«أرض الغريب» الكاميرا بطل العمل السينمائي الأوّل ونيكول كيدمان ممثلة امتهنت تصوير الشخصيّات المعقدة نفسياً

حجم الخط
0

بيروت ـ «القدس العربي»: بدأ الحديث عن فيلم «أرض الغريب Stranger Land» منذ عام 2013، إلاّ أنّ التحضير للفيلم الضخم «غريس أميرة موناكو» 2014 أخّر العمل، وسرق اهتمام متابعي ملكته نيكول كيدمان. من جهتها ربما لم تعبأ كيدمان كثيراً بمتابعة ما قيل ويُقال عن الفيلم الذي لم ينل مباركة تامّة من عائلة أميرة «موناكو» الراحلة الممثلة الأمريكية غريس كيلي، فقدمت كيدمان في العام ذاته مع المخرج «روان جوفي» فيلم «before I go to sleep- (قبل أن أذهب إلى النوم) المأخوذ عن رواية «سي. جي. واتسون» الصادرة عام 2011.
ومؤخراً بدأت العروض العالمية لفيلم الدراما والتشويق «أرض الغريب»، من توقيع المخرجة الاسترالية كيم فارانت وسيناريو مشترك بين مايكل كينيرونز وفيونا سيرس.

ملكة الدراما النفسانيّة:

ربما لم يكن جمال كيدمان الخاص والبارز كافياً مع أناقتها الخاصة لتنصيبها «أميرة موناكو» في الفيلم، الذي حمل العنوان ذاته، إلاّ أنّ المتابع لأعمال كيدمان سيلحظ أنّ الأدوار الواضحة ليست مجالها القوي، ونذكر على سبيل المثال «Bewitched»- 2005 أو فيلم «Practical Magic» 1998، الذي تألقت فيه زميلتها ساندرا بولوك، رغم فتنة كيدمان الشكليّة الطاغية في الفيلم. يقابل هذا قائمة طويلة من الأعمال التي ترتكز شخصياتها إلى عميق نفساني، وبُنيّة معقدة عموماً، اكتشفت كيدمان راحتها في هذه الشخصيات مع اختيار المخرج الأمريكي ستانلي كوبريك لها لدور البطولة في آخر أفلامه «Eyes Wide Shut» 1999 الذي أثار جدلاً واسعاً وحقق إيرادات ضخمة تجاوزت (160) مليون دولار آنذاك، وسمح للعالم باكتشاف كيدمان، التي نالت بعد ثلاثة أعوام فقط «أوسكار» أفضل ممثلة عن دورها لشخصيّة الكاتبة البريطانية فرجيينا وولف في فيلم «الساعات» (The Hours)، وقبله أوّل ترشيح لها لجائزة النقاد والصحافيين الأمريكيين «الغولدن غلوب» عام 2002 عن فيلم الرعب «The Others» الذي يتناول حكاية أم تحاول حماية طفليها من الأشباح في قصر ضخم لا يزوره أحد، ولا يقطن فيه سوى العائلة وبعض الخدم، لنكتشف في النهاية أنّ الأم وطفليها اللذين قتلتهما في لحظة انهيار عصبي حاد هما الأشباح.
«Dogville» الفيلم الذي حاول مخرجه الإشكالي لارس فون تراير «مَسرحة السينما»- إن صح القول- كان ثالث أعمالها التي ترتكز إلى ثقل درامي نفساني في شخصية البطل، أتبعته بأفلام مثل «The Human Stain» مع الممثل أنطوني هوبكنز عام 2003، وأدّت فيه دور الفتاة الهاربة من حياة فقدت فيها ولدها نتيجة عنف زوجها، إلى حياة ليست أفضل بقسوتها، لكنها تجد في الرجل الذي يكبرها بسنوات ولا تقل حياته ألماً عن حياتها ملاذاً لبعض الوقت، وكأنّها تسرق من الحياة حلماً لا أكثر.
«Fur» عام 2006، «The Paperboy» عام 2012 ومن ثمّ «Stoker» عام 2013 أفلام قدّمت كيدمان في الإطار ذاته، لكن لكل منها تميّزها، الزوجة الهادئة في الأول، العشقية المُغوية في الثاني، والأم الباردة الأنانيّة في الثالث، تخطو كيدمان مع «أرض الغريب» إلى الأمام نحو التغيّر في التعبير النفسي وتطوّر الأداء الذي قد يخال المتابع أنّ كيدمان لن تنجح في تجاوز ما قدّمته في «الساعات» نظراً لغنى شخصية وولف أساساً.
هي ليست المرّة الأولى التي تتخلى فيها كيدمان عن أناقتها على الشاشة، لكن ربما تكون الأولى التي لا تهتم كثيراً بإظهار جمالها كمؤثّر درامي مُساعد، هنا نشاهد كيدمان التي تشّردت في صحراء إحدى المناطق الاسترالية ليوم وليلة وقد انهارت وهي تبحث عن ابنتها الضائعة «ليلي» ذات الخمسة عشر عاماً، تظهر لنا بجروحها وشعرها القذر ووجه شبه خالٍ من مساحيق التجميل، وجسدٍ عار/ في الواقع هو شبه عارٍ. أجل هي كيدمان التي عُرفت منذ اللقطة الأولى في فيلم « Eyes Wide Shut» بجرأتها الكبيرة، إلاّ أنّ الفارق الأساسي اليوم ليس فقط في قوّة كيدمان بإظهار جسد امرأة لم تعد تلك العشرينية التي أذهلت الجمهور بجمالها في فيلم «كوبريك»، وإنّما هو تموضع هذا الجسد، فنحن، المشاهدين، إن نظرنا إلى عُري جسد كيدمان سنكون كما سكان القرية الصغيرة التي تقطنها مع زوجها ماثيو باركر بعد أن غادروا مسكنهم السابق نتيجة تعرّض ابنتهم لتحرّش مدرسها وتورّطها في مجموعة علاقات عاطفيّة إثر الحادث، سننظر إلى جسد المرأة، كما فعل جيرانها من دون أن يسرع أيّ منهم لتغطيتها، ولن نكون ناظرين إلى أم مُنهارة بعد تجربة قاسية ليس فقط لليلتها في الصحراء بل تجربتها الحياتية المُعقدة مع زوجها وابنتها المستمرة منذ سنوات. سندرك أنّ وحشية الصحراء تسكن فينا، نعكسها في ذاك المدى المفتوح والمتنوّع على حيوات بريّة مختلفة لكنها ليست بالضرورة وحشة كامنة فيه، إذ ربما تكون النفس الإنسانيّة أكثر قسوة وتعقيداً بكثير وأقلّ غنى كذلك.
«ليلي» فتاة جميلة، تبدو بواسطة المكياج والإضاءة شديدة البياض مقارنة مع محيطها البشري وفضاء المكان الذي صبغته الريح ورمال الصحراء ولوحته شمسها بلونٍ أصفر باهت، تغادر ذاك المكان ولا نعلم أبداً هل نجحت في هروبها؟ أم أنّها تعرّضت لأذى أنهى حياتها، يقول صوت في نهاية الفيلم: (أنا لست ضائعة) في مكان ما في الهواء، في الظل، هي ترتاح. في مقابل رحلة «ليلي» إلى خارج ذلك العالم تغرق والدتها «كاثرين» في رحلة بحث داخلية، تحاول التصالح مع سنوات من الأفكار غير المنطوقة التي تراكمت في حياتها الأسريّة خاصة في علاقتها مع زوجها كطبقات من الرمل، في المشهد الأخير تجلس «كاثرين» على شرفة منزلها وتنظر إلى السماء، وبياض يُنير وجهها، لقد رحلت ابنتها لكن في نهاية الرحلة هي استعادت نفسها وما تبقى من عائلتها.

