حصل اللقاء في المدينة الفاتنة.. الأول قال بالصدفة، والآخر اعتقد بتدابير الآلهة..
قُدِّر للحي اللاتيني في باريس ملتقى رواد وعشاق الفنون والآداب، استضافة لحظات ثمينة ليوسف الحويك، ومحطة ملتفعة بالضباب في حياة جبران خليل جبران «لم يتسنى لغير الحويك استكشاف أسرارها وتحسس خلجاتها» حسب تعبير الأستاذة الأديبة والشاعرة اللبنانية أدفيك جريديني شيبوب محررة كتاب «يوسف الحويك – ذكرياتي مع جبران» – باريس 1909- 1910.
القلب الرحب ليوسف الحويك تدفق بالشدو نحو أدفيك جريديني لتدون ذكريات ثمينة ونادرة، فيها جمالية حوارات فكرية حرة، وإلقاء الضوء على تصرفات شابين في ربيع عمريهما، بالإضافة لمهارة الكاتبة في ضبط إيقاعات تسلسل الأحداث، وتحديد الأماكن، ورسم سيناريوهات لشخوص سجلت حضوراً في الحياة اليومية لجبران والحويك في تلك السنتين، ومتابعة الأعمال الإبداعية لمعاهد الفن، واللغة الشعرية المعبرة.
ويعتبر هذا الكتاب وثيقة أدبية نادرة، ويعود السبب في ذلك لأدفيك التي نجحت في نبش ذكريات رائد فن النحت في لبنان يوسف الحويك:
«أغمض عيني الآن وما أسرع ما تتمثل صورة جبران في خاطري: بابتسامته الحنونة ورنة صوته الدافئ وحركة يده المعبرة، وأصابعه
المتسائلة أبداً. وكأنني وإياه سائران في طريقنا إلى حديقة اللكسمبورغ.. نعرج إلى الشمال ونجلس على السطح المشرف على القصر، وعلى قسم من الحديقة، كأنني الآن أسمع صدى جبران في أذني».
تبدأ أدفيك جريديني في رسم صورة وصفية لشابين في مقتبل العمر: «جبران الحالم العينين، نحيف البنية المتبرم بظروف عيشه القاسية، تتنازعه عوامل القلق، وتضج في رأسه واحات بكر من الاكتشافات الفكرية، والمشاعر الرهيفة.. ويوسف المستقيم الجسم المشرق العافية يحب المرح البريء وعشرة الناس، يتناول الحياة من دوربها السهلة، سخي الكف ليس للمال عنده قيمة.. والصديقان على تفاوت طبعيهما متفقان على الأناقة وكبر النفس».
في مطعم صغير في حديقة اللكسمبورغ، تعارفا إلى صاحبة الوجه المشرق ذات العينين العسليتين والشعر المائل للشقرة.. الآنسة أولغا من سيبريا ـ تومسك تدرس الآداب الفرنسية والموسيقى، وقد وصفت تعارفها بالحويك.. حقيقة أشبه بالحلم. الفتاة السمراء سوسان، وأختها الصغرى المائلة للشقرة ليّا يهوديتان من رومانيا، ونسيبهما الوسيم كالمي صاحب المكتبة الفنية التي تم التعارف فيها.. المكتبة تتوسط معاهد الفن، وتضم كتبا ومجلات ولوحات الرسم. حفل مقهى (لو دوم) بيوسف وجبران وسوسان وليّا وكذلك الدكتور كسپار وهو شاب بلجيكي مهتم بالنظريات العلمية، وصديقته الآنسة مارتين، ومونكدا صاحب أطول لحية شاهدها الحويك في حياته، وهو من أصل إيطالي إسباني، ويحمل ثقافة سياسية واسعة.
مقهى (لو دوم) ملتقى فكري لكل الآراء، وفي هذا المكان ولدت أفكار كبيرة، وبإمكان أي شخص التعبير عما يعتقد به بحرية مطلقة، وفي لحظات الحرية كان جبران يتأمل مستقبل التفكير في الشرق: «إن للكتب تأثيرها في تكييف حياة الشعوب. والأدباء والمفكرون يستحثون الشعب على التفكير. مع فولتير وروسو ابتدأت فرنسا تفكر ـ حتى نابليون لم يتمكن من منعها عن التفكير.. متى يا ترى تحدث الأعجوبة في الشرق؟ متى ومع من يبدأ الشرق بالفكر؟». بعد مرور 110 أعوام على تلك العبارات التي دعا إليها جبران، مازال الشرق يتطلع إلى التجديد، وإلى آراء فكرية حرة ترتقي بالمجتمعات، وللأسف الشديد ما زالت أدران التخلف المتكلسة عالقة في سلوك بعض الكتل البشرية، التي لا تسمح بالتغيير.. ترى كيف ستكون ردة فعل جبران إذا عاد إلى الحياة مرة ثانية، وشاهد أسوار (باستيل) الشرق قائمة؟
لمتحف اللوفر نصيب في تلك الرحلة فكان الصديقان يذهبان كل يوم أحد ويقضيان وقتاً طويلا بين التماثيل واللوحات، ويتأملان ويفكران في أسرار الفنون والحضارات..
