عبد الله لغمائد يرصد التحولات الهيكلية لـ”يهود منطقة سوس” في المغرب

تكونت ثقافة وهوية الجماعات اليهودية المغربية عبر أزمنة طويلة، امتدت قرونا، تأثرت فيها بالمحيط الجغرافي المحلي وطبيعته الاجتماعية والثقافية، كما أثرت فيه كذلك، خاصة على المستوى الاقتصادي، وبتفاعل المعطيات المحلية التي عرفتها مناطق المغرب مع الأوضاع السياسية الخارجية، سارت الأحداث خلال بداية القرن الماضي، في اتجاه فصل الجماعات اليهودية عن محيطها الجغرافي، وعلى هذا الأساس قام الباحث عبد الله لغمائد في كتابه «يهود منطقة سوس 1860-1960 دراسة في تاريخ المغرب الاجتماعي» بتقديم دراسة غطت قرنا من حياة يهود سوس، حيث اهتمت بفترة القرن التاسع عشر، كضرورة منهجية لتفسير أسس البنى التقليدية، مرورا بفترة الحماية، وانطلق في موضوعه من كون يهود منطقة سوس اتخذوا دورا ثانويا في المشاريع التي استهدفت الجماعات اليهودية المغربية، رغم احتضانها لملاحات كثيرة كان لها دور بارز في منطقة الجنوب الغربي. ومن خلال هذه الرؤية وجه الكاتب إشكالية البحث إلى الغوص في عمق حياة تلك الجماعات قصد كشف الأسباب الثاوية وراء ذلك الاهتمام المفاجئ الذي وجهته الوكالة اليهودية عقب الحرب العالمية الثانية إلى ما كانت تطلق عليه بملاحات البوادي.
وقد قسم الباحث بحثه إلى قسمين: الأول يتناول حقبة ما قبل الحماية، وهو في أربعة فصول تركز فيها الاهتمام على أماكن وجود الملاحات في المنطقة والبنيات الاقتصادية والاجتماعية لساكنتها، والتوزيع الجغرافي لليهود في سوس وتطور بناياتهم الديمغرافية، ومكانتهم داخل النشاط الاقتصادي المحلي، وتفاعلهم مع السلطة المخزنية والتنظيمات المحلية.
وجاءت هذه الفصول الأربعة لتسلط الضوء على وضعية يهود سوس قبل القرن التاسع عشر، انطلاقا من تحديد مجال سوس الجغرافي أولا، ثم محاولة تحديد الأصول القديمة ليهود المنطقة وعلاقتهم بالفينيقيين الليبيين، وطبيعة وضعهم في ظل السيطرة الرومانية على شمال افريقيا، وصولا إلى فترة تركيز المسيحية وإلى بداية الفتح الإسلامي للمغرب، ثم إلى غاية الفترة ما قبل الحماية الفرنسية. وإن التطورات التي وقعت خلال تعاقب الأحداث ما بين منتصف القرن التاسع عشر، وعهد الحماية أولى لها المؤلف أهمية خاصة، وذلك لتفسير التحولات العميقة التي طالت الجماعات اليهودية في سوس، تلك التطورات التي أدت إلى تلاشي دعائم التعايش الذي وسم طيلة عدة قرون العلاقات بين المسلمين واليهود، وعليه فإن الكاتب رصد أهم الوقائع السياسية، التي شكلت أساس الصدمة التي أصابت الجماعات اليهودية خلال تلك الفترة حتى يتمكن من تفسير الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي هيأت الطريق وفسحت المجال أمام عمل المنظمات الصهيونية وسط يهود المنطقة، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية. وعلى أساس ذلك فقد خصص الباحث القسم الثاني لفترة الحماية والسنوات الأربع التي أعقبت الاستقلال، حيث عمد إلى تفسير التحولات الهيكلية التي طرأت على الجماعات اليهودية، مبينا أن المناطق الريفية الواقعة في الجبل تأخرت في خضوعها للحماية، ولهذا شكلت الساكنة اليهودية التي كانت موجودة في تارودانت وأكادير، أهم الجماعات التي شهدت عمليات التغيير بمجرد استقرار الفرنسيين في المنطقة، أما بالنسبة للتي كانت بعيدة عن المراكز، فقد تلقت اهتمام اللجنة المركزية للرابطة الإسرائيلية العالمية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ثم اهتم بها بعد ذلك ناشطو الحركة الصهيونية قبيل الاستقلال وبعده.

الجماعات اليهودية تعاملت مع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي واجهتها بنوع من الصمود، في الوقت الذي استغلتها المفوضيات الأوروبية والأمريكية والجمعيات اليهودية الأجنبية، لتقوم بتوسيع نفوذها وسط يهود المنطقة.

