باريس – «القدس العربي»: أعلن الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند خطة مستعجلة تستهدف إعادة تأهيل وهيكلة الأحياء السكنية الهامشية في ضواحي المدن الفرنسية ذات الكثافة السكانية المهاجرة والمسلمة من بينها أحياء توصف بـ «الساخنة» في الضواحي الباريسية ضمن خطوة تسعى من خلالها الحكومة إلى إعادة الاعتبار لسكان هذه الأحياء. وتبلغ الميزانية المرصودة للمشروع نحو خمسة مليارات يورو كخطوة أولى على أن تتبعها خطط مماثلة ليصل مجموع المبالغ الإجمالية المرصودة نحو عشرين مليار يورو سيجري استثمارها على مراحل عدة.
وترمي الخطة إلى إعادة هيكلة وتأهيل نحو 200 حي سكني تصنفها السلطات ضمن دائرة الأحياء السكنية الساخنة والملتهبة التي تعاني خللا في البنية الحضرية، وهي الأحياء ذاتها التي تشير إليها وسائل الإعلام الفرنسية باستمرار بالبنان كلما تعلق الأمر بحياة الجالية المسلمة والمهاجرة.
جزر معزولة
غير أن الهدف غير المعلن للخطة وفق المختصين هو تفادي
أحداث عنف ومواجهات مع الشرطة كثيرا ما تنطلق شرارتها الأولى من هذه الأحياء لتسلط الضوء في كل مرة على أوضاع المهاجرين وتعيد معاناتهم إلى قلب الاهتمام الحزبي في فرنسا ضمن ما يعرف في أدبيات السياسة الداخلية الفرنسية بمشكلة الضواحي، التي يعتبرها البعض قنبلة موقوتة، خاصة بعد ان تحولت بسبب إهمال الحكومات الفرنسية المتعاقبة إلى ما يشبه الجزر المعزولة التي تسكنها غالبية ساحقة من المهاجرين جراء تفشي مشكلات اجتماعية مزمنة وفي مقدمتها البطالة وعدم التجانس، والشعور بالغغتراب والإحساس بأن سكان الضواحي هم قوم غير مرغوب فيهم ومن يحملون جنسية البلد فرنسيون من الدرجة الثانية.
وتضم ضواحي أغلبية المدن الفرنسية في تركيبتها خليطا من أبناء المهاجرين ذوي الأصول المختلفة معظمهم من أصول عربية وتحديدا من بلدان المغرب العربي إضافة إلى الأصول الأفريقية وغيرها.
ومع وجود أكثر من ستة ملايين نسمة من الجالية المسلمة في فرنسا حيث النسبة الكبيرة منهم لا تتوفر على الحق في التصويت في الإنتخابات المحلية، تعاني الأحياء الحساسة ذات الكثافة السكانية المهاجرة المسلمة والعربية من تقصير بنيوي وأزمة هوية وشرعية كما جاء في تقرير برلماني خاص.
بطالة بمستويات قياسية
وبحسب المختصين فإن الأحياء الحساسة تعرف معدل بطالة أكثر ارتفاعا بمرتين عن بقية البلاد ويلامس مستويات قياسية، وصل إلى نحو 35 في المئة في عشرات الأحياء مقابل 10.4 في المئة على المستوى الوطني، رغم سياسة التحديث المدنية التي كانت قد أطلقتها الحكومة الفرنسية في عهد الرئيس السابق اليميني نيكولا ساركوزي عام 2003 وخطة كسر العزلة عن الضواحي عام 2008 بهدف محاولة توفير فرص عمل للشبان ومكافحة الفشل الدراسي وانتشار الجريمة.
وأنشأت حكومات فرنسية متعاقبة مناطق سكنية في ضواحي ومحيط المدن الكبرى بهدف توطين أكثر من 250 ألف مهاجر يفد على فرنسا سنويا بهدف البقاء والعيش فيها، ما جعل هذه المناطق السكنية تتحول على مدار السنوات إلى بؤر ساخنة مع انتشار مشاكل عويصة كغياب السكن والتعليم وفرص العمل والتعايش بين فئات من ملل وثقافات مختلفة، فضلا عن انتشار الجريمة خاصة تجارة المخدرات.
