من الأفعال التي حيّرتني صغيرا وحيّرتني كهلا أفعال المقاربة والشروع، حيرتني تلميذا لأنّي لم أفهم لماذا علينا أن ندرس هذه الأفعال؟ وحيرتني الآن دارسا مدرسا لماذا جمع النحاة بين أفعال لم تكن أو تهمّ بأن تكون أفعالا أخرى آخذة في الكون؟ قد يقول قائل إنّ السؤالين: سؤال شاب تلميذ، وسؤال كهل معلم لا يفيدان كثيرا. قد يكون لكنّ السؤال ليس في الإفادة من دراسة الفعلين أو في فائدة الجمع بين القبيلين من الأفعال؛ لكن في مشروعيّة التساؤل أصلا.
تعلمنا بعد دربة كأداء في العلوم التي خضنا فيها، متعلمين، أو مطلعين، أو معلمين، أنّ الأسئلة ليست على قارعة الطريق، يمكن أن تطرح كيفما اتفق ومتى عنّ لطارحها أن يطرحها. هناك دائما أسئلة مشروعة وأخرى غير مشروعة. هذه قاعدة في الكلام وفي العلم أيضا. لا أستطيع أن أسأل من سألني عن المحطة المقبلة عن اسمه ومن أين تأتي ولم سينزل فيها؟ التأدب يمنع هذه الأسئلة، لكن الثرثرة أو اللامبالاة بالسلوك القولي المجاني هي ما يمكن أن يجعل هذا السؤال ممكنا، لكنّه سيكون محرجا.
لماذا علينا أن ندرس هذه الأفعال؟ سؤال مشروع من جهة نظر المتعلم، وقد لا يكون كذلك من وجهة نظر المعلّم ولا من أعدّ الجهاز التربوي ولا البرامج الرسمية. فكر هؤلاء في أنّ مادة اللغة العربية عليها أن تضمّ في حصة النحو مسائل نحوية من بينها، أفعال المقاربة والشروع لأنّها ضرب من الأفعال ذكره النحاة في كتبهم وعلى المتعلم أن يعرفه. كيف يتعلمها؟ وما هي الطرق التي ينبغي بها أن يتعلمها؟ هما من الأسئلة التي تعني المدرس؛ وكما ترى فإنّها ليست أصلا من هواجس المتعلم. سؤال: لماذا علينا أن ندرس هذا بتعقيداته أو بسذاجته؟ هو سؤال يطرح دائما بين المت،علمين ولم يخصص المعلم ولا الجهاز التربوي برمته شيئا من الوقت لبيان نجاعة ما نتعلم. ربما يتركون ذلك للوقت، لكن حين يمرّ الوقت ويظل السؤال البيداغوجي ساكنا فيك ستدرك أنّ هناك بونا شاسعا بين ما تتطلبه الحياة وما تتعلمه في المدرسة.
قد نتعلم أنّ فعل المقاربة من نوع (كاد) هو فعل من الأفعال الناقصة التي تشبه كان وأخواتها، وأنّ خبر أفعال المقاربة يكون مؤلفا من مسند يكون فعلا مضارعا ومسند إليه فاعل (كاد الرجل يموتُ).