ومن خلال هذا القسم الذي عنونه بـ«من اختراق الجماعات اليهودية وملاحات البوادي إلى الاجتثاث والتهجير1912- 1960» قدم الكاتب في فصوله إضاءات مهمة للوضع الذي زامن هذه الفترة، فترة الحماية، التي استمرت في بدايتها العلاقة التقليدية بين اليهود والمسلمين، مع ظهور التذبذب في مجال التجارة التي كانت المجال الاقتصادي الذي مارسه اليهود لقرون عديدة، ثم بين منطلقات اختلال التوازن بين الفئات وسط الجماعات اليهودية وما ساهم في تحوير المؤسسات نحو اجتثاث الأفراد، حيث أن الأحداث السياسية المتعاقبة خلال الثلاثينيات من القرن العشرين أدت إلى تحوير المؤسسات التنظيمية التي تهيكلت في المراكز، وكان لها دور داعم في تقوية الإحساس بالجماعة اليهودية، فصارت تلك المؤسسات مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية أداة استغلتها المنظمات الصهيونية لبث أفكارها في صفوف اليهود. وكانت ملاحات سوس (سرد الكاتب بشكل تفصيلي الحياة اليومية لليهود في هذا الوسط الاجتماعي ونظمه المهيكلة) قد وضعت منذ بداية الخمسينيات في إطار التجمعات القروية التي توجهت إليها الأنظار من طرف حركات التهجير، ونتيجة لحصيلة تراكمات تاريخية عديدة والتطورات المتسارعة، التي وقعت في ظل الحماية، بدأت ساكنة البوادي توجه أنظارها إلى فضاء المدينة كأفق للعمل والبحث عن أساليب عيش أفضل. وقد تضافرت هذه العوامل مع الانطلاقة المكثفة لسياسة التهجير، فوظفتها المنظمات الصهيونية النشيطة آنذاك على التراب المغربي من زاويتين، إذ في الوقت الذي كانت تركز على التدخل وسط تلك الجماعات من باب الرعاية الاجتماعية، وإعداد الأطفال للتربية والتعليم الموجهين لخدمة إسرائيل في عين المكان، كانت تقوم بتنظيم هجرات انتقائية للأفراد لحساب المنفعة الآنية؛ التي كانت تتطلبها السياسة المتبناة في إسرائيل، (حيث أن الهجرات كانت من أجل تعمير المستوطنات الجنوبية في الأراضي الفلسطينية) وباشرت جهودها باتخاذ الإجراءات لتسريع ربط اتصالاتها المباشرة مع كثير من الجماعات اليهودية في سوس لتهيئ أفرادها لقبول الدعاية الصهيونية، تحت غطاء تشييد المدارس في أفق تهجيرها.

واشتدت بعد الاستقلال رغبة الحركة الصهيونية، التي كانت قد مهدت الطريق إلى إتمام عملية التهجير في الملاحات الصغرى النائية، وأخليت الملاحات المتبقية بشكل فجائي، وتم تهجير سكانها سريا إلى خارج المنطقة في اتجاه إسرائيل. وإذا كانت هذه التطورات ومجريات التهجير قد جاءت متسارعة لدرجة يصعب معها تتبع آلياتها بشكل دقيق، فإن بداية اقتحام المنطقة وخضوعها للتطورات الخارجية، انطلقت منذ مستهل القرن العشرين. ورغم أنها لم تشمل سوى مجالات محدودة التأثير، فإنها مهدت لكثير من التحولات التي استغلتها المنظمات الأجنبية في فترة الحماية لبث أفكارها في صفوف الأجيال الجديدة. ويذهب مؤلف الكتاب إلى أن انهيار القوة الاقتصادية لتجار السلطان في بداية القرن العشرين، بسبب الأزمات الاقتصادية والسياسية المتتالية التي شهدها المغرب، ضربت في العمق أسس التجار اليهود ودعامتهم الاقتصادية في منطقة سوس، وبعد أن كانوا يعتمدون على عائدات التجارة الصحراوية والمتاجرة مع الصويرة بأموال التجار الكبار المستقرين فيها، تقلصت الموارد التجارية للكثير منهم، فانحصرت علاقاتهم في مجال سوس في القيام بالبيع التجوالي المحدود إلى جانب مزاولتهم لخدمات حرفية مرتبطة بالاقتصاد المحلي.
إن الجماعات اليهودية تعاملت مع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي واجهتها بنوع من الصمود، في الوقت الذي استغلتها المفوضيات الأوروبية والأمريكية والجمعيات اليهودية الأجنبية، لتقوم بتوسيع نفوذها وسط يهود المنطقة.
كما تعرض هذا الكتاب أيضا لمظاهر التحولات الثقافية التي عرفتها الهوية اليهودية، حيث تجلت في التخلي التدريجي عن اللباس التقليدي، خلال فترة الحماية الفرنسية، حيث تغير نمط اللباس ليس فقط في مكوناته وإنما أيضا في شكل تأثره باللمسة الحضرية، وتجلت كذلك مظاهر التحول في استعمال اللغة الفرنسية في مجال الحياة العامة والخاصة.
لقد قدم هذا الكتاب صورة كافية عن الأوضاع المادية والمعنوية لجماعات يهود سوس ومكونات هويتها الثقافية، وما رافقها من تحولات عميقة، وذلك بدراسة فترة زمنية محددة، لم يركز فيها الباحث فقط على الوقائع التاريخية الكبرى، بل تجاوزها بسبر أغوار الأحداث المتعاقبة، وتحليل أكبر قدر من المعلومات والمعطيات المتعلقة باليهود المغاربة، سواء منها المتضمنة في ثنايا المصادر والوثائق والمراسلات المخزنية، أو الواردة في مختلف التقارير الدبلوماسية الأجنبية، وذلك بهدف كشف سياق تطور الأوضاع الخاصة بجماعات اليهود المغاربة.

كاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية