يوسف عبدلكي… الظلام والليل

حجم الخط
3

لعله المتهكم بامتياز بالرسم على الواقع. أسماكه الفصيحة، تقول ذلك، وكنتُ اعتبر صلاح جاهين أحد الشعراء المتهكمين في الستينيات، وعندما شاهدت أعمال يوسف عبدلكي عن رباعيات صلاح جاهين، تأكد لي تهكم يوسف عبدلكي برسومه على قول جاهين في الرباعيات.

٭ ٭ ٭

لا يخضع يوسف عبدلكي لنصوص رباعيات جاهين، لكنه يرسم النقائض أمام جاهين، مثلما يحاور رسامٌ شاعراً. وفيما عدا رباعية «النهد زي الفهد نط اندلع» لن تصادف ترجمة فنية في أعمال عبدلكي ولا ترى امتثالاً لدى الرسام للشعر، ففي هذا إبداع مضاعف لعمل مشترك بين رسام وشاعر. وظني أن صلاح جاهين سيقبل هذا الحوار الراقي مع رباعياته، وسيجد لدى يوسف عبدلكي فناناً ووعياً جديدين لكلمات الرباعيات.

٭ ٭ ٭

الوردة هي الأخرى تزدهر بالألوان في بياضٍ ناصعٍ وأكثر سواداً من الليل. وهنا سنكتشف مع عبدلكي الفرق بين الظلام والليل، فليس كل ليلٍ ظلاماً، فرُبَ ليل ساطع البياض مثل قبيلة أقمار. ففي الشعر، ثمة ليل وثمة ظلام، وحالة الليل هي التي تجعل الظلام مضيئاً والليل حالكاً. عند يوسف عبدلكي، باستخدامه الباهر، لقلم الرصاص تجد سطوعاً للوعي فاتن العناصر، بحيث تكتشف الدلالة الموحية للأبيض والأسود في الرسم، فليس من الحكمة تجاوز حقيقة اللون في أعمال الأبيض والأسود عند يوسف عبدلكي.

٭ ٭ ٭

حتى عندما يحضر الحيوان في رسومات عبدلكي تشعر بأن ثمة إنساناً مقتولاً. رؤوس الأسماك وجماجم حيوانات، أزعم أنها بشرية، لكأنها رؤوس بشرية تنضح بالحياة. بينك وبين اللوحة، هناك إعادة بشر موتى إلى الحياة. هل كان يوسف عبدلكي يصفي حساباته مع سلطات لا تكترث بالإنسان، بوصفه كائناً بشرياً يترقى بالعمل، هل يرى عبدلكي الأمل في مجرد وجود الإنسان؟
لا أعرف، أو أني لستُ واثقاً، عدم ثقتي ليس في عمل يوسف عبدلكي، لكن يظل عدم ثقتي متصلاً بالأمل.

٭ ٭ ٭

الانتقال الفني من رسم الكاريكاتير إلى البورتريه، مروراً بالديكتاتور المكتظ بالنياشين، هو تحول يحتاج فيه عمل يوسف عبدلكي، ويتوجب التوقف عنده ودراسته بشكل دقيق. فليس صدفة هذا الانتقال الموضوعي من الكاريكاتير الذي اكتنزت تجربة عبدلكي به، نحو الحفر المدهش الذي يتحفنا به الرسام متخذاً أشياء الحياة الصغيرة للتعبير بصوت رصين وأكثر غموضاً. التهكم هنا سوف يتجلى بشكل فاضح، في الكاريكاتير كأن يوسف عبدلكي يضحك على حياتنا، وبعد ذلك صار يوسف عبدلكي يتهكم علينا. وبين الاثنين ثمة طاقة شديدة العمق تنبثق مما يفعل الرسام.

٭ ٭ ٭

في معرضه الأخير في البحرين 21 مايو/أيار ـ 2 يوليو/تموز شاهدتُ للمرة الأولى عمله مع رباعيات الشاعر المصري صلاح جاهين، إضافة إلى مألوفاته كالورد والسمك والأحذية وجماجم الحيوان. فلتجربة عبدلكي من العمق ما يستدعي الكثير من المراجعة والتأمل، فهو من بين أكثر الرسامين العرب امتزاجاً بالسياسة، بعكس ما تشي به رسومه من عبثية وتحرر من الواقع.

كاتب وشاعر بحريني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سوري قديم:

    يوسف عبدلكي إنسان صادق في مواقفه وأعماله وصداقاته هو صديق قديم وذو حاسة فنية مرهفة ومعارض شرس يطمح للحرية واحترام الانسان. الاسود والأبيض هما لونا الواقع لا رمادي بينهما والسواد أكثر من البياض، هي حياتنا التي جعلوها سوداء زعماؤنا الأشاوس

  2. يقول حمودان عبدالواحد / باحث واكاديمي من فرنسا:

    يوسف عبدلكي، هذا الرسام التشكيلي السوري، يعتبر الخروج والاقامة في الخارج مجرد عبور ومرور ؛ رجل مشدود الى الجذور والاصول حرفيا، وليس غريبا انه حصل على شهادة في الرسم الحفري la gravure. لم تكن فرنسا تمثّل له سوى قاعة انتظار ، لهذا رفض الحصول على الجنسية الفرنسية بالرغم من انه قضى بها اكثر من عشرين سنة. اعتقل اكثر من مرة بسبب افكاره السياسية اليسارية.
    اذا ما اعتبرنا الاسود والبيض ليسا بلونيْن فاِنّ مما يثير الانتباه في اعماله وبالخصوص لوحاته هو تحويله الاسود إلى بياض يتخلص من حياديته ويتقمص جماليا اكثر من مجرد بياض : انهما، الاسود والابيض ، يصبحان لونيْن، ولكنهما ليس ككل الالوان التي يرمز كل واحد منها الى فكرة او احساس او بعد وجودي (الازرق الى الحلم، والاخضر إلى الامل مثلا). الامر معه يبدو مختلفا إذ تتداخل مراحل التحول وتحيل الى مستويات وتعقيدات في العلاقات بحيث تصبح اللوحة فضاءً تتساءل شخصياته عن نفسها والرسام والمتفرج، وتطرح أسئلة عمّا تعنيه فكرة التحول من الأسود الى ابيضٍ فريد في بياضه لانه يبقى أسودًا، غير أنه يتدفق وينبض بامكانية صيرورته اللونية التي لا تحدّها او تعرّفها اسماء الالوان المعروفة : إنه الإبداع في اعلى درجاته واسمى قممه !

  3. يقول جلال:

    الفنان المذكور ليست له شهرة وحسنا عرفتنا به شكرا للكاتب المقال.

اشترك في قائمتنا البريدية