علمنا هذا وبتنا نعرف التصنيف، لكنّ هذا لا يغير شيئا نعلمه بالسليقة: أنّ الرجل في (كاد الرجل يموت) لم يمت. لقد شارف على الموت لكنّه نجا من موت، نجاة لن تكون أبدية. ربما تعلمنا المدرسة أنّ (كاد) لا تحتاج موصولا حرفيا مثلما هو شائع في قولهم (كاد الرجل أن يموت). لكن ما فائدة أن نتعلم ذلك في مجتمع يستعمل حرف الموصول في الكلام؟ هل سنصلح للناس الكثيرين وهم يلحنون؟ هل من دورنا أن نفعل ذلك؟ حين نسمع ذلك في كلّ مكان ربما استعملناه نحن بعد وقت ينسينا فيه رواج الاستعمال صحة القاعدة التي تعلمناها في المدرسة.. إذن لماذا أدرس أنا أفعال المقاربة والشروع، وأعلم أنّها بلا حرف مصدري والعالم كله حتى حماة اللغة الأشاوس يستعملونها؟
دعنا من أسئلة الأطفال ووجاهتها، ولنلامس العلاقة الإدراكية بين (كاد وأخواته، أوشك وكرب) وهي أفعال المقاربة؛ و(شرع وأخواتها، أخذ، طفق، بدأ) وهي أفعال الشروع. حين تقول (كاد الرجل يموت) لا بدّ أنّك بخبرتك في الحياة مع الموت والنجاة تعرف الحالات التي يمكن أن تستعمل فيها الجملة، كأن ترى سيارة متجهة إلى مترجل على الجسر، وليس له من مفرّ هو الذي يسير على الرصيف إلا انتباه السائق والقدر المحتوم؛ وينتبه السائق آخر لحظة ويغير بحركة ما، المقود فينجو الرجل من هلاك كان محتوما. تكون على الطرف الآخر من الجسر فتقول (كاد الرجل يموت). أنت قدّرت الوضعية التي كانت ستكون والموت الذي شارف عليه صاحبنا المترجل على الجسر لكنه لم يحدث. قد تقول له: (الحمد لله على السلامةǃ) وقد يقول لك: (أرأيت؟ كاد المجنون يَقتلنيǃ). أنت وصفت سلامة حادثة وهو وصف هلاكا كان سيكون. في وصف الوضعية نفسها يمكن أن أستعمل أفعال الشروع (أخذ السائق يقترب شيئا فشيئا من الرجل) و(وشرع الرجل يبتعد عنه) وأنا أعلم أنّ المقصود بأفعال الشروع: أنّ فاعلها يأخذ في فعلها قليلا قليلا. لكنّ الجملتين وإنْ كانتا نحويا مقبولتين من جهة الشروع في الفعل، فإنّ وضعية سيارة مسرعة ووضعية رجل لا يملك لوضعه شيئا مهما ابتعد، إذ هو على الجسر، لا تتناسبان مع معنى الشروع مثلما يدركه مراقب لمشهد الحادث الذي كاد يقع.
ربّما لو صورنا المشهد في السينما، وتحكمنا في المشهد بتقنية إبطاء الصورة لنتثبت الكيفية التي حدث بها فعل السهو عند السائق، والشعور بالهلاك الداهم لدى المترجل، لأمكننا الحديث عن شروع لأنّ الوقت يسعفنا وقتها. فتقول وأنت تتحدث عن لقطة من لقطات الفيلم: (في هذه اللقطة أخذ السائق يغفو) أو (في هذه اللقطة أخذ المترجل يبتعد) أو إذا ركزت على علامات وجهه تقول: (في هذه اللقطة أخذ الرجل يخاف).. الشروع يكون بيّنا في اللقطتين اللتين أبطأنا عرضهما على الشاشة، وإدراكنا للفعل وهو يصنع شيئا فشيئا، سيسعفنا باستعمال فعل الشروع استعمالا صحيحا من جهة استعمالها الدقيق، لكنّه لا يمكن أن يكون بيّنا في الواقع المرجعي، لأنّ سرعة الأحداث في الخارج لا تجعلك تركز الانتباه على ما يوحي بالشروع. في جملة أخرى من نوع (أخذت الجماهير تتدافع في باب الملعب) أو (شرع الجمهور في الحضور) فإنّ فعل الشروع الأول يعيّن متى بدأ الفعل ولا يعنيه نسقه، نسق التدافع، لكنّ المثال الثاني فيه تركيز على نسقية متريثة لحضور الجمهور بأعداد ما تفتأ تتكاثر. فعل الشروع هو فعل حادث كأوّل ما يكون عليه الحدثان، ويحكمه من الناحية الإدراكية، ضرب من سبر الحدث من جهة زمان إدراكه، لا يمكن أن يكون هناك شروع إلاّ إذا كان الحدث فيه تبئير إدراكي ممكن وملاحظ من جهة الزمان، حتى تعلم أنّ الفعل أوّل ما يبدأ به.
عليك أن تكون حاضر الإدراك لتلك البداية في سيرورة الحدث، أمّا والحدث متسارع من جهة إدراكه فليس له من حلّ إلا الإبطاء والرجوع به إلى أول وهلة وقع فيها، ليس كذلك الأمر في أفعال المقاربة: إنّها تكهّن وافتراض لحدث يعتقد المتكلم أنّه كان سيحدث. فهو من جهة إدراكه افتراضي وليس إنجازيا، هو كلياني وليس جزئيا. هذا الفارق التقابلي مهمّ بين أفعال المقاربة والشروع، لكنّ النحويين حين يجمعون بين الفعلين، إنّما يريدون توحيدا بين سلوك نحويّ متفق وراءه دلالات تقابلية إدراكية قلما كانت موضوع انتباه.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية