على الرغم من الانفتاح الحضاري الذي شهده العالم في عقوده الأخيرة، وما فرضته العولمة كما يقال عنها بتحويلها العالم لقرية صغيرة؛ وبالإضافة إلى ثورة المعلومات التي سمحت بتشارك التجارب ونتائجها في كافة المجالات، ولا يُستثنى منها المجال الثقافي؛ إلا أن ما نعيشه من واقعٍ للفن في عالمنا العربي يجعله استثناءً؛ حيث أن الفن هنا لا يملك الشجاعة على الخطو بثقة نحو فنون ما بعد الحداثة – ظهر مصطلح ما بعد الحداثة في الغرب بعد الحرب العالمية الثانية، حيث كان الانتقال من الصناعة إلى التكنولوجيا الحديثة، يقول مالكولم برادبري الأكاديمي والروائي البريطاني «إنّ مصطلح ما بعد الحداثة يقصد به النتاجات الفنية التي جاءت بعد الحرب»، وهذه النتاجات تتضمن عدة فروع: كالفن المفاهيمي، فن الأرض (البيئة)، فن الغرافيتي وفن الأداء، الدادائية المحدّثة، فن الجسد. وإن ما يُنتج من تجارب في هذا المجال ما هو إلا تجارب فرديّة لفنانين أرادوا ارتياد قطار الفن وآثروا المغامرة على البقاء في محطة تملؤها اللوحات والتماثيل، ولا تعترف أحياناً بغيرها صيغاً فنية، وهذا بالطبع ليس إنكاراً للقيمة الفنية والاستطيقية للوحات والمنحوتات، ولكن الفن حالياً تجاوز فردانيته وأصبح تفاعلياً، إذ أن المتلقي الآن يساهم في صناعة المنتج الفني بشكلٍ من الأشكال، لم يعد الفن مادياً ملموساً فقط، بل أصبح يعظّم الفكرة ويسخّر لأجلها شتى أنواع الفنون والتقنيات الحديثة في عملٍ واحد؛ لذا كان من الضروري توسيع مفهوم الفن في أذهان المتلقين لتستوعب الصيغ كافةً، وليس فقط في أذهان الفنانين والأكاديمين والنقاد، الذين وسعوا هذا المفهوم (معظمهم على الأقل) وإن كانوا لم يمارسوه فقد حاكموه، سلباً أو إيجاباً حسب نوعه ومدى قربه من البيئة الاجتماعية والثقافية والمرجعية الفكرية التي ينتمون إليها، وأحكام القيمة هنا لا تعني شيئاً في الفنون الإبداعية.
العمل تجربة سمعية بصرية عن توسع الوقت واكتشاف حدود وأفق العالم اليومي للطفل الذي يبقى مسكونا فينا ولا يغادرنا.
إذن فنون ما بعد الحداثة مازالت في مكانٍ آخر، مغلق الأبواب، نتجسس عليها من الثقوب التي فتحها الإنترنت أمامنا تارة، ونفتح أبواباً تارةً أخرى، كما فعل السعودي يوسف الحربي عندما اقترح إقامة ملتقىً للفيديو آرت في جمعية الثقافة والفنون التي يديرها في الدمام، حيث أن فن الفيديو أو(فيديو آرت) يُعتبر أحد أهم فروع فنون ما بعد الحداثة، فقد ظهر فن الفيديو كفن مستقل في أواخر الستينيات، مع انتشار ثقافة الصورة وتطوّر السينما، إلا أن أفلام الفيديو آرت ليست فيلماً سينمائياً، إنما هي فكرة مكثّفة ومختزلة تعكس التناقضات والتعقيدات المحيطة بنا؛ تستفيد من التقنيات الحديثة لعمل المونتاج، وإضافة ما يلزم من مؤثرات تعطي لفيلم الفيديو آرت هويته الخاصة، بما يتوافق مع فكرة العمل والمادة المصوّرة (سينمائياً، رسوما متحركة)؛ وتنتمى نتاجات هذا الفن إلى اتجاهات الفن الكلاسيكي ذاتها (التجريد السيريالية الواقعية، المفاهيمية، التركيبية، والتفكيكية)؛ فكان ملتقى الفيديو آرت هذا ملتقىً دولياً للفنون البصرية المعاصرة المختصة في الصورة والفيديو، عرضاً ونقداً، في محاولة لطرح فكرة فنون ما بعد الحداثة أمام الجمهور.
ضمّ الملتقى الذي استمر أحد عشر يوماً من 20 حتى 31 ديسمبر/ كانون الأول 2018، تجارب متنوعة (35 مشاركة) لـ18 دولة عربية وأجنبية (فرنسا، البرتغال، الأرجنتين، اليابان، الصين، سنغافورة، إيطاليا، اليونان، إفريقيا، المغرب، الإمارات، فلسطين، عُمان، الكويت، السعودية والبحرين صاحبة أكبر عدد من المشاركات بعد مصر) وهنا لمحة عن بعض التجارب التي شاركت كما ذكرها مدير الملتقى يوسف الحربي:
* «تحوّلات» عمل لآنا باروسو من البرتغال وهي تصورات فكريّة وفلسفيّة في صورة متداخلة تبحث في المكان بين الماضي والحاضر وتشابكاته من خلال ميتافيزيقا التصوير وإثارة الحواس ودمج الصوت للبحث عن الفكرة ومسارها الذهني.
* «يوم في غرفة نوم لوري إيفيان» عمل لكوستاس ماكينوس يوناني مقيم في سويسرا
العمل تجربة سمعية بصرية عن توسع الوقت واكتشاف حدود وأفق العالم اليومي للطفل الذي يبقى مسكونا فينا ولا يغادرنا.
*»طالما أستطيع حبس أنفاسي» عمل لمحمد ثائر من المغرب
فيديو تجريبي عن غرق سفينة مهاجرة جنوب جزيرة لامبيدوزا الإيطالية مع إعادة تأليف صوتي مرئي من غرق السفينة يظهر شريط فيديو مركب لطيور مهاجرة حيث يجمع علاقة الهجرة في الطبيعة، ورغبة البقاء كاستمرار جمالي والهجرة غير الشرعية وما يتجمع فيها من دراما ومعاناة إنسانية.
*»الرقص مع الظلال» عمل لنجوم الغانم من الإمارات، عملها تمازج الرمز والعلامة السمعية البصرية، تندفع نحو المفاهيم بدقة الأسلوب التجريدي وفكرة التعبير الجسماني والأداء الفني، وكأن العمل يعكس انفلات الريشة بالألوان في فضاء الطبيعة على لوحة كلاسيكية ترتحل بين المشاهد الطبيعية المختلفة لتصل الأرض والسماء بعناصر ملونة وأبعاد ضوئية ذات حركة غالبة على المشهد.
*»اللحن الأحمر» عمل لمها المنصور من الكويت
العمل يعكس جدلية الذات والوجود الثبات والحركة النضج والطفولة اللون وانعتاق الضوء من العتمة، الانتظار وانفلات اللحظة من الساعات، انعكاسات تجريبية في الأداء المكثف والشخوص الفاعلة في لحظات التذكر واحتمالات الوجود، يطرحها الفيديو بتناغمات تقرب الصورة من المشهد السيريالي في الفكرة التشكيلية.
*»لا مقطوعة ولا ممنوعة» عمل لمها سعيد مطران من السعودية؛ عمل تركيبي رمزي يثير فكرة الوجود والخلق وعلاقة المخلوق بالخالق.
*»الحياة ليست إلا ظلاً يمشي» عمل لرامية بلعادل من المغرب؛ عمل وجودي واقتباس تصورات أدبية خالدة لمحاكاة الوجود والحضور وطرح إنسانية الاندماج،
٭ شاعرة سورية