رخيصة للغاية، بلا ثمن لها، وحده النظام يساوي. لتترسخ صنمية الدولة والنظام ورأسه، أي السيسي بتصوراته وتوهماته عن الدولة، كل ما عدا ذلك لا قيمة له البتة..
ولا يتوقف الأمر عند “لا قيمة” المعارض، بل لا بد أن ينكل به ليشكل وسيلة إيضاح تردع الجهور الأوسع، ويروي غليل السيسي وآلة القمع المنفلتة التي تبغي الثأر والانتقام.
في مصر لا توجد حقوق مضمونة ولا أي ضمانات من أي نوع، فليس هناك تعليم، أو رعاية صحية مضمونة، لكنك تستطيع أن تضمن وتراهن واثقاً على أن انتقاد السيسي سيوصلك إلى السجن
في مصر السيسي ليس للمواطن أو الإنسان حقوق، بل واجبات أولها الصمت وهو مدينٌ بحريته وبحياته متى عارض النظام، كل ذلك لا يجري في الفراغ (اللهم إلا إذا كان الفراغ والتصحر السياسي) بل يستثمر في بلدٍ لم يزل يدفع ميراث التخلف الاجتماعي الطويل بنتائجه النفسية، حيث الحس المجتمعي ضعيف، وما كان قد أُنجز في مصر الحديثة، على استحياءٍ لن أنكره، عصف به استبداد العسكر. إن يناير لم تعرف ذروة مكتسباتٍ كالتي للثورات الكبيرة كالفرنسية والروسية، ربما كانت هناك آمال محلقة، لكنها لم تترجم لمكاسب اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية. لقد استثمر النظام دائماً في مستنقعات التخلف الاجتماعي والاقتصادي، في إبقاء السواد الأعظم في حالةٍ بائسةٍ من الجهل والعوز، يؤمنون بالله وقدرية وحتمية النظام، كما استثمر النظام في الفوضى والتدهور الاقتصادي، فانكفأ الجمهور الذي كان قد استعاد الشارع وتنكب عن الثورة والثوار.. تركهم لمصائرهم يواجهون النظام عُزل إلا من كلمة الحق ودواوين المظالم، فأناخ عليهم بثقله وسحقهم.. لم يُبق سوى حسرةٍ على شبابٍ ضاعت زهرة أعمارهم في أقبية النظام، وأسرٍ تمزقت، بينما يسبح أبواق النظام بالإنجازات، كل جريمتهم أنهم آمنوا ونشدوا وسعوا إلى غدٍ أفضل.
لا أجد شيئاً يعبر عن ذلك التمزق والانفصام، بالإضافة إلى بؤس الوضع أكثر من مطالبة البعض بخروج ذويهم واعدين بأنهم سيهاجرون بلا عودة ولن يفتحوا أفواههم مرةً أخر أو يطالوا النظام.. من الشائع أن الثورة تأكل أبناءها أول ما تأكل، لكن الثورات الكبيرة، على الرغم من الانتكاسات، عرفت مكاسب ولحظات مشرقة وأحياناً استمر بعض أبطالها، لقد عمل النظام على ألا يكون ليناير سوى الخسائر والتدهور.. كل أبطال يناير الحقيقيين أمسوا ضحايا، واستمر النظام والسيسي،
قد يرضخ النظام في اللحظة الأخيرة للضغط ويخشى الفضيحة العالمية فيفرج عن علاء عبد الفتاح الذي يحمل الجنسية البريطانية، لكن هناك عشرات الآلاف ممن لا يتمتعون بذلك، ولا يعرف بهم أحد سوى ذويهم والدائرة الضيقة من معارفهم، كابوسٌ بكل معاني الكلمة، لا أجد كلماتٍ أخرى تعبر عن الوضع الراهن.
كل ما آمل به أن استمرار وضعٍ كهذا مستحيل، خاصةً في منطقةٍ مشتعلة وظرفٍ عالميٍ متغير إن خدم النظام وأطال عمره ردحاً من الوقت فليس مضموناً على المدى الطويل.
كاتب مصري
رائع ان نتعطف وندعم ونقف مع المظلومين مهما كانت هوياتهم او عرقهم — وهو ما اتفق مع الكاتب المحترم —