وتحولت أحياء بأكملها إلى مناطق يحرم على الأجهزة الأمنية الدخول إليها بسبب انتشار عصابات مسلحة تتاجر في المخدرات وتفرض قانونها الخاص داخل فضاءاتها، ما دفع القيادة في الحزب الإشتراكي ووزيرة البيئة في الحكومة الفرنسية حاليا سيغولين روايا إلى أن تقترح في إحد حواراتها المثيرة للجدل الاستعانة بالجيش الفرنسي لتحرير بعض الأحياء من قبضة العصابات.
ويعاني شباب ضواحي المدن الفرنسية خاصة العاصمة باريس من الإقصاء، ويغالبهم شعور بأنهم حبيسو أحياء لا يلوح وراء جدرانها أمل في الإندماج في نسيج المجتمع الفرنسي، كأنهم في سجن، بلا قضبان لا محالة، ولكنه حقيقي ومفروض من قبل النخبة الحاكمة والسلطة الرسمية.
لغة الأحياء والحواري
ومع استفحال الأزمة وارتفاع معدل البطالة وانعدام فرص الحياة الكريمة، ازدادت تلك الشريحة الشبابية فقرا، وعوض أن تبحث لها عن وسيلة لكسر عزلتها، اختارت الإنزواء في الحي كقطاع خاص بها وحدها من خلال إرساء قيم وسلوكيات ثقافية تخالف ما درج عليه الناس في مدن المركز مثل باريس ومرسيليا وليون وستراسبورغ وليل، في تأثر واضح بنمط الحياة لدى الأمريكان السود في الشغف بموسيقى الراب، والتعبير برسوم الغرافيتي، وارتداء ألبسة فضفاضة تكاد تكون موحدة، وخصوصا اعتماد «لغة الأحياء أو الحواري». لغة لا تغرف من رصيد عام مشترك بغرض التفاهم والتواصل، بقدر ما تسن مفرداتها ومصطلحاتها وقاموسها وحتى نبرة التلفظ بها لتعزيز الحواجز وتكريس العزلة.
وتعكس محاولات الرئيس أولاند إعادة تأهيل الأحياء الحساسة في الضواحي الفرنسية رغبة الساسة في امتصاص السخط الإجتماعي الذي يعتمل في نفوس قطاعات واسعة من المهاجرين في فرنسا. مصطفى الآشوري (30 عاما) فرنسي من أصول مغربية ولد في فرنسا ويعيش في ضاحية «سان دوني» الباريسية يستكشف إحساس الاغتراب الذي يشعر به الكثير من المسلمين الفرنسيين، حين كان مصطفى في صباه خلال الثمانينيات، كانت بلدة «سان دوني» شمال باريس، مسقط رأسه مكانا مختلطا.
مصطفى الآشوري يقول معلقا «كنا كلنا فقراء، ولكن كان هناك فرنسيون، وأوروبيون شرقيون، فضلاً عن سود وعرب ولكن بعد عقدين من الزمان تغير لون المكان، في الفصل الذي كنت أدرس فيه كان أكثر من نصف التلاميذ من ذوي البشرة البيضاء، أما اليوم فلا تجد فيها إلا تلميذا واحدا أو أثنين من البيض».
مجتمع داخل مجتمع
ضاحية «سان دوني» شأنها شأن باقي الضواحي الباريسية وباقي المدن الفرنسية حيث تم إسكان المهاجرين الذين هم غالباً قادمون من مستعمرات فرنسا السابقة في شمال أفريقيا منذ الستينيات، وتعاني تلك المناطق من وجود مدارس لا تقدم خدمات تعليمية جيدة، فضلا عن بطالة متوطنة، ويصعب على من فيها النفاذ إلى العالم الخارجي، إلى درجة أصبح معها أبناء المهاجرين وأحفادهم عالقين في تلك الدائرة ويشكلون مجتمعا داخل مجتمع يعرف نفسه على أساس الدين والهوية.
