ضمن سلسلة كتاب «تحديث التفكير الديني» التي تصدر عن «مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد»، و»دار التنوير في بيروت»، تحت إشراف المفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي. صدر كتاب: «قوّة الدين في المجال العام»، والكتاب عبارة عن محاضرات ونقاشات أكاديمية لأربعة مفكرين عالميين: يورغن هابرماس: أستاذ وعالم اجتماع ألماني، وجوديث بتلر وكورنيل ويست: أستاذ في جامعة برنستون. وتشارلز تايلور: فيلسوف وأستاذ كندي في العلوم السياسية، وقام بترجمته إلى العربية: فلاح رحيم. وقدم له: إدواردو منديتا، وجوناثان فانانتويربن. ويقع الكتاب في(221) صفحة من القطع المتوسط.
يورغن هابرماس
شارك في هذا الكتاب أربعة فلاسفة كما أسفلت، كل منهم أستاذ كبير مرموق ومثقف معروف على مجال واسع. وهم جميعًا فلاسفة رغم أنهم مضوا بعيداً خارج حدود التخصص الفلسفي الأكاديمي. ولكل واحد أسلوبه الفكري المميز، ومشروعه الفلسفي الخاص، وميدانه التناهجي الرحيب، فضلًا عن التزامه القوي بالمشاركة في الشأن العام. وهم يمثلون بمجموعتهم هذه بعضًا من أكثر الأصوات الفلسفية نفوذًا وأصالة من بين مَن يكتبون اليوم. تغطي مشاغلهم طيف النظرية النقدية بأحدث أشكالها من البراغماتية، وما بعد البنيوية إلى النظرية النسوية، ونظرية العِرق النقدية، والهيرمنيوطيقا، والظاهراتية، وفلسفة اللغة وما هو أبعد من ذلك. وهم يوفّرون لنا عبر مقالاتهم المفردة، وكذلك عبر الحوارات المتبادلة، منطلقًا جديدًا يتعلق بالشأن الذي ظلَّ بالنسبة لكل واحد منهم همّاً دائماً، ونعني به موقع الدين في المجال العامّ.
لقد دشّن يورغن هابرماس في دراسته الرائدة: «التحوّل البنيوي للمجال العام» دراسة المجال العام على نحو مثير وجليّ. وبحسب هابرماس فإن المجال العامّ الذي بدأ بالظهور في القرن الثامن عشر تطوّر بوصفه فضاءً اجتماعيًا متميزًا عن الدولة، والاقتصاد والعائلة، فيه يمكن للأفراد أن يتواصلوا في ما بينهم كمواطنين مستقلين من أجل التداول في الصالح العام. وربّما كان أكثر الوجوه حسمًا في هذه البنية الاجتماعية هو مكانتها بوصفها فضاءً لتقديم الأسباب ومناقشتها، قبولها أو رفضها. ومن الناحية الأسمية كان المجال العام فضاءً مفتوحًا لا تحدّه حدود، يمكن فيه التعبير عن كل الأسباب وسماعها. أما مساهمة هابرماس هنا وأعني (السياسي: المعنى العقلاني لميراث اللاهوت السياسي المريب) ففيها ينتقد عبر نَظَر مدقق في إشكالية «السياسي» والتباسها، التي ترتبط على نحو خاص بعمل كل من كارل شمت وليو شتراوس. ويرى هابرماس أنّ السياسي يمثل صورة المجتمع بوصفه كلّية، و«الحقل الرمزي الذي كوّنت فيه الحضارات الأولى صورة لنفسها»، أما اليوم فإن هذا المفهوم السياسي عفا عليه الزمن، بل صار ارتداديًا. لقد خضع النظام السياسي لقوة التداول الميّالة إلى نزع التعمية في المجال العام. في الواقع لم يعد بالإمكان فهم المجتمع بوصفة كُلّية، والسبب تحديدًا أن تمثيلاته لنفسه صارت اليوم تعددية، وخاضعة للطعن، ومثيرة للجدال.
