«پيدرو بارامو»: رواية غرائبية عسيرة الفهم ذات لمحات إنسانية

حجم الخط
0

وأنت تقرأ رواية «پيدرو بارامو» للروائي المكسيكي خوان رولفو (1918-1986) تناجي نفسك وتحاورها، ما الذي يدفع الروائي إلى ركوب هذا المركب الصعب؟ قص مكثف شديد الوعورة والتعقيد؛ هذه الرواية التي وصفها الروائي المكسيكي كارلوس فوينتس (1928- 2012) بأفضل رواية كتبت في المكسيك على الإطلاق، لا بل أفضل رواية إسبانو- أمريكية، مع إنها تعرضت لهجمات قاسية جدا، بسبب التأويلات السيئة، مردفا فوينتس: إنها لم تفهم جيدا!
هذا الرأي؛ إنها لم تفهم جيدا، وجد صداه لدى من أقدم على ترجمتها، فقد واجهت مترجمها مروان إبراهيم صعوبات جمة مثبطة، دفعته إلى التفكير في مغادرة هذا الأمر، فقد وجد نفسه إزاء رمال متحركة، تشده نحو الأسفل، غير أن مصادفة جميلة تشرق عليه بأنوارها، إذ يعثر على نسخة أخرى من الرواية صادرة عن دار نشر إسبانية مهدت السبيل أمام مترجمها، ويسرت عليه أمره، وزاد من تيسيرها عثوره على دراسة نقدية قيمة كتبها الناقد خوسية كارلوس غونزالس بويسكو، فكانت هادية له في ليل الرواية البهيم.
هذه الدراسة كانت بمثابة شمعة في ليل الرواية الدامس، لكن جعلت بالإمكان قراءتها ومعرفة مراميها، إنها ذات مستويين في القص؛ في المستوى الأول يحكي (خوان بريثيادو) الذي ترسله أمه (دولوريس) إلى أبيه ( پيدرو بارامو) الذي هجر أسرته إلى منطقة أخرى؛ إلى (كومالا) حيث تحول من إنسان بسيط إلى مراب جشع، لا تقف أمام نوازعه في الجنس والمال، أي كوابح أو موانع، ترسله أمه لمطالبة أبيه باستحقاقها وحقه في مال أبيه، وما يواجه من معوقات وصعوبات، تدخل في مجال الغرائب السحرية، التي حفلت بها الرواية الأمريكية – اللاتينية على يد أساطينها الكبار: بورخس، وماركيز، وكاربنتر، واستورياس، وفوينتس.
والمستوى الثاني، وفيه يروي خوان رولفو روايته كلا متواصلا، بل نراها مجزأة مقاطع غير متصلة، فضلا عن الزمان؛ زمان القص والكتابة.

مستويات القص الثلاثة

ففي بعض مقاطع الرواية السبعين يأتي السرد بترتيب زمني متتال، وهذا الترتيب الزمني قد يكون متصلاً وقد لا يكون، وفي بعض مقاطع أخرى من هذا المستوى الروائي الثاني، تأتي منفصلة زمنياً، ومما زاد في تعقيد الرواية وصعوبة فهمها، دخول الراوي – فضلاً عن المستويين المذكورين آنفاً – بصيغة الشخص الثالث، الذي يضع نفسه دائماً في تضاد مع الشخوص، كما يقرر الناقد بريسكو، وزاد الطين بلة تصريحات الروائي خوان رولفو المتناقضة، التي كان يدلي بها للصحافيين والأدباء، وتفسيره لبعض ما غمض من حوادث روايته هذه، واصفاً بعضها بنوع من الجنون والأوهام! واضعين في الحسبان أن رولفو لم يكتب سواها، وبعض القصص القصيرة، على الرغم من عمره الإبداعي المديد الذي يقترب من النصف قرن، بدءاً من سنة 1938 وحتى سنة وفاته 1986، أمضاه في صمت، وانشغال بأعمال وظيفية بسيطة، متعللاً بأنه سيكتب عندما يتقاعد من عمله الوظيفي! بيد أن وفاته جعلت من تسويفه وتأجيله الذي يقترب من الصمت، صمتاً أبدياً، فقد قال في روايته «پيدرو بارامو» – كما أرى- كل الذي أراد قوله فصمت، قبل صمته الأزلي بالموت!
تناجي نفسك وأنت تقرأ «پيدرو بارامو» الذي بذل المترجم العراقي مروان إبراهيم جهدا مضنيا في ترجمتها، فضلاً عن وضعه بين يدي القارئ هذه الدراسة النقدية القيمة، التي فككت بعض غموض النص، ترى لماذا قارب بعض الروائيين هذا اللون من ألوان الكتابة الروائية الغامضة؟ ومنها «البحث عن الزمن الضائع» لمارسيل بروست (1922) و»يوليسيس» للروائي الإيرلندي جيمس جويس (1941) الرواية الوعرة التي لولا الحواشي والإيضاحات التي قدمها العراقي صلاح نيازي بين يدي ترجمتها، لما تيسر لنا فهمها، ويجب أن لا ننسى رواية «الصخب والعنف» للروائي الأمريكي وليم فلكنر (1962) فصعوبة فهم هذه الرواية، دفعت مترجمها جبرا إبراهيم جبرا (1994) إلى كتابة مقدمة ضافية للرواية، التي لا تكاد تفهم إلا بقراءتها، فالرواية قصة أخوة ثلاثة هم: كونتن، وجاسن، وبنجامين، واختهم كاندس، أو كادي تحبباً، وقسمت إلى أربعة أقسام، ليتولى سرد كل قسم أحدُ شخوص الرواية الثلاثة الرجال، مخصصاً لكل منهم زمناً محدداً، وليتولى الروائي سرد القسم الرابع، ومن خلاله فهمنا أن بنجامين الذي يتولى سرد القسم الأول، كان متخلفاً عقلياً، يهمهم ولا يكاد يفصح قولاً، وله حاسة شم قوية كانت تسعفه في مواطن عديدة وعسيرة.
ومن خلال هذه الدراسة النقدية التي كتبها جبرا، فضلاً عن الملحق التوضيحي الذي كتبه فوكنر لروايته، وفيه ترجمة وافية لشخوص الرواية، وتوضيحاً لمسيرها، وقد لمس عزوف القراء عنها لغموضها، كانت هذه الدراسة وهذا الملحق مسعَفيْن للقارئ في تلمس دربه الوعر هذا وهو يوغل في قراءتها.

لمحات إنسانية

لقد كنت وأنا أقرأ مقاطع، فصولاً من رواية «پيدرو بارامو» أعود إلى الدراسة النقدية لبويسكو، الذي خصّ كل مقطع من مقاطع الرواية السبعين بحديث توضيحي، أعود إليه، مستعيناً به، كي يمهد لي فهم النص، ومدوناً إزاءه ما ورد بشأنه في الدراسة النقدية، وما كل القراء بمستطيعين الإذعان لهذه المعاناة الصعبة، فالناس تقرأ لتفيد وتتمتع، وفي هذا الصدد انتفت المتعة والفائدة! ولقد وصلني منها الشيء اليسير، لأنها ـ كما قلت- ذات مستويات سردية متعددة، وسيرورة زمانية، وصيرورة مكانية محددتين أيضاً، وفيها التقاطات وصور طيبة مثلها (الأب رينتيريا) الذي ما منح الغفران لكثير من الفسقة الظَلَمة، وما أن تنطلق الثورة في المكسيك وضواحيها ونواحيها وأريافها، حتى يغادر كنيسته ملتحقاً بالثوار، متطابقاً مع مبادئه في الصدق والأمانة والعدل، فضلاً عن المحامي الطيب النزيه (خيراردو) الذي على الرغم من حاجته إلى المال، فإنه ما فكر أن يتنازل، ويطلب مالاً من موّكله پيدرو بارامو الذي مثل الجشع والأنانية والميكافيلية والبخل، بل الشح، إنه مع السلطة كيفما كانت، مؤكداً لأحد رجاله (داماسيو) الذي يرسله لمساندة الثوار، مع مجموعة من الفلاحين العاملين في مزارعه، لا حباً بالثورة والثوار، بل خوفا منهم، وهم الطامعون بأمواله الوفيرة وأطيانه الشاسعة، مؤكداً لدامسيو: لقد قلت لك إنه يجب أن نكون مع المنتصر.
ها أنا معهم
لماذا جئت لتراني إذن؟
نحتاج إلى نقود سيدي.
إن كونترا تعج بالأغنياء خذ منهم بعض ما يملكون، اضربهم وسترى كيف ستخرج النقود من ذلك الاحتفال!
انتَبَه إلى أن كل الرجال كانوا قد رحلوا وبقي هو وحده مثل جذع شجرة قوية ابتدأت بالذبول من داخلها.
وهذا هو المصير البشري في أوضح صوره وأفجعها.. ذبول.. وموت.

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية