هنالك فجوة في الإدراك دائمة الحضور، في الحديث عن عادة مشاهدة فيلم واحد يومياً، على الأقل، أو بمعدل 7 أفلام أسبوعياً، فقد يمر يوم حالت أمسية ما دون مشاهدة بيتيّة أو صالاتيّة لفيلم فيه، ويمر آخر دلَّل به أحدنا نفسه بمشاهدة فيلمين تفصل بينهما ساعات قليلة. المشاهدة، المسائية تحديداً، لفيلم هي عادة يومية مفترَضة للناقد، وليست ترفاً أو اختياراً، أو مبادرةً يلوّح بها صاحب لصاحبته.
يحصل كثيراً أن يشاهد أحدنا فيلماً خلال النهار في صالة سينما في المدينة، ثم مساءً، يبقى احتمال مشاهدة فيلم ثانٍ مطروحاً مع ترجيح لاختيارات أخرى أكثر تنويعاً في الحياة. هذا الكرم الذي يغدقه الناقد على نفسه، بفيلمين يومياً، ليس بالضرورة كذلك بالنسبة لغيره، فلا يستغرب ناقد من صديق أن يعتبر اقتراح المشاهدة لكليهما أنانية في وقت يعتبره الناقد كرماً يتشاركه مع الآخر.
هذه الرغبة الدائمة بالمشاهدة إذن، تكون منقذاً للناقد في مهرجان سينمائي سيضطر، فرحاً، ودون تبريرات أو اعتذارات، أن يشاهد فيلمين وثلاثة أفلام، خلال أيام المهرجان، بحجة أنها جزء من عمله، وأن لا خيار له. كأن يقدِّم طبيبٌ وصفة علاج لطفل (أو لناقد) في تناول للبوظة ثلاث مرّات يومياً. سيفعلها بسعادة ولن يبرّر لأحد فعلته.
سيكون اضطرار العمل حاضراً دائماً في إجابة الناقد، صدَّق هو ذلك أم لم يصدّقه، أخذ غيرُه كلامَه على محمل الجد، أم لم يأخذه. فإجابة أحدنا عن سؤال في أنه ذاهب إلى العمل، في طريقه إلى صالة سينما أو الصالون أو مشاهدة التلفزيون، لانتقاء فيلم سواء كانَ قديما أم جديدا، فيه نصف حقيقة، وإن أتت بسخرية تشي باستخفاف القائل بقوله. هي من تلك العادات الحاضرة دائماً، أكانت للعمل أم لغيره، هي حاضرة، وبحظٍّ قليل تدخل مجال المهنة دون الخروج من مجال الهواية. فيكتب الكاتب رأياً بما شاهده ويرسله إلى ناشره.
يكون الناقد خلال المهرجان في أكثر أيام «عمله» انهماكاً لكن ليس إنهاكاً. أُسأل وغيري عن المهرجان من بعد العودة منه، لتكون الإجابة في أنه كان ممتعاً، كذا من الأفلام شاهدت وكذا من المقالات كتبت. رد الفعل الأولى تكون شفقةً لهذا الكم من الإنهاك، مشاهدةً وكتابةً، ليدرك أحدنا تلك الفجوة التي بدأت المقالة بها، فأهون عليه أن يوافق محدّثه الكلامَ من أن يشرح أنه انهماك أكثر منه إهلاكا، وأنه ممتع أكثر منه متعبا. حسناً، هنالك الاستيقاظ باكراً والنوم متأخراً والبقاء طوال النهار خارجاً، جالساً في الصالة لساعات قد تصل إلى 6 ساعات يومياً. لكن لا بأس.
في مهرجان كان تفتح شاشة حجز التذاكر في السابعة صباحاً، وكذلك في فينيسيا. في برلين في السابعة والنصف، أي نصف ساعة إضافية من النوم. تتفاوت سهولة الحجز من صعوبته، ويشهد ازدحاماً خاصاً في المهرجان الفرنسي. يبقى أحدنا أمام الشاشة دقيقة قبل السابعة، يحدّث صفحته في السابعة تماماً، يتابع عقرب الثواني في تليفونه لذلك، فعلاً. معك 10 ثوانٍ بحد أقصى للحجز، تحدِّث صفحات الأفلام حسب الأولوية وتحجز فوراً، لا يحصل أن تستطيع حجز أكثر من فيلمين في الثواني العشر، لأن كل الأفلام في المسابقة الرسمية، وتلك التي خارج المسابقة ومنتظرَة، ستكون قد أقفلت لاكتمال الحجز. عشر ثوان إذن وفيلمان، هذا ما يستطيعه الناقد كل صباح، والحديث عن العروض الخاصة بالصحافة، أي التي لا يحضرها سوى الصحافيين. عشر ثوان وفيلمان، هذا كل ما في جعبة كلّ صباح. في برلين وفينيسيا الحالة أهون، الثواني وكذلك الأفلام المتاحة أوفر، لقلة الازدحام واهتمام الصحافة العالمية بالحضور والتغطية، مقارنة مع مهرجان كان، خاصة النقاد السينمائيين من بين الصحافيين، أي الصحافة المكتوبة، مطبوعة وإلكترونية، تبقى الصحافة المتلفزة والإذاعية إخبارية وتقريرية بالدرجة الأولى.
من بعد الحجز فور الاستيقاظ، يدخل الناقد في يومه، تكون هنالك دائماً عروض صباحية أو ظُهرية وأخرى مسائية أو ليلية. وخلال الوقت المتخلل لهذه العروض، يواصل الناقد تحديث صفحة التذاكر ليجد بصدفة حميدة، فيلماً لم تسعفه الثواني العشر لحجز تذكرة له، فيحجز ويعيد برمجة يومه. وقت معتبر من المهرجان يذهب على برمجة الأفلام خلال اليوم، والبحث عن التذاكر بتحديث الصفحات، وإعادة البرمجة مع كل تذكرة تتوفّر فجأة. هذا زمن معتبَر من يوم الناقد في المهرجان، لا يقل أهمية عن زمنَي المشاهدة والكتابة. ما الذي تفعله، أساساً، إذن، في المهرجان؟ تحجز وتشاهد وتحجز وتكتب. أما الوقت اللازم للكتابة، متى وأين، فهذا همٌّ آخر.
أخيراً، يعود أحدنا من المهرجان إلى دياره منهكاً من قلّة النوم، لا أكثر. لكل مسألة حل في المهرجان سوى النوم. وإن كان من اقتراح أوّل لأي ناقد في تحسين أي من المهرجانات الكبرى سيكون، وحسب، تأخير ساعة حجز التذكرة لساعة أو اثنتين. لذلك، للنصف ساعة الصباحية الإضافية من النوم خلال البرلينالي، يكون المهرجان الألماني أقل إنهاكاً (لكن أقل إمتاعاً كذلك) من زميليه. ولا حاجة لتنحية العروض الليلية، تلك التي تنتهي ما بعد منتصف الليل، خاصة إن كانت بأفلام حُلميّة مثل «بارثينوبي» للإيطالي سورنتينو، ما كان في مهرجان كان الأخير.
كاتب فلسطيني/ سوري