ويخلص هابرماس إلى أن الممارسات والمنظورات الدينية تبقى تمثّل مصادر أساسية للقيم التي مدّت بالحياة أخلاقيات المواطنة متعددة الثقافات، وهي تفرض التضامن والاحترام المتبادل معًا. ومع ذلك، فلكي تتوفر «الإمكانات الدلالية الحيوية المقبلة من التقاليد الدينية» في متناول الثقافة السياسية الواسعة وعلى نحو خاص داخل المؤسسات الديمقراطية لا بد من ترجمتها إلى لغة علمانية وإلى لغة متاحة للجميع. وهي مهمة لا تقع على عاتق المواطنين المتدينين فحسب، ولكن على عاتق المواطنين المتديّن منهم والعلماني على حد سواء، ممّن ينخرطون في الاستخدام العامّ للعقل.
تشارلز تايلور
وفي الفصل اللاحق، يعترض تشارلز تايلور على هذا المفهوم للعقل العام في مساهمته: لماذا نحتاج إلى تعريف جذري للعلمانية؟ يمضي إلى زعزعة الطرق التي بقينا نفهم بها العلمانية، بينما ينتقد هابرماس بشدة المحاولات الراهنة لتجديد مفهوم «السياسي» ويبدو ميّالًا إلى القول إن الدولة العلمانية الحديثة يمكن أن تمضي في سبيلها، من دون حاجة إلى مفهوم مشابه، فإن تايلور يقترح العكس. فهو يجادل بأنّ المجتمعات الديمقراطية تبقى منظمة على أساس «فلسفة تمدن» قوية، وهو مفهوم معياري يرتبط بما سماه «النظام الأخلاقي الحديث». وقد استقصى تايلور بعمق صعود المفهوم الخاص بالنظام الأخلاقي الحديث، وتشكّله في أعماله المعاصرة، ابتداءً من كتاب تحت عنوان: «التخييلات الاجتماعية الحديثة»، ثم في كتابه البارز: «عصر العلمانية». ويذهب تايلور إلى أن التخييلات الاجتماعية الحديثة تُشكّل وتتشكل بوساطة النظام الأخلاقي، وهي لا تتمثل مجموعة من الأفكار، بل ما يجعل ممارسات المجتمع متاحة عبر استخلاص معنى منها.
يرى تايلور أن فكرة وجوب أن تتعامل العلمانية مع الدين بوصفه حالة خاصة ناشئة في معظمها من تاريخ العلمانية في الغرب، وتحديدًا من نشوئها في سياقين تأسيسيين مهمين في الولايات المتحدة وفرنسا، كان للمسيحية فيهما دور بالغ – رغم الاختلاف في كل منها- . كما يعتقد أن للهوس في الدين جذورًا إبستيمولوجية أعمق في «أسطورة» التنوير المتواصلة أيضًا، وهي أسطورة تعزل العقل المتشكل على نحو لا ديني جانبًا، بوصفه يستحق مكانة خاصة ومتميزة، بينما ترى النتائج ذات السند الديني أنها «مريبة، وهي لا تكون مقنعة في نهاية المطاف إلا لمَن يقبل بالفعل العقائد المعنية». بدلًا من فهم العلمانية الذي يرتكز على الدين بوصفة مشكلة محورية، يقدم تايلور مفهومًا بديلًا يفهم بصيغة التوازن أو التنسيق بين دعاوى المصالح المختلفة التي تعدّها المجتمعات الديمقراطية أساسية. ويقترح أننا نستطيع فهم هذه المصالح الأساسية بصيغة العديد من التوسعات أو القراءات للقيم الثلاث المعلنة للثورة الفرنسية: الحرية، المساواة، الأخوة. ويخلص تايلور إلى أن الأنظمة التي تستحق صفة علمانية لا بدَّ أن تُفهم ليس بوصفها «متاريس ضد الدين»، ولكن بوصفها تلك التي تستجيب على نحو مبدئي إلى التنوع الداخلي الذي لا مرد له للمجتمعات الحديثة، وهو ينمو بإطراد. إنّ الاستجابات المناسبة لمثل هذا التنوع، لا بدَّ لها أن تسعى إلى الإعلاء من قيمة الأهداف الأساسية في الحرية والمساواة بين العقائد، مُلزمة أن تختص بسياقاتها. هناك حاجة للموازنة بين حرية الضمير والمساواة في الاحترام، وخصوصًا بما لا يحدّ على نحو لا حاجة لنا به من الحريات الدينية للأقليات المهاجرة التي عُدّت ممارستها الدينية في بعض الحالات خرقًا للقواعد العلمانية.
جوديث بتلر
يعقب ذلك مساهمة جوديث بتلر التي توجّه الأنظار إلى تعددية المفاهيم الدينية عن الحياة العامة، أن المجال العام نفسه هو نتيجة لتقاليد دينية معينة ساعدت على تأسيس مجموعة من المعايير التي تضع الحدود بين العام والخاص. وبهذا الشكل فإن العلمانية قد لا تسبب زوال الدين، بل هي في الواقع قد تكون منفذًا يتيح للدين البقاء. تنقلنا هذه الملاحظات المتحدية والمتنورة بعدها لتساؤل أكثر تحديدًا بكثير: التوتر الذي يبدأ بالظهور بين الدين والحياة العامة عندما يُعد النقد العام لعنف دولة إسرائيل معاداة للسامية أو معاداة لليهود على حدّ وصفها. تنطلق بتلر وهي تأخذ هذا المطلب الأخلاقي المحدد بنظر الاعتبار، إلى رسم معالم مبدأ أخلاقي يهودي يتعلق بالمنفى ونزع الملكية، يحتل المركز منه مفهوم التعايش المشترك. وهي تجادل أنْ تعد لاجئًا على الدوام يعني أن تواجه دائمَا هشاشة عيشك. عندها فقط تبرق حقيقة الوضع الإنساني، الحقيقة القائلة تحديدًا إن كل تعايش هو تعايش مشترك على الدوام وهو هش على الدوام. وتؤكد بتلر، معتمدةً تقاليد الشتات داخل اليهودية، من أجل إعادة الحيوية إلى مثال التعايش المشترك، الذي يسبقُ أيّ إمكانية لوجود جماعة أو أمة محلّه أن تسعى إلى تقرير مع مَن تمارس التعايش المشترك، هو إذن سعي إلى تعطيل شرط أساس من شروط الوجود الاجتماعي والسياسي. وبهذا يشكل مثال التعايش المشترك وواقعيته الأساسية الأساس الأخلاقي للنقد العام لعنف إسرائيل، وهو يمثل الجانب الآخر لنزع الملكية الأساسي الذي يميز ممارسة الفاعلين الواهنة والمؤذية.
كورنيل ويست
آخر مساهمات هذا الكتاب، يقدمها مثقف معروف وناقد ثقافي ساهم في تشكيل المجال العامّ وتشكّل به، أنه كورنيل ويست. وقد أشار هابرماس إلى ويست بوصفه شريكًا مثاليًا في الحوار. والواقع أنّ ويست غيّر معنى كلمة « العام» في مصطلح المثقف العام عبر دوره كرمز ثقافي، وفيلسوف للكلمة المنطقة. تذكرنا مساهمة ويست بأهمية أن نكون منفتحين على مختلف أنواع الخطاب، وعلى الحجج التي تفحمنا. ويؤكد ويست على المثقفين زيادة إحساسهم الديني، كما أن علينا السعي إلى توسيع مجال التقمص والتخييل في الحوار بين الأخوة والأخوات العلمانيين الملحدين واللاأدريين والمتدينيين. إن ما يجعل مساهمة ويست متميزة وقوية هو انه يجسد قوة الصوت المتدين في المجال العامّ. وبدلًا من تقديم نص فلسفي، أو تعليق تحليلي اجتماعي، أو حتى إعادة تكوين هرمنطيقية، فإن ويست يقدّم ترجمة مقتدرة وماهرة بين هذه التقاليد واللغات ممّا يمنح مادة وكثافة للمجال العام. إن ويست يقدم دعواه المؤثرة عبر اعتماد النغمة الهادئة مع لازمة موسيقية تتنوع خلفيتها من الفلسفة والشعر إلى الكتاب المقدس والأغنية، وهي دعوى إلى إدراك قوة الديني في حياتنا. وهذه القوة تنبعث من التقاليد الدينية المتميزة التي تخدمنا بوصفها خزائن للذاكرة الثقافية، وكذلك أطروحات موجزة. يرى ويست أن المنظورات الدينية التي تبرز «اللمسة النبوية» تزوّدنا برؤى أخلاقية متميزة، وبَوْصلات نتعقب بها البؤس واليأس الإنسانيين في عالمنا، وقوة تقمّص وتخييل تواجه قوى الهيمنة التي لا تكفّ عن الاشتغال.