ويضيف «قبل عشرة أعوام كان ينظر إلينا كفرنسيين عرب أما اليوم فنحن في نظرهم مسلمون فقط ونشكل خطرا على المجتمع ومصدر كل الأزمات التي تصيب البلاد، وهذا ليس من المفترض أن يوجد في بلد يعتبر نفسه أمة واحدة لا تتجزأ، وقادر على استيعاب جميع مكوناته على تنوعها، خاصة وأنهم يعلموننا منذ الصغر أن الفوارق الاجتماعية لا مكان لها على الأرض الفرنسية بين مكونات البلاد».
أما رشيدة بن ميلود الفرنسية من أصول جزائرية فقد ردت على سؤال لـ»القدس العربي» بشأن إن كانت تعتبر نفسها فعلا مواطنة فرنسية تتمتع بكامل حقوق المواطنة كما تنص على ذلك القوانين الفرنسية قائلة « كيف يمكن أن أشعر بأنني فرنسية حينما يصفني الناس دائما بأنني فرنسية من أصل جزائري؟ لقد ولدت هنا، أنا فرنسية فمتى يكف الناس عن ذكر أصلي؟».
أرضية خصبة للتطرف
من ناحية أخرى يجمع المختصون على أن التطرف وجد أرضية خصبة لإنتشاره في الأحياء المنعزلة ما جعل الكثير من شباب الضواحي من الجالية المسلمة أو من الفرنسيين الذين اعتنقوا الإسلام يسافرون إلى سوريا بهدف الإنضمام إلى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام والمعروف اختصارا باسم «داعش» ما يعني أن الفكر الجهادي المتشدد بات يشكل اليوم فعلا تهديدا مباشرا لفرنسا وأوروبا داخليا.
غير أن الباحث الفرنسي في شؤون الجماعات المتشددة «جيرارد كالفيي» يهون من ذلك و يقول لـ«القدس العربي» أن «بعض المتشددين ممن يجاهرون بولائهم لداعش والقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وغيرهما من التنظيمات لا ينبغي أن ينظر إليهم على أنهم يمثلون المسلمين». ويشير إلى أن «الجهاديين في كل مكان يتمردون ضد الغرب كما يتمردون ضد مجتمعاتهم نفسها».
ويضيف «الأغلبية العظمى من المسلمين في فرنسا تشعر بالإستياء من وجود المتطرفين بينها، وإن كان كثيرون في فرنسا لا يدركون ذلك رغم أن بعض الفرنسيين خاصة من الساسة والمحللين وحتى بعض وسائل الإعلام لديهم مشكلة حقيقية مع العرب والإسلام ويساوون بين الأثنين والتطرف، والأمر الأكثر خطورة في الانفصال بين الفرنسيين المسلمين وبقية المجتمع هو أن العزلة ذاتها تولد الشكوك في عقول الجانبين وهذا ما لا يخدم التعايش في فرنسا».
عقدة الإسلام
وتقول كاترين لوفييفغ الصحافية في قناة فرانس 5 أنه «أصبح من الضروري على ساسة فرنسا الآن أكثر من أي وقت مضى تجاوز عقدة الإسلام والمسلمين وإظهار احترام أكبر لمعتنقي هذه الديانة التي تعتبر الثانية في البلاد لضمان التعايش السلمي بين الجميع».
وأضافت « لم يعد مقبولا اليوم أن يتم دوس كرامة الآخرين وعدم احترام ديانتهم وبخاصة الديانة الإسلامية التي أضحت هدفاً لهجوم بلا هوادة. سكان الضواحي في المدن الفرنسية من حقهم العيش في ظروف سكنية تضمن كرامتهم وتشعرهم أنهم فرنسيون من الدرجة الأولى ولديهم كل حقوق وواجبات باقي الفرنسيين، من الأفضل معالجة المسألة بالاستماع إلى الجالية المسلمة وتوفير مقومات العيش الجيد لها وبخاصة المزيد من فرص العمل عوضا عن الاتجاه الفوضوي إلى القوة مباشرة لردع هذه الفئة التي تشعر بالتهميش اجتماعيا واقتصاديا ودينيا كما حدث في مرات عدة».
محمد واموسي