أصدقاء الدلافين ورجال البحر.. السعداء بالعيش في عزلة بين البحر والصحراء

حجم الخط
1

نواكشوط – «القدس العربي»: بكرت بنا سيارة الـ «للاند كروزر» بكور الطير من العاصمة الموريتانية نواكشوط، فجعلت جناحها على شاطئ المحيط الأطلسي وتركت الجناح الآخر يلامس عن بعد الكثبان الرملية البيضاء التي تذروها رياح البحر في شتى الاتجاهات على مدار الساعة بلا هدوء.
إنها رحلة شاقة لكنها ممتعة، فأمواج البحر تضرب جوانب السيارة ونسيم بحري بارد ممزوج بروائح السمك المتعفن يهب ليزكم الأنوف.
«هذه ضريبة، يقول سالم سائقنا ودليلنا، لا بد أن يدفعها كل من يريد استكشاف وتفقد قرى صيادي «إيمراغن» رجال البحر الذين يتخذون من البحر وأمواجه وخيراته، مجالا لمعاشهم فيصارعون أمواجه منذ الفجر حتى منتصف الليل، ممتطين كالفرسان، متون مراكبهم وهم يجرجرون شباكهم العجيبة.

أصدقاء الدلافين

تشغل هذه القرى مساحة تمتد على مدى 200 ميل هي طول محمية «حوض آرغين» الموريتانية التي تغطي مساحة تزيد على 1800 كلم مربع والتي هي مصنفة ضمن التراث الإنساني.
«هذه هي قرى إيمراغن» بل هؤلاء هم «إيمراغن» أنفسهم»، يقول سالم سائق سيارتنا ودليلنا في رحلة سبر أغوار هذه المجموعة الغريبة التي ربط أفرادها وبالتوارث، صداقات تعارف مع ساكنة البحر حتى أنهم يتكلمون لغة الدلافين ويبادلونها الصفير، ويفهمون همهمة الأسماك وتصفيرها ويفكون رموزها.
لسكان «إيمراغن» عاداتهم التي لم تتغير منذ قرون فهم يعيشون في مواجهة البحر وعلى خيرات البحر فمنها يتغذون ومنها يتعالجون ومن بيع منتوجاته يحصلون على مستلزمات الحياة الأخرى؛ إنهم «هم البحر والبحر هو هم»، كما أكد ذلك الدارسون لأوضاعهم.

علاقات مع أسراب الطيور

ولمجموعة «إيمراغن» ( أي رجال البحر باللهجة القديمة)، علاقات أخرى مع الطيور المستوطنة لحوض آرغين مأوى أكبر تجمع للطيور المائية في غرب إفريقيا حيث يستوطنه 50 ألف زوج من الطيور منحدرة من 18 نوعا.
في كل صباح شتوي يهجم الآلاف من الطيور على مياه «آرغين» فتهوي الطيور بأجنحتها على الماء لالتقاط طعامها بمناقيرها العملاقة، كلما كشف لها المد والجزر عن أغوار وأسرار المحيط.
في سحابة صاخبة تلامس سطح الماء بسرعة عالية، كنا نميز خطاف البحر والزقزاق وطائر أبو ملعقة إلى جانب النحام والغاق والبجع وأنواعا أخرى يقارب عددها المئتي نوع وتضم أكثر من مليوني طائر بحري.
كل هذه الآلاف من الطيور اعتادت أن تأوي للتكاثر وللغذاء إلى السواحل الموريتانية ذات المواصفات البيئية المناسبة لها في الفترة ما بين تموز/يوليو واذار/مارس من كل عام.
كل هذه الجيوش الطائرة تتفاعل في حديقة حوض آرغين التي تحتل ثلث سواحل موريتانيا، ممتدة على مساحة تعادل مساحة لبنان، ومستندة على بحر آخر من الكثبان الرملية المتحركة.
طيور غريبة ووفرة استثنائية في المواد الغذائية تجتمع هنا، ولكل نوع من أنواع هذه الطــيور عاداته في مواسم الهجرة وفـي التكاثر مما يحول حديقة حوض آرغين إلى واحدة من المواقع الأسطورية في العالم.
تعيش هذه الطيور إلى جانب مجموعة صيادي «إيمراغن» الذين يقطنون قرى صغيرة ذات أكواخ خشبية متهالكة في مناطق رأس تمريس وإويك وآركيس والرأس الأبيض.

تمسك بالعادات

يقول سيدي الطيب وهو باحث موريتاني متابع لتاريخ المنطقة «.. تتداخل الجغرافيا مع التاريخ في منطقة «آرغين» التي يعود تاريخها إلى أكثر من عشرة آلاف سنة شهدت خلالها حضارات متعاقبة لا تزال بعض آثارها ماثلة للعيان تحكي قصة من كانوا هنا».
وعن ملامح السكان يقول الباحث «عندما تتأمل ملامح سكان المحمية (إيمراغن) تقرأ من قسمات وجوههم أروع روايات التعايش الحميمي بين الإنسان والطبيعة حيث يشكل الإنسان هنا عنصراً في معادلة عناصرها الأخرى البحر والصحراء والطيور والأسماك».
لم تهدأ الحرب بين مجموعة «إيمراغن» وبين المستكشفين الغربيين الذين تكالبوا على المنطقة قبل عدة قرون بعد أن أدركوا قيمتها الاقتصادية الهائلة، فقد بسط كل من البرتغاليين والأسبان والفرنسيين والهولنديين والبريطانيين سيطرتهم في مراحل متلاحقة على أجزاء من المنطقة.
«كان سكان «إيمراغن»، يضيف الباحث، مرغمين على التعامل التجاري مع كل المستعمرين لكنهم لم يتأثروا بأنماط حياة المستكشفين، بل ظلوا متشبثين بعاداتهم وتقاليدهم التي تتسم في أغلبها بالغرابة، كما ظلوا يعتمدون في غذائهم على صيد الأسماك بالطرق التقليدية، وهم يرتبطون بصداقة حميمية مع الدلافين التي توجد بأعداد كبيرة، وبموجب هذه الصداقة يسوق الدلافين أعدادا هائلة من الأسماك من أعماق البحر إلى الشاطئ حيث ينتظرها صيادو «إيمراغن» بفارغ الصبر.

طقوس الصيد

عملية الاصطياد هذه لها طقوس خاصة لا يريد الإيمراغيون الإفصاح عنها من أغربها أنهم يرمون شباكهم على الشاطئ و يبدأون بضرب الموجات الشاطئية بالعصي مشكلين طابورا هلاليا.
وتصحب هذا الضرب المنتظم حركات خاصة وأهازيج مبهمة فسرها البعض أنها تطرب الدلافين فتسوق معها الأسماك نحو شباك «إيمراغن». وإذا كان يصدق على هؤلاء القول الشائع أنه لا رجال إلا رجال البحر فإن الإيمراغيين يعتقدون أنه لا نساء إلا نساء الإيمراغن فهن اللواتي يباشرن جميع الأعمال اليدوية خصوصا المتعلقة بتجفيف وتشريح الأسماك.
يقول الباحث سيدي الطيب «من أغرب العادات لدى الإيمراغن حظر قدوم المرأة إلى الشاطئ لأن ذلك في اعتقاداتهم، يغضب البحر غضبا شديدا فيضن بخيراته ويحطم الزوارق الموجودة قيد الإبحار».
يترصد صيادو «إيمراغن» الأسماك بمهارة عالية وعند ملاحظة أي سرب يقترب من الشاطئ، يحاصره الصيادون المتحفزون بشبابيكهم التقليدية فيملئونها ليعودوا بها فيبدأ دور النسوة اللواتي عرفن بكفاءتهن العالية في معالجة الأسماك وتجفيفها، ولديهن خبرة كبيرة في معرفة القيمة الغذائية لكل سمكة وإمكانية بقاء لحمها صالحا للاستعمال بعد التجفيف، كما يقمن باستخلاص الدهن من تلك الأسماك، واستخراج البيض منها.
ينعزل صيادو «إيمراغن» في منطقة حوض آرغين وهم يواجهون بيئة قاسية ..فهؤلاء الصيادون متشبثون بنمط من الحياة قديم في ممارساته وأهدافه حيث أنهم يشركون الدلافين في عمليات صيدهم الجماعية، ومع ذلك فقد أصبحوا يسعون لتطوير أساليب صيدهم باستخدام القوارب ذات المحركات التي اكتشفوا أنها تمنحهم فرصة استغلال للوقت وفرصة الوصول لمواقع بعيدة للغاية. وما زال الكثيرون يستغربون أنماط صيدهم وطرق عيشهم وحياتهم، فمن هم «إيمراغن» هؤلاء الذين يعيشون معزولين ومهمشين على شواطئ الأطلسي حيث تذوب الكثبان الرملية؟

هجرات وأعراق وتاريخ

تجزم المراجع التاريخية على أن مجموعة إيمراغن التي لا يتجاوز عددها اليوم ألف نسمة، هي حصيلة هجرات لأعراق عدة التقت منذ القدم على شاطئ الأطلسي حيث خيرات الخير توفر وسائل العيش بشكل مبسط ومفيد.
وتؤكد المصادر أن «إيمراغن» هم قوم سود وصلوا إلى شواطئ الأطلسي قبل وصول قبائل صنهاجة البربرية ثم اختلطوا عبر التاريخ بهذه القبائل .. ثم كان أن طردتهم أبعد في عمق المحيط، هجرات القبائل العربية التي انتشرت في الصحراء الكبرى وحكمت مناطق وجودهم..ثم جاءت عملية إبعادهم الثانية عام 1728 م عندما دمر الفرنسيون الغزاة مرسى آرغين الذي كان يشكل نقطة ربط على المحيط لتجارة العبيد.
وحدث خلال هذه الفترة اختلاط كبير للأعراق قبل أن تستقر مجموعة الإيمراغن معزولة في المنطقة الواقعة بين نواكشوط (موريتانيا) والداخلة (الصحراء الغربية).
وبالنظر لواقع العزلة الذي عاشوه منذ زمن بعيد فقد احتفظت مجموعة «إيمراغن» بنمط حياتها القديم واقتصرت أنشطتها على ممارسة الصيد.

سمكة عن كل شخص كل يوم

ظلت مجموعة «إيمراغن» على مدى سنوات مضت، تابعة لقبائل البيضان التي تسيطر على سواحل الأطلسي؛ ومقابل الحماية والتأمين يدفع أرقاء إيمراغن المحررون سمكة كل يوم عن كل فرد منهم للقبائل الحاكمة، أما الأرقاء منهم فيدفعون للأسياد كل منتجاتهم ويحتفظون فقط بما يكفي لمؤونتهم.
ومع أن هذه العادة الاستغلالية قد اختفت الآن إلا أنها شكلت عائقا اجتماعيا مستديما أمام مجموعة «إيمراغن» حيث لم يتمكنوا لحد الساعة من تنظيم حياتهم والتفكير في مستقبلهم.

بين الصحراء والبحر

تتألف الحديقة الوطنية لحوض آرغين المؤسسة رسميا عام 1970 من ست قرى يقطنها صيادو «إيمراغن»، وتعتبر قرية آغادير الأقصى موقعا إلى الشمال ثم قرية نوامغار وهي أكبر القرى وتقع على اللسان الرملي لرأس تيمريس الذي يغلق الحديقة من الجنوب، ثم تتناثر قرى اجريف وميرات وتيوليت ولمسيد وبلواش على الشاطيء.
تشمل هذه القرى الإحدى عشرة حوالي 1500 نسمة يشكلون 10 في المئة تقريبا من مجموع الصيادين التقليديين الموريتانيين ..ومع أن عددهم قليل إلا أن أدوارهم كبيرة للغاية في الأنشطة الشاطئية لموريتانيا..ويتعايش هؤلاء بانسجام مع الجفاف المحيط بهم..إنهم يعيشون على قديد السمك البوري بالأساس وقد يغلى هذا السمك في ماء البحر أو يجفف وقد يشوى على الحطب أحيانا. وتحصل القرى الأقرب إلى العاصمة نواكشوط على ضروراتها من الأرز والسكر والخضروات إلا أن نمط حياتهم لم يتغير كثيرا عما كان عليه منذ عقود مضت، فهم يعيشون على الشاطئ بعيدين عن المراكز الحضرية الكبرى التي تربطهم بها طرق بالغة الوعورة. وتتوفر قرى إيمراغن الجنوبية على خدمات النقل بواسطة السيارات والشاحنات التي تتحرك من نواكشوط إلى نواذيبو جيئة وذهابا على الطريق المحاذي للشاطئ حيث تتناثر قرى ايمراغن.

معضلة ماء الشرب

ظل التمون بالماء الشروب المشكلة الأساسية لمجموعة ايمراغن وقد حاولت الحكومات المتعاقبة تنفيذ مشروعات لتحلية مياه البحر لتوفر لهم الماء الشروب إلا أن أيا من تلك المشاريع لم ينجح بالشكل اللازم المستديم.. ولضمان انتظام التمون بالماء، خصص ايمراغن غالب دخلهم لشراء الماء وتوفيره بشكل دائم رغم المصاعب.
ومع أن النشاط الأبرز لمجموعة «ايمراغن» كان مرتكزا على صيد سمك البوري وانتزاع بيضه فقد أصبح النشاط الآن يتجه لصيد العينات البحرية في مناطق العمق مثل الهامور والشبوط والشريط الأرقط، وتوفر زعانف أسماك القرش مداخيل هامة للغاية.
ويعيش غالب سكان قرى إيمراغن في أعرشة من القش ما عدا سكان قرية انوامغار الذين يتوفرون على منازل من الأسمنت؛ وتوجه السلطات اليوم مشاريع تنموية متعددة نحو منطقة ايمراغن نظرا لأهمية أدوارهم في محافظة البيئة ولتمكينهم من الاستمرار.

انسجام مع البحر

أدركت المنظمات الدولية لحماية البيئة أهمية أدوار الحماية التي يوفرها صيادو ايمراغن لعينات الطيور المهاجرة والأسماك النادرة التي تتخذ من منطقة حوض آرغين موقعا للتكاثر، فايمراغن يعرفون كل عينة من هذه الأحياء المائية ويدركون الطريقة التي يصطادون بها دون أن يستنزفوا الأسماك..
ويتشبث ايمراغن بمنطقة حوض آرغين وهم يرفضون تركها مصرين على البقاء في هذا الوسط الذي عرفوه وعرفهم والذي يعيشون في انسجام تام معه منذ قرون خلت.

عبد الله مولود

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول nadiafadel -Jordan:

    ما اروع التعايش مع الحيوان والطير والاحياء في البحار والمحيطات خصوصا مع المخلوقات الرائعة الدلافين والحيتان … هذه محمية من محميات الجنة الله يديم نعمة الاستقرار عليها وعلى انسانها الراقي بانسانيته .

اشترك في قائمتنا البريدية