كريغ كالهون
يعقب مساهمة ويست حوار قصير بين بتلر وويست، ومناقشة ختامية بين المشاركين الأربعة، ثم كلمة ختامية أخيرة لكريغ كالهون. وكالهون رئيس مركز بحوث العلوم الاجتماعية في مدينة نيويورك، ومدير معهد المعرفة العامة في جامعة نيويورك، أستاذ معروف في مجال التناهج ومتابع نابه للدين. يناقش الموقع المحدد الذي يحتله الدين في المجال الأمريكي العام قبل أن ينتقل إلى نظرة موجزة ودقيقة عن كل واحد من الفصول الأربعة. والمنظر الذي يقدمه كالهون تاريخي ونظري في آن واحد. وهو يقول إن بروز الدين في المجال العام، ظل ملمحًا مهمًا في لحياة العام في أمريكا، حتى إنّ ظلت الجدالات التي يثيرها مصدرًا للارتباك والنزاع الدائم. والواقع أن كالهون ينسج سردًا تاريخيًا وعابرًا للثقافات غنيًا بصدد المساهمات المستمرة للدين في الجدالات والحركات الثقافية، والسياسية والاجتماعية والفلسفية المعاصرة. فهو يبيّن جدلًا يصبح منتجًا بين العلمنة والحيوية الدينية. ويخلص كالهون إلى أن الحيوية المعقدة والمتناقشة للدين لا يمكن، وربّما لا يجب أن يتم استيعابها بسهولة في المجال العام. ومع ذلك فإن قوة الدين سواء بدت تهديدًا أو إلهامًا، قناعة تخلو من التدبر، أو تحديًا نبويًا، فإنها تستلزم الاهتمام النقدي وتستحقه.
كلمة أخيرة:
يعتبر كتاب: «قوة الدين في المجال العامّ»، إضافة نوعية إلى المكتبة العربية بعامّة، والعراقيّة خاصة، وتأتي أهميته لأمور عديدة، منها: تنوع الأسماء المشاركة في إنجازه وفاعليتها الثقافية في مجتمعها وفضائها الأكاديمي. حاجة القارئ العربيّ التعرف إلى قراءة الآخر حول العلاقة الجدلية بين الدين/ المؤسسة الدينية والمجتمع / الدولة، فقد ظلت هذه العلاقة ملتبسة في كثير من ملامحها، نظرًا لظروف كثيرة تتعلق بطبيعة المجتمع الإسلامي من جهة، وتمظهرات الدين في الحياة من جهة أخرى.
ليس الدين شأنًا خاصًّا، ولا هو موسوم باللاعقلانية البحتة. كما أن المجال العام ليس ميداناً يسود فيه التفكير العقلاني، ولا هو فضاء من التوافق الطوعي. ومع ذلك فإن هذه الأفكار الدالة على سوء فهم كل من الدين والحياة العامّة ظلت سائدة لوقت طويل، ربّما داخل الحلقات الأكاديمية على نحو خاص. لكن السنوات الأخيرة بدأت تشهد، في غمرة انبعاث واسع للتركيز على الأهمية العامّة للدين، مساهمات فكرية تزداد عمقاً، تتحدانا وتدفعنا إلى إعادة النظر في المقولات الأساسية في البحث، والتحليل، والنقد.
باحث عراقي
عدنان الهلاليّ