هل أذهب إلى اعتبار الشعر « كثرة»، على غرار ما انتهى إليه الناقد المغربي صلاح بوسريف، أي بما هو مقترحات وممكنات عدة؛ بل أراني، أكثر من ذلك، أهجس منذ أن اخترت طريق المخاطرة والمغامرة، بالمعنى النيتشوي، أقصد طريق الكتابة، قلت أراني أهجس بأن الشعر هو جداول وروافد عدة لوجود أو كينونة ما، بطريقة وأسلوب ما.
وما يُكتب بغير اللغة العربية (الفصحى)، إذا ما توافرت فيه نسبة معقولة من الشعرية، شِعْراً، أوْ منَ الأدبية، أدبا. فشعرُ الزجل، والشعر الأمازيغي، وشعر الملحون، والشعر الحساني، وشعر التبراع، والشعر النبطي… كلها روافد شعرية رقراقة، انتزعت بجدارة، أحقيتها في الانتساب إلى هذه المملكة الرحبة، أقصد مملكة الشعر.
في شعر الزجل، أو كما يحلو للبعض تسميته بالشعر الشعبي، أو الشعر المحكي، قليلة هي الأسماء التي استطاعت فعلا أن تنصت لنداء الحياة من خلال الشعر، وأن تسمي الحياة بالشعر، لا لأنها ارتبطت بقضية الحياة نفسها، ولكن بإعطائها الحياة إمكانية أن تتحقق، وأن تتصير بأسلوب آخر، مغاير تماما لما هو معطى. من ضمن هؤلاء القلة، الذين يعدُّون على رؤوس أصابع اليدين، أذكر الشاعر العنيد المصري أحمد فؤاد نجم.
هو شاعر ثوري، بكل ما تحمله الكلمة من معان. انماز من بين شعراء جيله بكاريزميته المخصوصة، ومواقفه المتشددة ضد الظلم والاستبداد، وآثر الانحياز إلى قضايا الجماهير. حمل شعلة بروميثيوس، منذ سبعينيات القرن المنصرم، واستمر في حملها إلى أن وافته المنية بتاريخ 3 كانون الأول/ديسمبر 2013 عن عمر يناهز 84 عاما.
ولد أحمد فؤاد نجم يوم 23 مايو/أيار 1929 في قرية (كفر أبو نجم) في مدينة أبو حماد محافظة الشرقية. لُقّب بالفاجومي، بسبب ارتباطه الكبير بقضايا الجماهير المصرية والعربية، على حد سواء، خصوصا بعد نكسة 1967. كما اختارته، المجموعة العربية في صندوق مكافحة الفقر، التابع للأمم المتحدة، سنة 2007، سفيرا للفقراء.
لما انتقلت رياح ثورة الياسمين إلى مصر، واندلعت ثورة 25 يناير/كانون الثاني في ميدان التحرير، وميادين أخرى، كان للجيل الجديد موعد مع أشعار هذا «الشاعر البندقية» المُناهضة للنظام الحاكم، كـ»بقرة حاحا»، و»يعيش أهل بلدي»، و»مصر يمّا يا بهية»، وقصائد أخرى.
لقد استطاع سفير الأمم المتحدة للفقراء، الشاعر أحمد فؤاد نجم أن يوقّع على حضور قوي في تهييج الجماهير وتحريضها، ضد النظام المصري التوتاليتاري المنهار، وبذلك أعلن عن ولادة جديدة لتجربة شعرية خفت بريقها، مع سقوط جدار برلين، وموت الشيخ إمام، وهلمّ انهيارات.. هي شعرية مضادة، لا من جهة بنائها الفني والجمالي، وهذا ما يعاب عليها من طرف البعض، ولكنها مضادة من جهة ما تقوم به من فضح لقيم الفساد، وكذا تهييجها المستمر لـ»لا وأخواتها» بتعبير أحدهم. وهي – الشعرية – بذلك أثثت لما يمكن تسميته بـ»شعرية التحريض»، ما يجعلها جديرة، على الأقل من جانب كونها شعرية، بالرعاية والمتابعة النقدية. فلا مراء أن الشعر النابض بالحياة لا يموت. جيل جديد، مختلف تماما من حيث الرؤى والمرجعية والأحلام والتطلعات، لم يكن يعرف اسم أحمد فؤاد نجم، أو على الأقل لم يكن قد قرأ قصائده. قصائد – حفظها الجيل السابق عن ظهر قلب من خلال نغمات الراحل الشيخ إمام ـ بُعثت من جديد، كما لو أنها كُتبت لتوها «غيفارا مات» «ياللي السجارة»، «الورد اللي فتح في جناين مصر»، كلها قصائد تغنت بها الجماهير في ميدان التحرير، وكانت الطاقة التي حفظت هذه الجماهير من شدة البرد في القاهرة المثخنة بالعصيان المدني. يقول الشاعر في قصيدة «الورد اللي فتح في جناين مصر» وقد قيلت سابقا في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 وبعثت مرة أخرى.
صباح الخير ع الوَرْد اللي فتّحْ في جناين مصر
صباح العندليب يشدِي بألحانِ السُّبُوعِ يا مَصْـر
صباح الدَّالْيَة واللفَّة ورش الملحِ في الدَّفـــة
صباح يطلع بأعلامنا من القلعة لباب النصــر
هكذا هي القصائد التي تكتب بلغة استباقية ـ استشرافية. لغة تسبغ على الآتي والمستقبل معاني الحياة الدفّاقة بالحياة.
وكعادته لم يكن أمام الشاعر أحمد فؤاد نجم سوى الإذعان لنبض الشارع المصري في ثورة يناير، حيث جادت قريحته المدرارة بقصيدة سامقة وعارية من كل المساحيق، مضمونها سياسي ـ تحريضي، يستضمر سخطا شديدا ومباشرا على النظام المصري التوتاليتاري. ولغتها شفيفة وبسيطة، لكنها بمكر المفارقة استطاعت أن تتدثّر بدهشة البسيط والمطروح في الطريق، الذي ليس في متناول أو مستطاع أي كان. القصيدة بعنوان (كأنك مافيش)، يقول فيها:
بِرُغم أن صُوَّرك في كل الدواير
وكل المداخل وكل المحاور
ومالية الشوارع على كل حيط
مطنّش علينا وعامل عبيط
كأنك مافيشْ
يافرحةْ قلوبْنا
رئيسْنَا ظريفْ
فكاهي، ابن نُكتَةْ أُدمُّ خفيف
في عهد سيادتك فرشنا الرَّصيفْ
وآخر منانا الغُلُوس والرَّغيفْ
ولا يزال الشاعر يسخر من الرئيس ويتهكم عليه، حتى خلص إلى إدانته المباشرة لهذا النظام المستبد قائلا:
مسيَّبْ علينا عصابة حبايبو
فضايحْ، ونَهْبْ، وسرْقة بْسبايْبَكْ
ما بين حزب نجلك
وهانم جلالتك
وجيش الغوازي اللٍّي داير يجاملكْ
ونملك وقملك وحارسك وأمنك
شبعنا مهانة شبعنا لطِيش
وأنت ما فيش.
هذا هو الشاعر أحمد فؤاد نجم الذي قال فيه الشاعر الفرنسي لويس أرغون، ذات مناسبة، جملةً، أدخلته قاموسَ القديســــين. لقد قال عنه: ( شاعر فيه قوة تسقط الأسوار).
٭ شاعر وكاتب مغربي
محمد الديهاجي