كان جبران يمتلك تفكيرا حرا في الفن، وأعلن رأيه بكل جرأه عن عدم تذوقه لفن المعلم (لورنس). وفي معاهد الفنون الحرة التقيا بالمعلم الفنان رودان، والإيطالية كاترينا مديرة معهد (كولاروسّي) سيدة واسعة الاطلاع وتتفرس في عيون الطلاب وتتعرف على ما يجول في خواطرهم، والإيطالية الآنسة روزينه التي لقّبها جبران برفيقة روح بوتشللي «الموديل» التي رسمها جبران نصف عارية، محمولة على أذرع الملائكة، وقد حملت اللوحة اسم (الخريف 1909)، وصديقتها مارغريت الراقصة في (المولان روج) مع الراقصة الأمريكية الشهيرة أزيدوره دنكن، ويذكر الحويك تلك اللحظات «على وقع الموسيقى رقصت روزينا مع مارغريت، وتهادى جسداهما المرمريان كعواميد الأكربول، تارة في ثياب يونانية قديمة، وطورا في ملاءة شفافة غنوج، تضفي على الجمال النابض مسحة مقدسة، كنت وصديقي جبران نستغرق حيالها في تأمل وخشوع».
نبل جبران غمر روزينا حين أهداها سلسلة وأساور فضية، كانت تود أن تقبل يده، ولكن الحويك أشار عليها أن تقبل جبران على خده.. وفعلت، وما كان من جبران إلا ان تخضبت وجنتاه بالدم، بدون أن يجرأ على إعادة القبلة «لقد كان حييّاً يجيد فنون الغزل فقط في الكتابة والكلام» – على حد تعبير الحويك.
العاشر من إبريل/نيسان ذكرى رحيل جبران، ولكن شبحه حائم يطوف في الحي اللاتيني واللوفر والمكتبة ومعاهد الفن، يشاركه يوسف وأولغا وسوسان وليّا وكالمي ورودان وكاترينا وروزينا وسواهم، ومازالت أصداء عبارات جبران تلهو مع الآلهة «هنيئاً لمن يسير على ضفاف نهر السين، متأملا صناديق الكتب العتيقة والرسوم القديمة».
٭ بغداد
مقالة رائعة كسابقاتها عشت أستاذ نجم الدراجي
جبران والحويك وإدفيك وعاصمة النور والجمال باريس..
حكايا من عالم شاعري ساحر وأيام نفتقد مثلها وبشر أشبه بأبطال الروايات.. كم تمنيت لو كنت في ذاك الزمن وتسكعت معهم وسط الأفكار المتطايرة في الحي اللاتيني..
مقال محرض على القراءة أكثر والتعرف على أدبائنا عن كثب
بالرغم من سنين عمر جبران خليل جبران القصيرة ، لكنها كانت عميقة وغنية بالأنتاج والأبداع الفني والأدبي لأنه استثمر وقته وطاقته في عمر مبكر وكان منذ طفولته مختلف عن الآخرين . أنه عالم جبران ، مهما تعمقنا فيه ، يأخذنا الى عمق آخر . القليل ممن يعرف أن جبران كان فنان قبل أن يكون كاتب وشاعر وفيلسوف والسبب هو انه اشتهر أكثر بكتاباته وشعره ، لكن أن جبران له الكثير من اللوحات الفنية والرسومات موزعة في المتاحف فيما بين لبنان و أمريكا .
إختيار ممتاز من الأستاذ نجم الدراجي و بأسلوبه المميز نقلنا الى روح و جمال اجواء باريس الفنية التي جمعت فيها خليل جبران ويوسف الحويك وغذت روحهم المتعطشة للفن ، ويبدو فعلا ان هذا الكتاب الوحيد النادر الذي يدٌون فترة مكثهم في باريس ، كذلك أيضا تعرفنا في المقال على الأديبة اللبنانية أدفيك جريديني شيبوب التي قدمت للمكتبة الثقافية هذا الكتاب القيم الثمين بمعلوماته.
في مقالك يوسف الحويك: ذكرياتي مع جبران ، في قراءة لكتاب الأديبة ادفيك جريديني شيبوب في لقاء تها الادبية ، جمعت بين أهم ثلاث شخصيات أدبية وفنية من لبنان ، حويك الرسام والمحلات ، جبران النبي وادفيك شيبوب التي كنا في طفولتنا نسير على خطى اخوتي بالإستماع إليها كل صباح بالإذاعة اللبنانية حين كانت تقرأ الشعر مصاحبة بأغاني فيروز وموسيقى الرحباني ، أضفت عليه من رصانة اختيار المقاطع وعملية الربط بكل جماليتها لتعطي هذا الكتاب حقه ، وزرت الأمكنة التي تواجد ابطال مقالك بها في باريس الفاتنة ، لتكن الضيف الرابع في مقهى لو دوم الملتقى الفكري لكل الأفكار ، وذكرتنا ، أن بعد ١١٠ سنة لا يزال الشرق يتطلع إلى التجديد والى آراء فكرية حرة ترتقي بالمجتمعات ، للاسف ،فعلا للاسف استاذ نجم ، نجد العقول المفكرة تهاجر يائسة وتنضب هذه الأرض من مبدعيها ومحركي أطر التغيير لقلة فرص ظهورها وبالتالي قمعها
مقال قيم ، أظهرت به معاناة هذا الشرق بعد كل هذه السنين الذي مزقته الصراعات الدينية والحروب والتكالب على التبعية و السلطة والمال … إن عاد جبران ، لن يسمحوا له سوى بالرجوع إلى حيث كان لأن الشرق لا يتحمل من ينادي بحرية وقد اختار تبعية العصبية الدينية والحزبية …
شكرا لك استاذ نجم مقال قيم
تحياتنا استاذ نجم الدراجي ;الموضوع مهم عن جبران خليل جبران .قرأت كتاب عن حياة خليل جبران وهو كتاب ممتع جدا كتبه ميخائيل نعيمه وكان صديق لجبران .وايضا قرأت كتاب عن حياة جبران خليل جبران قبل عشرين عام استعرته من المكتبة العامة في مدينة دن هاخ ،عنوان الكتاب هو; جبران خليل جبران نبي وعصر للكاتب البريطاني روبن ووترفيلد.وهذا الكاتب زار لبنان و التقى بابن شقيق ميخائيل نعيمه .الكتاب مهم جدا يتألف من ٤١٤ صفحة و فيه بعض الانتقادات لجبران ,ولا اعرف يا استاذ نجم اذا كنت قد قرأت الكتاب؟لكن موجود ملخص الكتاب على النت.اذا طبعت او كتبت في الوكيبيديا جبران خليل جبران نبي عصره للكاتب روبن ووترفيلد. ستظهرلك الصفحة عن الموضوع.مع كل التحيات.
الشكر الجزيل لحضرتك استاذ
Ahmad/Holland
شكرا جزيلا لحضرتك وسأتابع اراء الكاتب البريطاني روبن ووترفيلد .. عالم جبران واسع وعميق ويستحق البحث والتنقيب .. تقبل تحياتي وتمنياتي
نجم الدراجي – بغداد
الشكر والتقدير لادارة صحيفة القدس العربي الغراء لنشر هذا المقال ..
محاولة الكتابة عن عالم جبران مهمة صعبة ، والسباحة في فضاء الانسان الحالم والفنان والشاعر والكاتب والفيلسوف تكشف لنا كنوز ثمينة ، وفي هذه اللحظة السعيدة من عالم جبران أود أن اقدم الشكر والامتنان للاصدقاء الرائعين الذين امطروا هذا المقال بالافكار والاراء السديدة ..
الاخ الاستاذ ماجد محمود ماجد مصطفى ، الاخ الاستاذ عمرو مجدح ، الاخت الاستاذة التشكيلية أفانين كبة ، الاخت الاستاذة الدكتورة فاطمة هاشم ، الاخ الاستاذ أحمد ، الاخت الاستاذة شكرية الدوس ولكل القراء والمتابعين
تحياتي
نجم الدراجي – بغداد
في عمر ما وبعد أن قرأت حصة كبيرة من نصوص جبران، كتبت في مفكرتي(جبران قديس وإن لم تطوبه كنيسة)
ستبقى الأجيال تردد نصوص جبران، فقد كتبت لتكون خالدة..
المقال صورة جميلة ليوميات جبران الإنسان والفنان، ويوسع معرفة القارئ بمحيطه ذلك الأديب..
شكرا لكل ما تقدمه من إضافات رائعة أستاذ نجم الدراجي.
مقالة راقية… شكرا ليوسف الحويك والكاتب المبدع نجم الدراجي لنقلنا الى عالم جبران الجميل عالم الثقافة والادب والفن.