سلسة لوحات فنيّة:

طوال (112) دقيقة أدار P.J. Dillon كاميرا التصوير مُصمماً عامل نجاح الفيلم الأساسي، فإن كانت «كيدمان» قد نحت إلى الأمام قليلاً في تقنياتها كممثلة امتهنت تصوير الشخصيات النفسيّة المعقدة والمضطربة، فإنّ ديلون صنع بقيادة فارانت إخراجاً ومشاركة فيرونيكا جينيت مونتاجاً فيلماً هو سلسلة من لوحات التصوير السينمائي، تروي بنفسها تلك العلاقة الخاصة مع الصحراء التي يحاول الفيلم عرضها والتعامل معها.
إنجاز كبير يُحققه ديلون في تناول موضوع اشتهرت السينما الأمريكية بعرضه طوال سنوات عبر أفلام «رعاة البقر» ألا وهي الصحراء، بالإضافة إلى مجموعة التجارب الاستشراقية العديدة، إلاّ أنّنا هنا أمام مصوّر سينمائي ليس متمكناً من أدواته فقط، بل هو قادر على تشكيلها كمجموعة لوحات مستقلة تكاد تنسي المشاهد أنّه في بُنيّة دراميّة سينمائيّة تتطلّب مونتاجاً خاصاً. بين فضاء الصحراء الواسع وضيق الداخل السكني يبني ديلون متلازمة لا تنتهي إلاّ بجلوس كاثرين على الشرفة تنظر إلى المدى المفتوح أمامها، يوسّع ديلون كادر كاميرته للمرّة الأولى لتخلق هذا الإحساس، وهو الذي كان قادراً على ضبط إيقاع مشهد عبورها في ساحة القرية، أو مشهد ساحة لعب المراهقين لتبدو جميعها أماكن ضيقة، صغيرة، وكأنّها الباحة الخلفيّة لمكان أوسع لا أكثر، كأنّها الهامش لمتن أكبر بكثير.
أجل في معظم المشاهد أناس وسط هذه الصحراء، يحاولون العيش، يبحثون عن الفتاة المفقودة وأخيها الصغير، لكن ديلون الذي يستعين بلقطات عديدة من السماء كان قادراً على إظهار تواضعهم أمام عظمة الصحراء وكأنهم حبل نملٍ صغير لا أكثر.
مُتأثراً بالسكان الأصليين، باحترام كبير، ينتمي ديلون فنيّاً إلى عالم الصحراء بانسجامٍ كُليّ مع رؤية المخرجة التي استعانت بموسيقى فيها الكثير من ثقافة السكان الأصليين، الذين لا يغيبون حتى عن بُنيّة العمل الدراميّة، فعلى لسان إحدى الجدات من السكان الأصليين حين تتوسل إليها كاثرين لمساعدتها نسمع عبارة: (إنّها الأرض)، الأرض التي يجد ماثيو ولده الضائعة بعد أن يستسلم لها، وكذلك تجد كاثرين نفسها بعد رحلتها وحيدة في هذه الصحراء.

يارا بدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية